التحركات المحمومة على غزة والسياق التي تأتي في إطاره

الدكتور بهيج سكاكيني |

هنالك تحركات محمومة الان مباشرة وغير مباشرة ..من فوق الطاولة ومن تحت الطاولة في المنطقة بشكل عام وعلى الجبهة الفلسطينية بشكل خاص ومن ضمنها ما سمي “بالمبادرة المصرية” للدخول في تفاهمات مع الكيان الصهيوني تدخل ضمن التفاهمات الاشمل والمتكاملة مع ما يدور في المنطقة ككل والتي تسعى من خلاله الادارة الامريكية واسرائيل والادوات في المنطقة من أعادة هيكلة الصراع في المنطقة. ومن هنا ينبع الاهتمام في الطرف الفلسطيني وخاصة للاوضاع في غزة التي باتت تشكل العقبة الاساسية لفرملة هذا الاندفاع الغير مسبوق في المنطقة لاعادة هيكلة الصراع في المنطقة.

وبغض النظر عما ستؤول اليه المبادرة المصرية فيما يخص القطاع على وجه التحديد و “التفاهمات” مع العدو الصهيوني على المدى القريب والمتوسط الى جانب محاولة رأب الصدع المستعصي بين فتح وحماس، لا بد من تسجيل بعض النقاط الاساسية. وضمن هذه الرؤيا دعونا نتفق على بعض النقاط الاساسية التي تمخضت عنها الاحداث والمستجدات على الساحة الفلسطينية.

اولا: إن جذوة المقاومة الفلسطينية تتركز اكثر فأكثر في قطاع غزة بشقيها المقاومة الشعبية السلمية من خلال مسيرات العودة والتي التفت حولها الجماهير في غزة والتي إكتسبت زخما كبيرا وبالرغم من حجم الضحايا من شهداء وجرحى فإن استمرارها وديمومتها باتت تؤرق مضاجع العدو على المستوى السياسي والعسكري والاستخباراتي والامني والاخلاقي في فضح الطبيعة الفاشية لهذا الكيان الغاصب. الى جانب ذلك المقاومة المسلحة التي استطاعت تطوير قدراتها العسكرية القتالية من جانب ومن أمتلاك وتطوير الاسلحة التي باتت بحوزتها وهذه ايضا اصبحت متطورة الى درجة عالية فرضت على العدو الصهيوني قواعد اشتباك جديدة بحيث لم يعد الجيش الاسرائيلي قادرا على الاعتداء على قطاع غزة كما يحلو له في الزمان والمكان دون الرد الفوري من المقاومة. وبات العدو الصهيوني يحسب حسابه من حيث طبيعة الرد بالكم والشكل والخسائر التي يمكن ان يتسبب عن هذا الرد من ناحية الخسائر البشرية والنفسية خاصة في المستوطنات القريبة من الشريط الحدودي الى جانب إمتلال المقاومة لمنظمة صواريخ قادرة على الوصول الى العمق الاسرائيلي وإحداث خسائر مادية كبيرة في حالة نشوب حرب على هذه الجبهة. وهذه المقاومة اصبحت تمتلك من الجهوزية في الرد وبحسب تقارير استخباراتية اسرائيلية لا يمكن تجاهلها في اية حرب قادمة.

ثانيا: وهذه مرتبطة بالنقطة الاولى دعونا ايضا ان نعترف بأن التركيز الحالي على قطاع غزة من قبل اسرائيل التي قدمت عروضا من فتح المعبر وإنشاء ميناء ومطار ..الخ من التسهيلات في الحركة وتخفيف الضغط على اهل القطاع من النواحي الاقتصادية والخدمات الاساسية مثل الكهرباء والماء والحركة للناس والبضائع عبر المعابر لم يكن ليكون لولا ان القطاع بات يشكل الحاضنة الرئيسية والاساسية للمقاومة الفلسطينية بشكليها الجماهيري السلمي والمسلح في آن واحد بمعنى التكامل العضوي بينهما.

ثالثا: وضمن هذا الواقع المتقدم لطبيعة وماهية المقاومة والدرجة التي وصلت اليها وضمن الاطروحات والتسويات المقترحة للقضية الفلسطينية في سياق ما يدور في المنطقة وخاصة الاصطفافات والاستقطاب السياسي الغير مسبوق في المنطقة ودخول الادارة الامريكية وبقوة لاعادة هيكلة الصراع في المنطقة كان من الطبيعي ان ينشأ اطراف فلسطينية تسعى لتحسين اوضاعها ضمن التسويات المطروحة سواء ما ظهر منها اوخفي. ولنكن أكثر وضوحا في هذا المجال هنالك بعض الاطراف الفلسطينية قد تسعى لاستخدام هذه الحالة الفلسطينية المقاومة ومحاولة صرفها سياسيا ضمن شعارات تحسين الاوضاع الانسانية المزرية للغاية في قطاع غزة من حصار وتجويع وبطالة واوضاع إقتصادية خانقة لم تعد تحتمل على الاطلاق وهذا ما كان احد الاسباب إن لم نقل السبب الرئيس في تفجير المقاومة الشعبية في غزة واستمراريتها. والشعب الفلسطيني له تجربة مريرة سابقة في هذا المضمار وهي ما اوصلتنا الى ما نحن عليه الان.

وإذا ما عدنا قليلا الى الوراء هذا ما حصل بالضبط عند الانتفاضة الاولى عام 1987 التي استغلها الطرف المتنفذ في منظمة التحرير الفلسطينية ومن وراء جيمع الفصائل المنضوية تحت مظلة م.ت.ف. الممثل الشرعبي والوحيد للشعب الفلسطيني وبالتالي من وراء كل شعبنا الفلسطيني…نقول تم استغلال الانتفاضة لعقد “صفقة” أوسلو المشؤومة وما تلاها من إتفاقيات وتفاهمات مذلة تم بها خفض تدريجي للسقف السياسي الفلسطيني والتي ادت بالتدريج الى ما نحن عليه الان. ولا داعي للاستفاضة هنا فشعبنا يعاني يوميا وعلى جميع الاصعدة من نتائج هذه الصفقة.

ما اريد ان أصل اليه هنا هو أخذ التجربة من الماضي في نقطتين اساسيتين هنا. أولا إن عملية الاستفراد في القرار الفلسطيني وبغض النظر عن الطرف المستفرد هو خطأ كبير وكبير جدا ويعرض هذا الطرف الى عملية إبتزاز للتنازل من جهة ومن جهة اخرى ستخلق مزيدا من حالة التشرذم والانقسامات داخل البيت الفلسطيني وجميعنا يعي مسبقا ماذا ستكون النتائج الكارثية على القضية. ويجب ان لا ننسى ان كل هذا يدور في الوقت الذي يريد الكثيرون من العربان زيادة لي اليد الفلسطينية للحصول على الموافقة على صفقة ضمن الصفقة الكبرى للمنطقة “صفقة القرن” والتي تسعى فيها الادارة الامريكية تصفية القضية الفلسطينية لصالح العدو الصهيوني والتطبيع العلني والمباشر مع هذا الكيان وحرف بوصلة الصراع وتكوين حلف ناتو عربي-اسرائيلي تحت مظلة هيمنة امريكية “لمحاربة” إيران.

ومن هنا ان اي قرار بشأن المبادرة “المصرية” والتي يتم التباحث بشأنها بالتحديد مع حماس والتي ابدت حماس موافقتها عليها من ناحية مبدئية يجب ان يتخذ من قبل جميع الفصائل الفلسطينية وبعد تروي ودراسة وعدم التسرع في إتخاذ القرار النهائي وعلى ان يكون القرار ضمن استراتيجية واضحة حتى لا نقع في مطبات عفوية وتكتيكية لا تخدم الهدف الاستراتيجي للمقاومة في دحر الاحتلال. لا شك ان الكيان الصهيوني معني بالدرجة الاولى الى ان يحصل على تنازلات سياسية من الطرف الفلسطيني من ضمنها وقف مسيرات العودة التي أعادت وبقوة القضية الفلسطينية على المسرح العالمي بعد أن غابت أو غيبت نتيجة حالة التشرذم والانقسام في الجبهة الفلسطينية الى جانب الخيانة العلنية لبعض الانظمة العربية الرسمية . نقول هذا لاننا نشتم نوع من التناغم مع هذا المطلب من تصريحات آتية من الطرف الفلسطيني المفاوض ان “مسيرات العودة قاربت على تحقيق أهدافها”.

رابعا: وعلى فرض انه تم التوافق بين كافة الفصائل الفلسطينية على القبول على صيغة معينة للتفاهمات أو ما سمي بتسويات لفترة زمنية محددة مع الكيان الصهيوني عن طريق الوساطة المصرية يجب ان يكون هنالك ضمانات تقدم للجانب الفلسطيني على التزام الطرف الاسرائيلي بهذه التفاهمات. فمن المعروف ومن خلال الخبرة العملاتية ان إسرائيل تخرق وخرقت كل التفاهمات السابقة والتي دخل فيها الطرف المصري كوسيط في عمليات تهدئة سابقة. ليس هذا وفقط بل قام الجيش الاسرائيلي بتدمير محطة الكهرباء الوحيدة في غزة التي بنيت من قبل الاتحاد الاوروبي وكذلك دمرت محطة تنقية المياه وتكرير المياه العادمة …الخ والاحتلال لم يبدي اي اعتبار لهذه الدول ومشاريعها التي تعمل على تحسين الوضع المعيشي للناس في القطاع. وأذكر انه قبل مدة اشارت العديد من أراء المتخصصين الاكاديميين والاجهزة الاستخباراتية الاسرائيلية الى الحكومة الاسرائيلية بالعمل على تخفيف الضغوطات والحصار المفروض على قطاع غزة لان كل المؤشرات كانت تدل على إمكانية حدوث إنفجار كبير لا يمكن السيطرة عليه. وكانت من احدى المقترحات لتحسين الاوضاع بناء ميناء لغزة يتم عن طريقه تصدير واستيراد بعض البضائع من الخارج طبعا تحت مراقبة بحرية اسرائيلية وربما إدارة من قبل الامم المتحدة. وعندما إعترض بعض الوزراء على هذا ذكر المصدر العسكري ان بناء الميناء قد يحتاج الى بضعة سنوات لكن يمكن لسلاحنا الجوي تدميره في أقل من ساعة إذا ما اردنا كما فعلنا في مطار غزة سابقا. من الواضح ان اسرائيل تسعى لتكريس وضع تنهي به المقاومة الفلسطينية في مقابل تحسين الاوضاع الانسانية في قطاع غزة لا اكثر من هذا ومن الواضح ايضا ان هنالك اطراف عربية منخرطة لتحقيق هذا الهدف الصهيو-أمريكي.

شارك على :
المحور العربي © كل الحقوق محفوظة 2023