التطبيع أبعد من إقامة العلاقات الدبلوماسية…بقلم الدكتور بهيج سكاكيني

التطبيع أبعد من إقامة العلاقات الدبلوماسية…بقلم الدكتور بهيج سكاكيني

عملية التطبيع لا تقتصر على إقامة العلاقات الدبلوماسية وعقود تجارية وإقتصادية مع الكيان الصهيوني بل تتعداه الى التوغل في الثقافة الجمعية والارث الثقافي المزروع والمحفور عميقا في الوجدان العربي والتي تربت عليها أجيال لعقود طويلة من الزمن والتي رأينا إنعكاساتها في الادب والرواية والشعر والمسرح والفن والمناهج المدرسية والتربية الوطنية التي كانت سائدة قبل البدء في عمليات التطبيع الرسمي مع مصر عام 1979 بتوقيع معاهدة كامب ديفيد. المراد هو تغيير الهوية القومية وكي الوجدان الجمعي العربي وتجريم المقاومة للاحتلال وإعتبارها أعمال عنفية وغير حضارية أو إنسانية ووصمها بالإرهاب.

ومن اجل تحقيق هذا الغرض ذلك صرفت وتصرف مليارات الدولارات على إقامة أبواق إعلامية من فضائيات وصحف ومجلات ويتم شراء الكتاب المرتزقة الذين الى جانب إتباع سياسة تثبيط الهمم والقبول بما يسمى “بالواقعية السياسية” يزرعون الشكوك في القدرات والامكانيات للانتصار على العدو الصهيوني ويذهبون الى تحويل الانتصارات الجزئية التي تتحقق هنا وهناك الى هزيمة رافعين شعار حجم التضحيات وإنعكاس الصراع على الحياة اليومية والمعيشية والاقتصادية لإثارة الشكوك وربما إيجاد حالة من التذمر متناسين حقيقة يحاول البعض طمسها اننا ما زلنا في مرحلة تحرر وطني وليس في مرحلة بناء مؤسسات دولة وهمية لا تعشش سوى في أذهان من باعوا الوطن لمصالح فئوية وطبقية.

ومن هذا المنطلق فلقد فرض الكيان الصهيوني على معظم الدول العربية المطبعة عملية تغيير في المناهج الدراسية وخاصة في المواضيع التي تتناول الصراع العربي الاسرائيلي بحكم ان هذا الصراع قد انتهى ومن ثم ضرورة استخدام اللغة التي تدعو الى “السلام ما بين الشعبين”. ولم يسلم تدريس الايات من القرآن الكريم في المدارس من عمليات التغير هذه. وبحسب احد المختصين في التربية والتعليم في الضفة الغربية المحتلة هنالك ما يقرب من 1100 كتاب يمنع تواجدهم في اية مكتبة مدرسية أو مكتبات جامعية او عامة وكلها تندرج تحت إطار الثقافة والادب والتاريخ العربي على سبيل المثال. وهذه السياسة التجهيلية تهدف الى تنشأت أجيال منفصمة عن تاريخ منطقتنا وتراثنا الثقافي والحضاري.

هذا في الوقت الذي لم تطلب هذه الدول المطبعة من الكيان الصهيوني تغيير أو حذف اي شيء في مناهجهم الدراسية التي تؤجج الكراهية للعرب والتي تحث على قتل العربي وعلى ان الارض هي لليهود وليس لهؤلاء الغرباء وعلى ان العربي همجي ومتوحش وان العربي الجيد هو العربي الميت…الخ. هذه المناهج ما زالت قائمة لم تتغير ولم يجرؤ اي من موقعي معاهدات الذل مع الكيان الصهيوني طلب بتغيرها في المقابل.

والكيان الصهيوني ليس الوحيد في إتباع هذه السياسة فهذا السياسة لازمت كل الحركات والمشاريع الاستيطانية الاستعمارية الفرنسية والاسبانية والبريطانية والامريكية على سبيل المثال فجميعها عمدت على تنفيذ ما يمكن تسميته بعمليات الابادة الجماعية الثقافية للسكان الاصليين في الدول المستعمرة حتى يتمكنوا من الوجود في حالة معلقة من الاسطورة وفقدان الذاكرة التاريخية الجمعية للمستعمر وإضفاء نوع من الشرعية للمستعمر. والحركة الصهيوينة ولكونها ولدت من في الحقبة الزمنية للاستعمار الكولونيالي الاستيطاني كان من الطبيعي ان تتبنى نفس الفكر والايدلوجية لهذا النوع من الاستعمار وتطويره بما يتناسب مع مشروعها الاستيطاني في فلسطين.

الكيان الصهيوني يسعى من وراء التطبيع تثبيت الراوية الصهيونية فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية وتاريخ المنطقة بأكملها وبأحقيته في الارض التي وهبها الله لهم وهم إذ يقيمون دولتهم إنما هم يقيمونها بإرادة الهية وكأن الله يعمل في بيع العقارات او توزيعها. وأن فلسطين لم تكن مأهولة سوى بقبائل عربية متناثرة في بؤر جغرافية متباعدة جاؤا من الخارج وبإمكانهم العودة والعيش في الدول العربية التي قدموا منها بخير وسلام لانهم يتحدثون بنفس اللغة ويتبعون نفس الديانة. وللاسف فإن البعض من الكتبة وخاصة في بعض الدول الخليجية قد تبنى هذه الاطروحة والراوية ويكتب وبكل وقاحة ويعمل على تزوير للتاريخ ان اليهود اولى بالارض من الفلسطينيين. أو في احسن الاحوال على انها دولة قائمة ويجب التعامل مع هذه الحقيقة وبالتالي من الطبيعي إقامة العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية والثقافية مع هذه الدولة كأي دولة أخرى. ومن هنا رأينا ان الكثيريين اسقطوا تعبير “الصراع الاسرائيلي-العربي” الى “الصراع الاسرائيلي-الفلسطيني” وللأسف حتى بعض الكتاب المحسوبين على التقدميين والوطنيين ودون وعي اصبحوا يستخدمون التعبير الثاني في كتاباتهم عند تناول القضية الفلسطينية. هذا نتيجة التغلغل الصهيوني الى الوجدان الجمعي العربي.

* كاتب وباحث أكاديمي فلسطيني

شارك على :
المحور العربي © كل الحقوق محفوظة 2023