اغتيال مناضل الثورة الجزائرية “موريس أودين”… جريمة الدولة الشنعاء

اغتيال مناضل الثورة الجزائرية “موريس أودين”… جريمة الدولة الشنعاء

أنهيتُ مقالي الأخير حول الطبيب والكاتب والمناضل بالثورة الجزائرية “فرانس فانون” بإعطاء مثال عن كثيرمن الفرنسيين المثقفين الذين شاركوا بالثورة الجزائرية مناهضة للاستعمار ونصرة لاستقلال الجزائر، وكل بطريقته الخاصة وحتى من دفع حياته ثمنا لهذا الموقف، ومن بينهم المناضل عالم الرياضيات “موريس اودين” الذي مات غيلة في 21 جوان 1957 تحت التعذيب من طرف الجيش الفرنسي ،و الذي تحمل اسمه أحد أشهر الساحات بقلب العاصمة الجزائرية ، فمن يكون “موريس اودان “…؟

ولد “موريس اودان” بمدينة باجة التونسية في 14فيفري 1932 كان والده يعمل دركيا، عاش طفولته بمدينة “عين الدراهم” ثم في مدينة “بايون” ومنها الى مدينة “تولوز” الفرنسيتين بعد تسريح والده ، وبعدها  هاجر مع عائلته إلى الجزائر بالضبط بمدينة القليعة ثلاثون كيلومتر غرب العاصمة ، التحق بجامعة الجزائر في نوفمبر 1949 وتخرج منها متخصصا في الرياضيات سنة 1953،وهي نفس السنة التي تزوج فيها من جوزيت اودان – توفيت يوم 03 فيفري 2019- أب لثلاثة أطفال (ميشال ولويس وبيار) ، ناضل في الحزب الشيوعي الجزائري المناهض للاستعمار،وشارك في نشر الصحافة اليسارية وقدم الدعم اللوجستي لمسلحي الثورة الجزائرية

في 11 جوان 1957 قامت الأجهزة الفرنسية باقتياد “موريس أودان ” ليلا من منزله بتهمة إيواء عناصر ناشطة في الحزب الشيوعي الجزائري ، وفي تقرير صادر عن الجيش الفرنسي في 24 جوان 1957 يعلن عن فرار “موريس أودان” المقبوض عليه أثناء نقله لاستجوابه في صباح 21 جوان 1957 ومنذ ذلك التاريخ لم يظهر عن “أودان” أي خبر ، ويعتبر هذا التاريخ أخر خبر عنه تتلقاه عائلته بفرنسا .

إذا كيف بدأت القصة المثيرة للجدل والتي حيرت المؤرخين كما السياسيين لعقود …

في العام 1957، فيما تصاعدت حدة الثورة الجزائرية أو ما أطلقت عليها السلطات الاستعمارية حينئذ “الأحداث”، كلفت الفرقة العاشرة مظلات في الجيش الفرنسي بالتدخل في معركة مدينة الجزائر الرهيبة ضد مقاتلي “جبهة التحرير الوطني”، في هذه المعركة كلف القائد الجنرال “جاك ماسو” كلا من العميد “روجيه ترانكييه” والرائد “بول أوساريس” بقيادة الهجوم المضاد هجوم قام فيه “أوساريس” بالإشراف على “التحقيقات المعززة” وهو مصطلح يعني في لغة اليوم “التعذيب”.

وفي بداية العام 2000 كشف “أوساريس” عن الوسائل والمناهج التي اتبعت في هذه التحقيقات للتعرف على شبكات المقاتلين الجزائريين ومحاولة القضاء عليها أو تحييدها ، وبوسائل تضمنت عديد الأساليب منها: الصعق بالكهرباء، إعدامات بالجملة واستخدام ما سمي وقتها مصل الحقيقة …

وسائل لاقت قبولا وتشجيعا كبيرا من الجيش الفرنسي نظرا لما حققته من نتائج باهرة في الكشف والإيقاع بالمقاتلين ومخابئ أسلحتهم واحدا تلو الآخر، في القصبة كان من نتائج هذه السياسة إلحاق الضرر بجبهة التحرير ومقاتليها، وهو ما سمح للجيش الفرنسي بتركيز جهوده على “الحزب الشيوعي الجزائري”  الذي اتهمته باريس بمساندة جبهة التحرير الوطني.

في جوان 1957 ضربت سلسلة من العمليات الفدائية وسط  الجزائر العاصمة ، كانت ضربات تتميز بالنوعية و الدقة والسرية في تنفيذ هذه العمليات، ماعزز قناعات الجنرال” ماسو” بأنه لا يمكنها أن تحدث دون مساعدة من الشيوعيين، ويضيف “جان شارل دينيو: ” أن الأوروبيون المنخرطون في القتال إلى جانب الثوار الجزائريين مثل شوكة في حلق الجنرال “ماسو” لدرجة وصفهم “بالطابور الخامس” الذي يضرب الجيش الفرنسي في ظهره منذ وقت طويل والذي يجب القضاء عليهم دفعة واحدة وللأبد.

اَتُهم “موريس أودان”، أستاذ الرياضيات بجامعة الجزائر وناشط يساري، بإيواء أعضاء نشطين في “الحزب الشيوعي الجزائري” وأوقف في 11 جوان 1957 وأودع زنازين معسكر اعتقال “الابيار”بالعاصمة الجزائر ، في اليوم التالي التحق به “هنري أليغ” المدير السابق لجريدة “الجمهورية” الصادرة بالعاصمة بيد أن الصحفي “جان شارل دينيو” في كتابه “حقيقة موت موريس أودان” يكشف لأول مرة كيف اعترف له “بول أوساريس” – الجلاد وبطل التعذيب خلال الثورة الجزائرية – ، قبل غروب شمس حياته في 2013، بما سماه “جريمة دولة” قائلا: “لا … “موريس أودان” لم يتبخر هكذا من الطبيعة بعد هروبه في يونيو 1957، لكنه أعدم بقبول ورضا و تأمين من السلطات السياسية”… ، جاء الأمر من “ماسو” إلى “اوساراس” لأخذ “اودان “إلى العاصمة ليلا وقتله بالسلاح الأبيض ودفنه في مكان مجهول حسب اعترافات “اوساريس ” حتى  يؤخذ الجزائريون بالشك بقتله بالسلاح الأبيض ،وجثة “اودان” موجودة في مكان بين زرالدة والقليعة، كشف مثير أضاف فصلا جديدا للروايات الرسمية وغير الرسمية لقضية شغلت المؤرخين  لأكثر من خمسة عقود.

بعد 1962 شكلت قضية “موريس اودان” أحد البراهين التي تدين الجيش الفرنسي  بالقيام بأعمال تخترق الاتفاقيات الدولية حتى مع رعاياه ، ففي فرنسا أثارت قضية “أودان” ضجة كبيرة وتحولت لمثال حي على ممارسة التعذيب أثناء الثورة الجزائرية، وكثير من الصحفيين والمؤرخين وأقارب “أودان “يدعمون الفرضية القائلة بأن “أودان” قضى بين أيدي جلاديه، في حين أن آخرين يؤكدون بأن الأوامر قد صدرت بتصفية “هنري أليغ” لكن الضباط المكلفين بالتنفيذ اختلط عليهم الأمر وقاموا بتصفية “أودان”، وطوال كل هذه السنوات لم يتزحزح الجيش الفرنسي قيد أنملة عن روايته الأصلية،ورغم كل الدعاوى القضائية التي رفعتها “جوزيت أودان “أمام المحاكم الفرنسية آملة بالوصول إلى الحقيقة وراء اختفاء زوجها، لم تسفر أيا من هذه الجهود عن نتيجة، سوى ملف أرشيفي أعطاه وزير الدفاع الفرنسي “جان إيف لودريان” “لجوزيت” في جانفي 2013، “جوزيت” لم تجد ما يشفي غليلها في هذا الملف وعلقت قائلة – بحسب جان شارل دينيو – “على الذين يعلمون ببواطن الأمور، وأظن أنه لا يزال بعضهم على قيد الحياة، أن يتكلموا”، ولولا صبر وجلد “جوزيت أودان”، أرملة “موريس”، لما خرجت السلطات العسكرية عن صمتها المطبق وما تفوهت بكلمة عن مصير” أودان” ولو برواية لا يمكن تصديقها ولكنها لم تتراجع عنها أبدازهي أن “موريس أودان” هرب أثناء ترحيله إلى معسكر اعتقال آخر ولم يظهر بعدها أبدا.

كان “موريس اودان” أحد أشهر الشهداء من ذوي الأصول الأوروبية، وظلت قضيته محل تجاذبات سياسية حادة في فرنسا، طوال ستين سنة، فقد بقي مصير ”أودان” مجهولاً، وكان يصنّف ضمن “مفقودي حرب الجزائر” ممن اختفوا قسراً بعد اختطافهم من قبل جيش الاحتلال الفرنسي، وصُفِّيَ سراً، من دون أي محاكمة،ولم تعترف الدولة الفرنسية رسمياً عن مسؤوليتها في خطف “موريس اودان “وتعذيبه وتصفيته، ثم إخفاء جثته للتسترعلى الجريمة، سوى في العام 2018، إذ توجّه الرئيس ماكرون أرملة موريس اودان، بتاريخ 13 سبتمبر 2018، برسالةاعتذار رسمية باسم الدولة الفرنسية، معترفاً للمرة الأولى بمسؤولية فرنسا عن ”خطف “موريس اودان” واحتجازه وتعذيبه وتصفيته، خارج أي أطر قانونية، وفي شكل مخلٍ بقيم الجمهورية وأخلاقيات الحرب”.

رسالة “ماكرون” وضعت حداً لإحدى وستين سنة من “أكاذيب الدولة” التي سعت إلى التستر على ملابسات “الاختفاء القسري” لموريس أودان” وتضمنت أيضاً اعترافاً رسمياً غير مسبوق بأن فرنسا قامت بـ”تقنين وتعميم استعمال التعذيب خلال حرب الجزائر”، وأن تلك الممارسات المقيتة لم تكن مجرد ”تجاوزات” اقترفتها حفنة من غلاة الضباط، كما كان يروّج طوال عقود، بل اندرجت ضمن خطة سياسية مبيّتة صادق عليها البرلمان الفرنسي سراً، من خلال ما سمي “منح الصلاحيات الخاصة” للجيش (الفرنسي) في الجزائر، في مارس (آذار) 1956.

تحول “موريس اودان” إلى رمز المجاهدين والمناضلين في القضية الجزائرية الذين تم تعذيبهم للحصول على معلومات أو لدفعهم لنكران القضية الجزائرية والانضمام عنوة للجانب الفرنسي وهو دليل أخر يضاف إلى أدلة استخدام الاستعمار الفرنسي في الجزائر خلال ثورة التحرير 1954-1962 مختلف أساليب القهر والتعذيب ضد أبناء الشعب الجزائري، وخاصة في السجون والمعتقلات ومراكز التعذيب التي كانت موجودة في مختلف مناطق البلاد ، وذلك بهدف خنق روح الثورة والقضاء على كل صوت يقف في وجه الاستعمار .

موريس اودان

موريس ورفيقة دربه جوزيت

 

 

 

 

شارك على :
المحور العربي © كل الحقوق محفوظة 2023