الحج الإبراهيمي المحمديّ في فكر الإمام الخميني بقلم: محمد الرصافي المقداد

الحج الإبراهيمي المحمديّ في فكر الإمام الخميني بقلم: محمد الرصافي المقداد

من مزايا قيادة الإمام الخميني الثورة الاسلامية العظيمة وفضائلها على إيران والأمّة الاسلامية، كسرها لعرش العمالة، وقطعها أيدي الاستكبار العالمي من أرض إيران، بعد أن حاول الشاه عميل الغرب جهده، في أن يحوّلها مهيعا ومستجمّا، وقاعدة متقدّمة لأعداء الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم، في مشروعهم الاستكباري، من أجل إخضاع دول وشعوب المنطقة الاسلامية الى إرادتهم. ثورة امتدت آثارها الإيجابية، فغيّرت مجرى حياة المسلمين في إيران وخارجها، وكان فكرها الذي دعا اليه رجل الاصلاح في هذا الزمن، ملتفتا إلى أساسيات الإسلام عقيدة وشريعة وشعائر، فلم تغب عنه مسألة من ذلك، وسجّل من بين أدبيّاته الطرق المثلى، المتطابقة مع مقاصد الاسلام، في بناء المجتمع المسلم عقيدة وسلوكا، مصداقا للأمة الوسط، التي أرادها الله أن تكون، تحقيقا للثمرة المرجوّة من الدين الخاتم، في بلوغ أهداف المسيرة الانسانية، وفق الصراط المستقيم، الذي جسّده النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ومن بعده أئمة الهدى من اهل بيته عليهم السلام.

شعيرة الحج هي من بين الشعائر الإسلامية التي لحقها الغبن، بعد أن أهملت فلسفتها وأبعادها الروحية والمعنوية، قرون عديدة أفرغت من محتواها الحقيقي، لتتحول مجرد حركات طواف وسعي ووقوف ورمي ومبيت وتقصير ونحر، يقوم بها ملايين الناس كل عام، ثم يرجعون الى مواطنهم، مثلما خرجوا منها قاصدين الحج. دون تحقيق المرجوّ منه أهدافا ومبادئ . إنّ من لم يطّلع على الآداب المعنوية للعبادات، التي تركها لنا الامام الخميني بعد ان استخلصها من فكر الاسلام المحمدي الأصيل، معاني عميقة في آداب السير والسلوك، الذي تركه لنا ائمة الهدى عليهم السلام، لا يمكنه أنه يستوعب كنهها، ويحقق بدوره مقصدها، وفي مساءلة الامام علي بن الحسين عليه السلام للشبلي عن مناسك الحج(1) منهل لمن سلك طريق الهدى.

لقد التفت الامام الخميني الى جملة تلك النقائص في تناول هذه الشعائر وتطبيقها فأعطاها ما تستحق من شرح وبيان تسهيلا للأنفس على تحصيلها والسالكين على بلوغ حدّها، وكان الحج حجر الزاوية في بنائه التربوي لأتباعه ومريديه، ومنهم شكل وفادة علمائية وايمانية صالحة، تمكنت من إيصال صوته الصادق، وتبليغ فكرته الراجحة الى بقية المسلمين، تلافيا من الاستمرار في الوقوع فيما وقعت فيه أجيال قبلنا، من سلبية التعاطي مع الحج، فقد قال:  إنّ أعظم آلام المجتمعات الاسلامية، هي أنها لم تدرك لحد الآن الفلسفة الحقيقة للكثير من الاحكام الالهية، وأنّ الحج ورغم كل الأسرار والعظمة الكامنة فيه، لا يزال باقيا بصورة عبادة جافة، وحركات غبير مجدية ولا مثمرة (2).

أسرار الحج وفلسفة أركانه، قبل انتصار الثورة الإسلامية، بهتت في ادائها، بحيث اقتصرت على مجرد حركات رتيبة، أصبحت تشكل المشهد العام للحج، ويبدو أن طغاة العصور التي اعقبت العصر النبوي، كان لها دور في حرف مناسك الحج عن دورها، وتقزيمها الى الحد الذي وصلتنا فيه مجرد حركات بلا روح، ومن داست اقدامه القذرة البيت الحرام، وقذف البيت العتيق بالمنجنيق، واستهان بالأنفس المحترمة، قتلا وترويعا وتعذيبا، لا يمكنه أنه يستوعب شيئا من ادبيات ومعنويات الاسلام ومناسكه.  وقد بدا الحج في فكر الإمام الخميني، مرتبطا بغيره من المناسك، المؤدّية إلى بناء القيمة المعنوية لدى الفرد المسلم، فالصلاة معراج المؤمن إلى الله، بها تنفتح عليه بحسن أدائها قلبا وقالبا فيوضات الباري، وتتمتّن علاقته بها، فلا يكون شيء عنده يقرّبه الى الله دونها، وصيام الأيام المعدودات، بدأ من أيام التشريق التي تلي يوم النحر، هو اقرار متجدد بالفقر والحاجة الى الله، وشعور متجدد بالتقصير في أداء مناسكه، وطلب ملحّ من أجل تزكيتها. والحج في نظر الإمام الخميني، ليس مجرّد عبادة مفرغة من معانيها، بل هو سلسلة متّصلة الحلقات من التعابير الروحية، من شأنها أن تضفي على الحاج عزما جديدا، على ترك السّلبيات التي قام بها قبل سفره الى المناسك، يندرج في إطار شحن معنويّ كبير، يدفع به حسن التعامل مع الله. وفي هذا المنحى قال الامام: عندما يقف الحاج في المواقيت الالهية والمقامات المقدسة، في جوار بيت الله تعالى المبارك، ينبغي ان يراعوا آداب الحضور، في محضر الله المقدس، وان لا تتعلق قلوبهم بأي شيء غير الحق، وتتحرر من كل ما هو غير حبيب، وأن تتنور بأنوار التجليات الالهية، حتى تتجمل هذه الاعمال ومناسك السير الى الله، بمحتوى الحج الابراهيمي، ومن ثم الحج المحمدي، وأن يعودوا الى اوطانهم سالمين من أيام الانانية، يحملون معهم زاد معرفة الحق وعشق المحبوب(3). ولعل أكبر أهداف الحج الابراهيمي المحمدي، يكمن في السير الماديّ والمعنويّ الى خالق الكون والحياة، حيث لا يكون ذلك السّير صالحا ومجديا بغير اذلال النّفس،  أذلّة على المؤمنين(4) ،  وأن يكون الذّل في الله أحب اليه من العز في عدوّه(5)، وكسر صنمها الحائل دون تلقّي الفيض الالهي، يؤدّي الى الالتفات الى بقية الاصنام والاوثان في المجتمع، ليتخلّص نهائيا من الوقوف عندها واعتبارها. وهنا قال الامام الخميني: إنّ جميع جهود الانبياء ابتداء من ادم، وصولا الى خاتم الانبياء، كانت لهذا الغرض، وهو السير الى الله سبحانه وتعالى، وتحطيم اصنام واوثان النفس، التي تعتبر اكبر الأوثان، وعلى اثر ذلك تحطيم الاوثان الاخرى(6). ويعتبر الامام الخميني إعلان البراءة من المشركين من أهمّ شعائر الحج، ذلك الاعلان الذي قام به الامام علي عليه السلام، بأمر من النبي صلى الله عليه وآله وسلم في موسم الحج الأكبر، السنة التاسعة من الهجرة النّبوية المباركة، وتوقّف بعد وفاته صلى الله عليه وآله وسلم، فدعا الى أعادة العمل به، ليفعّل من جديد مفهوم الولاية والبراءة في الاسلام، قال تعالى: واذان من الله ورسوله الى الناس يوم الحج الاكبر أن الله بريء من المشركين ورسوله فان تبتم فهو خير لكم (7). وفي بيان له قال: إنّ إعلان البراءة من المشركين في موسم الحج هذا، اعلان سياسي عبادي، أمر به رسول الله (8). وفي توصية منه الى مسؤولي وفد الحج قال: أساسا البراءة من المشركين هي من واجبات الحج السياسية، التي بدونها لا يكون الحج حجا(9). ولقد شكل ذلك النداء العظيم، رهبة وفزعا في قلوب المشركين، من أهل الاستكبار وعملائهم، فسعوا بكل الحقد والشيطنة التي في نفوسهم، الى اخماد تلك الصرخة المدوّية، يوم التروية ذات سنة 1987، وارتكبوا مجزرة مروّعة، ذهب ضحيتها مئات الحجيج، أغلبهم من الايرانيين، فلم يثني الشعب الايراني المؤمن بحقائق دينه، ونظامه الاسلامي العتيد عن المضي قدما، من أجل تحقيق أهداف الاسلام في مقاصده السياسية، بالبراءة من قوى الشرك العالمي، التي خططت لإضعاف المسلمين، ومحق آثار دينهم من ثقافتهم ومعاملاتهم. وتكللت جهود ايران الاسلامية بالنجاح، رغم كل الأعمال العدائية التي مورست ضدها، واستطاعت بحكمة وسياسة قيادتها، تخطي كل العراقيل في طريقها، وهي اليوم تقف بعزّ اسلامها،( أعزة على الكافرين) وإيمانها العميق بأنها حملة رسالة حق، واثقة بأن الله معها، تقارع المشركين باقتدار، ثابتة على مواقفها ومبادئها، لم تتزحزح عنها قيد انملة، بينما سجّل العالم تراجع وتخاذل واهتزاز مواقف أعدائها  ولينصرُنّ الله من ينصره إن الله لقويّ عزيز(10). ومثلما دعا الامام الخميني الى احياء شعيرة البراءة من المشركين دعا أيضا الى تفعيل مفهوم الولاية بين المسلمين على اختلاف مذاهبهم، عملا بقوله تعالى : إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون(11) وكان من أولويات الامام الخميني التأليف بين المسلمين على اختلاف مشاربهم الفقهية، وكان له في موسم الحج دعوة الى الوحدة الاسلامية حمّلها بعثته الى الحج وابناؤه من الشعب الإيراني ودعاهم الى رفع شعارها والقيام بما يلزم من المودّة والتآلف بينهم وبين مختلف الجنسيات القادمة لأداء مناسك الحج، وكانت المدينة مركز الدعوة الى الوحدة الاسلامية باعتبار أن النبي قان فيها بعقد روابط الاخوة بين المهاجرين والانصار. (إنهم يحاولون عبثاً زرع الفرقة.. إن المسلمين أخوة في ما بينهم، ولا يتفرقون من خلال الإعلام السيئ لبعض العناصر الفاسدة، أصل هذه المسألة وهي الشيعة والسنة، أن السنة في طرف، والشيعة في طرف آخر، قد وقعت بسبب الجهل والإعلام الذي يمارسه الأجانب، مثلما نلاحظ بين الشيعة أنفسهم، وجود أشخاص مختلفين في ما بينهم، يحارب أحدهم الآخر، ووقوف طائفة ضد أخرى، بين نفس الإخوة أهل السنة، جميع طوائف المسلمين تواجه اليوم قوى شيطانية، تريد اقتلاع جذور الإسلام، هذه القوى التي أدركت أن الشيء الذي يهددها هو الإسلام، وأن الشيء الذي يهددها هو وحدة الشعوب الإسلامية، على جميع المسلمين في كل بلدان العالم أن يتحدوا اليوم في ما بينهم، لا أن تقف طائفة هنا وتطرح نفسها، وتقف طائفة أخرى في مكان آخر وتطرح نفسها أيضاً(12) وقد أوضح الامام الخميني في خطابه، أن ما يقوم به أعداء الاسلام المحمدي منذ زمن، من جهود جبارة، تهدف الى الحيلولة دون قيام وحدة بين المسلمين، مستعينين على ذلك بإثارة الفتن، وبث روح الفرقة والعداوة بينهم، معتبرا أن الخطر الذي يتهدد الاعداء، هو وعي المسلمين بواقعهم، وسعيهم الى تغييره، ولن ينجح ذلك التغيير من دون ارضية وحدة حقيقية ربّانية، تؤسس لمستقبل زاهر للإسلام، محذّرا بأنه يجب التّنبّه والحذر من أعداء الداخل، الذين يمثلون حجر عثرة في طريق الوحدة الاسلامية، بإثارتهم النعرات الطائفية. هذا هو مفهوم الحج في فكر الامام الخميني، قد تعلّق به دور سياسي كبير، بتوجيه بوصلة المسلمين، الى تقريب ألفتهم وتحقيق وحدتهم، وفي نفس الوقت تجسيد البراءة من الاستكبار والصهيونية العالميين، أعداء الاسلام الحقيقيين، بفضحهم وقطع ايديهم من مصالح بلداننا وخيرات شعوبنا، واعتقد أن رجل الاصلاح في هذا العصر، قد قدّم للامة الاسلامية الاصيل ثمار فكره المحمدي الأصيل، لتحدث به نهضة إسلامية كبرى، تمهّد لزمن ظهور الاسلام على الدين كله

. المصادر

  • مستدرك الوسائل ومستنبط المسائل المحدّث النوري ج10 ص 166الى172
  • صحيفة الامام ج21ص75
  • صحيفة الامام ج16ص384
  • سورة المائدة الآية 54
  • تحف العقول ص 442
  • صحيفة الامام ج 15ص51
  • سورة التوبة الآية 3
  • صحيفة الامام ج 18ص91
  • صحيفة الإمام ج21ص22
  • سورة الحج الآية 40
  • سورة الحجرات الآية 10
  • من خطاب له قدس سره حول اتحاد الامة الاسلامية ودعم فلسطين
شارك على :
المحور العربي © كل الحقوق محفوظة 2023