التحريف في هويّة عاشوراء الإمام الحسين بقلم محمد الرصافي المقداد

التحريف في هويّة عاشوراء الإمام الحسين  بقلم محمد الرصافي المقداد

مأساة ومصيبة الصفوة الطاهرة من أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم، تفاعل معها شيعته وأحباؤه، فحملوها إلى الأجيال جيلا بعد جيل، إلى وصلتنا في هذا الزمان المتأخر عنها، في صورتها الدرامية الحزينة، المؤثرة في كل قلب فيه إحساس وشعور، تجاه الإنسانية المظلومة والمضطهدة، فضلا عن أهل بيت اصطفاهم الله، ليكونوا مصدر هداية الى الله ودينه الخاتم.

تفاعل حرّك الأنفس الحرّة الأبية الى اقتفاء أثر أبي الأحرار، واستلهام قيمه الثورية الرفيعة، لصناعة غد أفضل للأمة الإسلامية، وهو ذات الغد الذي كان الإمام الحسين يسعى إلى تحقيقه، وقدّم من أجله نفسه وخيرة أهل بيته وأصحابه فداء لأجله، يوم ينقمع فيه ظلم الظالم، فلا يتسلط على رقاب الناس بعدها، وينتهي عدوانه عليهم، ويعمّ الأمن والإستقرار فيهم، وينتشر العدل بينهم.

ولا يمكن أن يتحقق ذلك المطلب الثوري الجامع، إلا بالتضحيات الجسام، تماما كما ضحى من أجله الامام الحسين عليه السلام، وتضحيته الغالية تلك، كانت تأسيسا لمدرسة الثورة الإسلامية في الأمة، بكافة عناصرها ومبادئها وأهدافها، خطّها بسيرته وفكره المحمّدي الصافي، بلا واسطة من أحد غير جدّه المصطفى، وأبيه علي المرتضى، وأمّه فاطمة الزهراء سيدة النساء، عليهم جميعا صلوات الله.

ثورة الامام الحسين يوم العاشر من المحرم سنة 61 هجرية، أراد من خلالها إيقاظ  ضمائر الأمة، النائمة على تمنّيات الدنيا الزائفة، والخاضعة لظلم الظالمين والتابعة له بأحكامهم، وتحريك جماهيرها نحو تغيير واقعها البائس، من تبعيّة الظالمين وأهوائهم البعيدة عن الاسلام المحمّدي، إلى إقامة الدين وإعلاء كلمته، ولم تكن تضحياته التي قدّمها كلّها، إلا من أجل تحقيق ذلك التّحوّل الوجداني فيهم.

ونحن اذا قرأنا كتب المقتل التي وصلتنا عن ثورة الامام الحسين عليه السلام، نلاحظ فيها أنها كانت جميعها قاصرة، عن السّرد الروائي الواقعي لما حدث، بل إنها كانت في بعض صورها، بعيدة عن حقيقة ما جرى، وبالتاّلي فإنها لم تبح بكلّ أسرارها، لأسباب خارجة عن نطاقها، وهي الى اليوم زالت تحتفظ ببعضها، رغم الجهود الجبّارة المبذولة، من طرف شيعة وأحباء الامام الحسين وأهل بيته عليهم السلام، في نقل ما أمكنهم من فصولها، فليس الذي نقل لنا في بعض جوانبه، كالذي حصل فعلا، إذ يعجز القلم واللسان عن توصيف دقيق لما حصل، ليس تقصيرا من الشهود الحاضرين، فالإمام زين العابدين عليه السلام، رجل أهل البيت الوحيد المتبقي – لحكمة الهيّة غير خافية، في بقاء ذلك النسل الطاهر للنّبي صلى الله عليه وآله وسلم متواصلا في الامة – لم يقصّر في نقل وقائعها، رغم الحصار المضروب عليه، من طرف جلاوزة عامل يزيد بالمدينة، ولا قصّرت عمّته العقيلة زينب عليها السلام، في نشر فضيحة بني أميّة، وما فعله زبانيتهم بأخيها وأهلها في كربلاء، حتى لا تحرك شهاداتهم وتعابيرهم، جماهير الأمة عما حصل في ذلك اليوم.

لم يبقى خيار ليزيد بعد جريمته المروّعة التي ارتكبها بحق الامام الحسين وأهل بيته عليهم السلام، سوى الاستمرار في نهج الارهاب  والعنف المفرط الذي مارسه بحق كل من عارض حكمه، وباستعمال عمّال ابيه الأوفياء للبيت الأموي، الحاقد على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته عليهم السلام، فعملوا على إخضاع أهل الكوفة والمدينة، بنشر الإرهاب السلطوي، فاشتد القمع في المدينتين، ففي الكوفة كان هناك سجن رهيب، مات فيه الآلاف من المعتقلين الابرياء، ذنبهم الوحيد أنهم من شيعة أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم، واستباح مسرف بن عقبة المدينة ثلاثة أيام سنتين بعد واقعة كربلاء، قتل فيها جنوده آلافا من خيرة رجالها، واغتصبوا نساءهم وفتياتهم، بأمر من مولاه يزيد انتقاما من الأنصار، تثنية بالإمام الحسين عليه السلام من قبلهم، فقد ذكر الطبري وغيره، أنه لما جيء ليزيد براس الحسين عليه السلام، ووضع امامه، فجعل ينكت على فمه وينشد:

لـيت أشياخي بـبدر شـــهدوا  جزع الخزرج من وقع الأسل

قــد قتنا القوم من ســاداتهم   وعــــدلنا مـــثل بدر فاعتدل

فـــــأهلوا واســتهلوا فــرحا  ثم قـــــالوا يا يزيد لا تـــشل

لست من حندف ان لم انتقم  من بني أحمد ما كان فـــــعل

لــــعبت هــــاشم بالــــــملك  فـــلا خبر جاء ولا وحي نزل

وقد استفز ذلك الطبري فقال: هذا هو المروق من الدين، وقول من لا يرجع إلى الله، ولا إلى دينه، ولا إلى كتابه، ولا إلى رسوله  (ص) ولا يؤمن بالله، ولا بما جاء من عند الله.(1)

ما أعاق ظهور صورة الكاملة لأحداث واقعة كربلاء كما هي، هو جبروت السلطان وعمله المستميت، من أجل أن لا تنتشر فضيحته بين الناس، وفي مناطق حكمه، فينتفض عليه أهلها فيقوّضون حكمه، الهيكلية العامة للمشهد العاشورائي أمكن له أن يصل الينا، وحفاظ السيرة الحسينية لم يقصّروا في نقله، مع بعض الكلمات التي قالها الامام الحسين عليه السلام في ليلة العشر ويومه، امّا التفاصيل الدقيقة للأحداث فيه، فبقيت غائمة، ولو كان لذلك الزمن من وسائل التصوير والتسجيل، ما نملكه في هذا العصر، لتحوّل العالم المستضعف بأسره، في ضرف مشاهدة واحدة، الى حسينيين رغم اختلاف افكارهم وعقائدهم.

محاولات طمس معالم

ومن أجل الخلاص من تبعات جرائمهم، التي اقترفتها أياديهم الأثمة، بحق أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم، دعوا دهاتهم ومخترعي أكاذيبهم وبهتانهم، فأشاروا عليهم بإعلان فضيلة مكذوبة سيئة التركيب ليوم العاشر من المحرّم، استطاعوا يقنعوا بها قسما كبيرا من الأمة الاسلامية فتعبّدوا وتقرّبوا بها الى الله وهي أبعد ما تكون عنه .

الروايات التي ابتدعوها في فضل يوم العاشر من المحرّم، رغم التناقض الحاصل في مجموعها أسانيدا (موضوعات)، فإنهم نجحوا في إيهام هؤلاء المسلمين، بأن ذلك اليوم هو يوم مبارك، فتلقوه بالإحياء والاحتفاء، وإظهار الفرح والزينة، والتوسعة على العيال، إلى غير ذلك من مظاهر السرور، التي أصبحت مثبتة في تقاليد اخواننا أهل السنة والجماعة (يعتقدونها سنة نبوية وهي في حقيقتها ما رضي به الطغاة من حكام الأمّة)، وزاد الأمر على ذلك، فكان المناوئون لأهل البيت وشيعتهم، يظهرون الفرح يوم عاشوراء، شماتة ومناقضة لمظاهر الحداد والحزن التي كان يظهرها الشيعة، إذا دخل شهر محرم عموما، ويوم عاشوراء خصوصا، وقد رأيت من الفائدة اطلاع القارئ على ما نقله الحلبي في سيرته بخصوص هذه الروايات: ” وقيل سمى يوم عاشوراء، لان عشرة من الأنبياء أكرمهم الله تعالى فيه بعشر كرامات، تاب الله فيه على آدم، واستوت فيه سفينة نوح على الجودى، أي فصامه نوح ومن معه حتى الوحش شكرا لله، ورفع الله فيه إدريس، ونصر الله فيه موسى، ونجى فيه إبراهيم من النار، وفيه اخرج يوسف من السجن، أي وفيه ولد وردفيه على والده يعقوب، واخرج فيه يونس من بطن الحوت، أي وتاب الله على أهل مدينته، وتاب الله فيه على داود، وعوفي فيه أيوب، وفي كلام الحافظ ابن ناصر الدين عن أبي هريرة رضى الله تعالى عنه، قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ان الله عز وجل افترض على بني إسرائيل صوم يوم في السنة، وهو يوم عاشوراء، وهو اليوم العاشر من المحرم فصوموه، ووسعوا على أهاليكم فيه، فإنه من وسع على أهله من ماله يوم عاشوراء، وسع الله عليه سائر سنته فصوموه، وهو اليوم الذي تاب الله فيه على آدم، وذكر ما تقدم وزاد عليه، وانه اليوم الذي انزل الله فيه التوراة على موسى، وفيه فدى الله إسماعيل من الذبح، وهو اليوم الذي رد الله فيه على يعقوب بصره، وهو اليوم الذي رد الله فيه على سليمان ملكه، وهو اليوم الذي غفر الله فيه لمحمد صلى الله عليه وسلم ذنبه، ما تقدم وما تأخر، وأول يوم خلق من الدنيا يوم عاشوراء، وأول مطر نزل من السماء يوم عاشوراء، وأول رحمة نزلت من السماء يوم عاشوراء، فمن صام يوم عاشوراء، فكأنما صام الدهر كله، وهو صوم الأنبياء، الحديث بطوله، ثم قال هذا حديث حسن، ورجاله ثقات، وذكر الحافظ المذكور عن بعضهم، قال كنت افتّ للنمل خبزا في كل يوم، فلما كان يوم عاشوراء لم تأكل، وتقدم ان الصرد أول طير صام عاشوراء، وفي كلام بعضهم ما قيل في يوم عاشوراء، كانت توبة آدم، إلى اخر ما تقدم من الأحاديث الموضوعة، وفي كلام بعض اخر ما يفعل فيه من اظهار الزينة بالخصاب، والإكتحال ولبس الجديد، وطبخ الحبوب والأطعمة، والاغتسال والتطيّب، من وضع الكذابين، والحاصل ان الرافضة اتخذوا ذلك (يوم العاشر من المحرّم من كل سنة) مأتما يندبون وينوحون ويحزنون فيه والجهال اتخذوا ذلك موسما (يقصد فرح) (2)

فتأمّل الى أي مستوى من التفكير، وصل بالمسلمين في زمن اختراع هذه الترّهات،
وبعودتنا للنصوص، نلاحظ إختلافها في تحديد هوية يوم عاشوراء، فرواية تقول: إنه يوم كانت تصومه قريش في الجاهلية.(3) ورواية أخرى تقول: إنه يوم كانت تستر فيه الكعبة. (4) ورواية ثالثة تقول: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وجد اليهود يصومونه، فسألهم عن سبب ذلك، فأجابوه بأنه يوم صالح، نجى الله فيه بني إسرائيل، فصامه موسى شكرا لله، فرد النبي صلى الله عليه وآله وسلم :” نحن أحق بموسى منهم.”(5) ورواية رابعة تقول: إنه كان يوم يصام قبل أن يفرض الصيام ، فلما فرض صيام شهر رمضان ترك. وفي أخرى: من شاء صام ومن شاء ترك.(6)

ومع وجود الاختلاف بين الروايات، من حيث متونها، التي لم تجتمع على قول واحد بخصوص يوم عاشوراء، وتراوحت بين الآراء الأربعة، أي أنه يوم من أيام الجاهلية، أو أنه يوم كانت تستر فيه الكعبة، أو أنه يوم نجى الله تعالى فيه بني إسرائيل وموسى عليه السلام، أو إنه يوم كان يصام قبل فرض شهر رمضان، لا يمكننا التسليم بمجموعها، لتناقضها في تحديد هوية ذلك اليوم، مما دل على افتعالها، ونسبتها للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، مع استبعاد نسبة ذلك اليوم إلى بني إسرائيل، لأن اليهود يؤرخون بالتقويم الشمسي، الذي لا يتفق مع التقويم القمري، الذي هو أقل أياما في السنة من التقويم الشمسي، فيكون يوم عاشوراء عند اليهود إن صحت تسميته، ثابتا من حيث كونه يوما معينا في السنة عندهم، لا يتغير وفق تقويمهم، ومتحركا عند المسلمين، فيجري بين الشهور الاثني عشر، ولا يتفق جريانه مع العاشر من المحرم عند المسلمين، إلا مرة واحدة كل ثلاث وثلاثين سنة على أقل تقدير.

ولأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يعهد منه أن سأل أحدا، فيما هو متعلق بالدين، خصوصا إذا كان المسؤول، يهوديا مغضوبا عليه بالنص القرآني، وكان مرجعه صلى الله عليه وآله دائما الوحي، مع أن الديانة اليهودية محرفها وصحيحها، لم يتطرقا إلى اليوم الذي نجا الله فيه موسى عليه السلام، على أساس أنه اليوم العاشر من المحرم، وكيف يتفق ذلك اليوم فيكون صالحا عند اليهود، بنجاة بني إسرائيل وموسى، وطالحا وسيئا عند المسلمين بهلاك الصفوة الطاهرة من أهل البيت عليهم السلام، قد نقضت فيه عهود الله وأحكامه ومواثيقه، في مودة القربى.
أما نجاة عشرة أنبياء في ذلك اليوم، مثلما دوّن ذلك الحلبي في سيرته، فإن الروايتين اللتين نقلهما لا تتفقان في تحديد العشرة، وعليه فإنه إن تحددت نجاة هؤلاء في ذلك اليوم بالذات، مع وجود روايات تقول غير ذلك، فإن حبيب الرحمان صلى الله عليه وآله وأهل بيته عليهم السلام، أولى من غيرهم إلى تلك اللفتة الربانية والعناية الإلهية، بنجاة أهل بيته عليهم السلام، وهم خاتمة سلسلة الاصطفاء الالهي، وبقيته الطاهرة من بعده 

ولا التفات إلى ما ظهر من تهافت في بعض الروايات، من حيث احتواءها على سلوك في الأمر العبادي، بصيام من لم يصم، وسبق منه الإفطار في ذلك اليوم، لم يعهد من النبي صلى الله عليه وآله، خصوصا في ما يتعلق بغير الواجب من الأحكام(7)، مضافا إلى الرواية الأخيرة التي جاء فيها، أن القوم يصوّمون صبيانهم، ويلهونهم بدمى من العهن، إذا بكوا من الجوع إلى حين الإفطار، فذلك مما لم يوجد في شريعة خاتمة ولا غابرة، وهو عمل أحمق لا يرضاه عاقل، فضلا عن الله تعالى، فتأمل هذه البلاهة والبلادة الى اين وصلت بالعقول، وفقك الله إلى الوقوف على غيرها من البلاهات التي توهت الأمة، وذهبت بها بعيدا عن الصراط المستقيم، فتتجنّب التعبد بها، والعمل بدسائسها.

والذي ثبت لدينا أن يوم العاشر من المحرم (عاشوراء)، هو يوم اسلامي مفجع حزين على أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم، تجب فيه مواساتهم في مصيبتهم التي حلّت بهم في ذلك اليوم الأسود، بحكم فريضة مودّتهم، التي نص عليها القرآن، نصّا ملزما لكل مسلم، لا مفرّ له منه، لأن مودّة قربى النبي صلى الله عليه وآله وسلم هي فريضة علينا، وليست مخصوصة بجيل دون آخر، وعاشوراء الظالمين هي مناسبة مكذوبة رواية، لتغطية جرائمهم بحق الصفوة الطاهرة عليها السلام، وصحيحة ثابتة عندنا دراية بثبوت الحادثة، وما وقع فيها من جنايات، بحق الذين حملوا على عاتقهم تمثيل الاسلام، بكل ابعاده الفكرية والأدبية والشرعية سننا وأحكاما.   
وبالقدر الذي اجتمع عليه أهل الباطل، ليمسحوا أثر نهضة الإمام الحسين عليه السلام، وملحمته المباركة يوم العاشر من محرم سنة 61 للهجرة، بدأ بتتبع أهل بيته وأنصاره وشيعته، ومرورا بروايات الكذب التي ألصقت بيوم العاشر من المحرم، وانتهاء بحملات الاستنكار والاستهجان، والتنديد بمراسم عاشوراء، التي يحييها شيعة آل محمد عليهم السلام في كل زمان ومكان، بقدر ما استمات ورثة ذلك المنهج القويم، والصّمود فيه وتوارثه، تسليم جذوة ثورته المشتعلة أبدا، جيلا عن جيل وجماعة عن أخرى وأمة عن أمة، حريصين على بقائها مستلهم ثوراتهم.

المراجع

1 – تاريخ الطبري ج 8ص187 و 188/البداية والنهاية ابن كثير ج8 ص209/الفتوح ابن الأعثم ج 5ص241/مقتل الحسين الخوارزمي ج 2ص58 /مقاتل الطالبيين أبو الفرج الأصفهاني ص 120.

2 – السيرة الحلبية ج2ص132/133/134 باب تحويل القبلة

3 – البخاري كتاب الصوم ح1760 

4 – البخاري كتاب الحج ح1489

5 – البخاري كتاب الصوم ح1865

6 – البخاري كتاب الصوم ح1978

7 – البخاري كتاب الصوم ح1790

   

شارك على :
المحور العربي © كل الحقوق محفوظة 2023