استدارة تركية جديدة نحو الغرب!!

استدارة تركية جديدة نحو الغرب!!

فجأة هكذا –ومن دون مقدمات- برزت لدى رئيس النظام التركي رجب أردوغان نزعة بدت للوهلة الأولى وكأنها تأتي في سياقات خارجة عن تلك المعتمدة من هذا الأخير منذ أن طغت نزعة التمدد العثمانية لديه، والتي يمكن لحظها بوضوح ملموس أقله منذ ربيع العام 2015 فصاعداً.

ما نقصد به بنزعة أردوغان الجديدة هنا هو ميله نحو ترميم علاقته مع الاتحاد الأوربي التي شابها في غضون السنوات الخمس الماضية الكثير مما حفلت به سجلات العلاقة بين الطرفين، بدءاً من استهداف سورية وليبيا، ومروراً بمسعى يهدف إلى إذكاء النار في بحري إيجة وشرق المتوسط ومعهما مؤخراً جنوب القوقاز، ثم وصولاً إلى التهديدات التي كان يجري إطلاقها من حين لآخر، تبعاً لحالة الاحتياج السياسي والاقتصادي بشكل هو أقرب إلى فعل الابتزاز منه إلى أي فعل آخر، وهي في مضامينها كانت تشي بإمكان ترك الحبل على غاربه لأمواج اللاجئين لطرق أبواب أوروبا، مع كل ما يمثل هذا الفعل من تهديدات تراها الأخيرة على أنها تطول عمق أمنها بمختلف جوانبه.

من المستبعد أن يكون أردوغان غير مدرك لحقيقة أن إطلاق التصريحات التي تحمل ميلاً للتقارب، أو التي يصح توصيفها كمحاولة لفتح صفحة جديدة مع الأوربيين هو فعل غير مكتمل، بمعنى أن السياسات لا يمكن أن تبنى على أقوال من هذا النوع، وإنما تبنى على الوقائع التي يجب أن تحمل بين ثناياها عوامل عدة مثل لحظ مصالح الطرف الآخر، ثم مساعي إثبات حسن النيات، مع إشهار لا يدانيه شك بأن ذلك الميل يمثل تحولاً في رسم الخيارات الجديدة لا عودة عنه تحت أي ظرف من الظروف، نقول من المستبعد أن أردوغان لا يدرك ذلك كله، فلماذا إذا ذهب إلى مغازلة أوروبا من جديد؟

مر الاقتصاد التركي في العام 2020 بحال من التردي، وهي حال لا تزال تهدد بتتالي فصولها لتشهد أخرى أشد قسوة، وهي ليست مسبوقة منذ وصول حزب “العدالة والتنمية” إلى السلطة في العام 2002، حتى إن هذا الأخير كان قد ابتنى “مشروعيته” في جزء كبير منها على “بحبوحة” اقتصادية عاشتها البلاد ما بعد هذا التاريخ الأخير، مع العلم أن الحزب -أي “العدالة والتنمية”- لم يكن صانعها بل قاطف ثمارها فحسب، إذ لا يعقل أن تنجح أي سياسات اقتصادية، مهما تكن القدرات التي تتحكم بها أو المناظير التي تستخدمها، في أن تعطي ثمارها في غضون مرحلة قصيرة كتلك التي ظهرت فيها بواكير الانتعاش في الاقتصاد التركي بعيد وصول الحزب إلى السلطة، والمؤكد هو أن هذا الفعل كان قد خرج إلى الوجود بفعل أثر تراكمي أفضت إليه السياسات المتبعة منذ مطلع التسعينيات من القرن الماضي والتي استفادت بدرجة كبيرة من التحولات الجارية في تلك الفترة، هذه الحال من التردي باتت تهدد مشروعية البقاء في السلطة خصوصاً إذا ما وضعنا بعين الاعتبار معطيات داخلية أبرزها أن حزب أردوغان كان قد فقد في غضون هذا العام ثلث شارعه عبر انشقاقي أحمد داوود أوغلو وعلي باباجان اللذين كانا ركيزتين داعمتين له قبيل أن يذهب كل منهما على انفراد إلى تأسيس حزب مستقل خاص به، وأخرى خارجية سيمثلها وصول جو بايدن إلى البيت الأبيض بعد أن تعهد هذا الأخير باقتلاعه من السلطة حال ذلك الوصول، ولذا فإن نهوض الاقتصاد التركي مرهون بالتقارب مع أوروبا الذي إذا ما حدث أيضاً فإنه سيكون كفيلاً بتخفيف القبضة الروسية عن “الخناق” التركي التي بدت طاغية حتى في ناغورني قره باغ برغم عدم انغماس موسكو في الصراع الدائر فيها بشكل مباشر، وما جرى، نقصد اتفاق 9 تشرين ثاني الماضي، لم يكن ممكناً تحقيقه من دون الرافعة الروسية التي لاشك أنها سوف تعمل على الاقتصاص في مكان آخر.

هذا النزوع الجديد الذي يراه أردوغان حتمياً لا يتعارض مع السلوكيات الاستفزازية التي يمارسها هذا الأخير على مختلف الجبهات، وآخرها قيامه بزيارة منطقة “فاروشا” بمدينة فاماغوستا القبرصية المغلقة منذ العام 1974، داعياً منها إلى “حل المشكلة القبرصية على أساس حل الدولتين”، فالغرض من ذلك كله هو تحصين مواقعه لرفع سقف التفاوض قبيل أن تنفتح قنوات هذا الأخير مع الأوروبيين الذين يبدون ميلاً إلى رفض هذه السياسات، بل من الراجح أن تذهب القمة الأوروبية المقرر عقدها يومي 10 و11 من شهر كانون الأول الجاري إلى فرض عقوبات جديدة على أنقرة كفعل رافض، ورادع في آن، لسياسات هذه الأخيرة.

 

شارك على :
المحور العربي © كل الحقوق محفوظة 2023