الدّرس عدد 72 لذكرى النّكبة العربيّة بفلسطين: “ما أُخِذ بالقوّة لا يُستردّ بغير القوّة”

 الدّرس عدد 72 لذكرى النّكبة العربيّة بفلسطين: “ما أُخِذ بالقوّة لا يُستردّ بغير القوّة”

بقلم   د. مصباح الشيباني |

يقول الله تعالى :” وذكّر فإنّ الذّكرى تنفع المؤْمِنين” ( الذّاريات، الآية 55).

  كلّ أملنا من هذا النص أن نذكّر العملاء العرب عامّة ولمنتسبي “الحركات الإسلاميّة” خاصّة، الذين أصبحوا تائهين في “الأزقّة المُظْلِمة” للتّطبيع مع الصّهيونية، وأن ندغدغ فيهم قليلا من “روح الوطنية” التي يتفقدونها، ونساعدهم على أن يعوُوا تاريخ أمّتهم ويميّزوا بين الأعداء والأصدقاء ولو بعد حين!

 اعتمدت الحركة الصهيونية، كما هو موثّق في عديد المصادر التاريخية، منذ إصدار “وعد بلفور” ( 02 نوفمبر عام 1917) وما قبله ( منذ مؤتمر بازل في سويسرا 29 أوت1897) خطّة قائمة على استراتيجية واضحة لتهويد فلسطين وبناء مشروعها الاستيطاني والإمبراطوري في المنطقة العربية عبر مختلف الوسائل (الخشنة والناعمة) وكل أشكال الخدع السياسية ضمن استراتيجيتها التي نصت عليها “بروتوكولات حكماء صهيون” وملخّصها :” ما أصبح في يدنا هو لنا، وما يزال في يد العرب هو المطلوب“.  

  لم يشهد العالم في تاريخه المعاصر حدثاً استعماريّاً واستيطانيّاً بقرار “دولي” مثلما حدث في أرضنا العربية بفلسطين. فاعتراف “منظمة الأمم المتحدة” بقيام دولة “إسرائيل” (قرار مجلس الأمن الدولي رقم 181 لعام 1947 الخاص بإقامة دولة إسرائيل) المؤرخ في 29 نوفمبر 1947، في فلسطين كان حدثا استثنائيا وسابقة تاريخية في الاعتداء على حقوق الإنسان وميثاق منظمة الأمم المتحدة نفسه شكلا ومضمونا. ولأول مرة في تاريخ الدّول تُؤسّس دولة على أنقاض دولة أخرى، ويُهجّر شعب من أرضه ليستوطنها شعب آخر بقرار صادر عن منظمة الأمم المتحدة. 

  ومن المفارقات أنّ الأمم المتحدة التي أنشأت ” دولة إسرائل ” هي نفسها التي اعتمدت عبر هيئتها” الجمعية العامة للأمم المتحدة” في جلستها العامة رقم 2400 في 10 نوفمبر 1975 قرارا تحت عدد 3379 ينص على “أنّ الصهيونية شكل من أشكال العنصرية والتمييز العنصري”، وطالب هذا القرار جميع دول العالم بمقاومة الأيديولوجية الصهيونية التي تشكل خطرا على الأمن والسلم الدوليين.وقد كانت كل الدول العربية، ومنها تونس،موافقة على هذا القرار. ولكن كما هو معروف تم إلغاء هذا القار في 16 ديسمبر 1991 بعد انطلاق ما تسمى بـ”مفاوضات السّلام” مع العدو الصهيوني في مؤتمر مدريد في أكتوبر 1991. وبعد مضي أكثر من 26 سنة على الغاء هذا القرار يكاد لا يختلف اثنان على أنّ صفة العنصرية مازالت ملازمة للحركة الصهيونية العالمية ولدولتها إسرائيل في فلسطين المحتلة. فما الذي يدفع بعض العرب من تغيير مواقفهم؟ أليس الاحتلال الصهيوني لفلسطين مازال قائما؟ ألا تمارس دولة العصابات الصهيونية في فلسطين وخارجها أبشع أنواع الارهاب والقتل بالاغتيالات والحصار والتّهجير لأصحاب الأرض، وهي تعدّ كلها من أخطر الجرائم العنصرية التي عرفتها الإنسانية في تاريخنا المعاصر؟

   هذه الحقيقة والمظلمة التاريخية في حقّ أمّتنا وغير المسبوقة في العالم، ينبغي على شبابنا العربي والمسلم أن يقرأها قراءة موضوعية تقوم على أساس الوعي بالتاريخ حتى لا يتملّكه الشكّ أو عدم الثّبات في الدفاع عن حقه في استرداد أرضه المغتصبة في فلسطين. وإذا لم يمسك الشعب العربي بالسّاعة والزمن ولم يكن لديه الوعي الإستراتيجي الكافي بأبعاد هذه القضية، فإنّه لن يكون له أملا ونصرا في المستقبل، وسيظل المأزق العربي مستمرا بل سيزداد غموضا وتعقيدا. وقد تتشوّه ذاكرته لأنّ ذاكرة الشعوب “ليست صندوقاً من حديد وصلب دونه سلاح وعليه أقفال، وإنّما هي وعاء مفتوحُ تصب فيه وتتسرّب إليه في اليل والنهار الصور والمشاهد حول النزعات والمطامح والإيحاءات.

   ويمكن أن نذكّر ببعض المحطّات التاريخيّة في مسار بناء “دولة إسرائيل”:

 لتحقيق هذا الهدف تحالف العدو الصّهيوني مع الأنظمة العربية قبل الإعلان عن قيام دولة “إسرائيل”(1948) وبعده. فمنذ عشرينيات القرن الماضي، طرحت عديد المشروعات والمبادرات للتّسوية وللتّفويت في الأرض العربية في فلسطين وفي غيرها من الأقطار العربية. وبدأ التّطبيل والتّهليل، وعبر مختلف وسائل الدّعاية السياسية والإعلامية والمؤتمرات، من قبل بعض قادة النّظام العربي الرّسمي لوأد الثورات العربية السلمية والعسكرية، ولإسكات صوت البندقية في مواجهة العدو الغصب لأرضنا وفرض منطق التعايش السلمي مع هذا العدو. وقد انطلق هذا المشروع الاستسلامي منذ أن كانت فلسطين خاضعة إلى الانتداب البريطاني إثر نهاية الحرب العالمية الأولى عام 1918/1919.

  في عام 1921، عيّن “ليونر شتاين” من قبل حاييم وايزمن” مستشارا للمنظمة الصهيونية، وكانت مهمّته دراسة الوضع في فلسطين، وإعادة تنظيم شبكة المخابرات الصهيونية، ودراسة تشكيل حزب عربي معتدل لإضعاف “الجمعية المسيحية ــ الإسلامية” التي بدأت بحملة واسعة ونجحت إلى حد ما في كشف المخطط الصهيوني في فلسطين. وبالفعل تمكن هن تأسيس ما تسمى بـ “الجمعية الوطنية الإسلامية” في أكتوبر 1921 بتمويل صهيوني، وبدا العمل على المحاور الثلاثة التالية:

1ـ عقد اتصالات مع الصحافة العربية لشرح الموقف الصّهيوني، وإصدار بياناتها باللغة العربية، لشرح النوايا “السلميّة” لليهود،

2ـ إقامة علاقات صداقة وتعاون مع بعض الوجهاء والأعيان الفلسطينيين والعرب،

3ـ التفاوض مع الأمير عبدالله ودعمه ماليا وسياسيا بوصفه أميرا على فلسطين وشرق الردن لقاء اعترافه وتعهده بتسهيل إنشاء ” الوطن القومي لليهود”.

  ثم بدأت الاتصالات المباشرة لتنفيذ المشروع الصهيوني منذ عام 1936، عندما توجه القسم العربي في “الوكالة اليهودية” (إلياهو ساسون) على الملك عبدالله (الأول) ليأخذ رأيه في قضية تقسيم فلسطين. لقد تحدّث هذا الوسيط عن عديد المقابلات التي تمت بينه وبين كل من “موشيه ديان” و”الملك عبدالله” في مقال تحت عنوان “شعاع في ظلمة الكراهية”، حيث تناول فيه الطريقة التي كانت تتم فيها تلك المقابلات، وكيف تمكنوا الصهاينة من الحصول على عديد التنازلات، “عن طيب خاطر” من قبل الملك عبدالله، والتي مكنتهم من تعزيز تقدّمهم في الحرب ضد المقاومة الفلسطينية التي وقفت ضد التهجير والاستيطان لليهود.

  لكن رغم ذلك، لم تتزقّف أشكال المقاومة الشّعبية لسياسة التّهويد والاستيطان الصهيوني في فلسطين كثير من المحطّات (“ثورة البراق” في 22 أوت 1929) وعاودت الظهور مع ثورة 15 أفريل 1936، التي بدأت معها مرحلة مهمّة في تعريب القضية الفلسطينية (أصبحت ذات بعد قومي عربي) بقيادة “عزالدين القسّام” (سوري)، فأدرك الصهاينة وحلفائهم البريطانيين والأنظمة العربية خطورتها على مشروعهم، خاصة بعد أن شكّلت بعض القوى الفلسطينية ما تسمّى بـ”اللّجنة العربية العليا” التي قرّرت الإضراب العام وطالبت بتحقيق ثلاثة أهداف أساسية وهي: 

1ـ إيقاف الهجرة ومنعها منعا تاما،

2ـ منع انتقال الأراضي العربية لليهود،

3ـ إنشاء حكومة وطنية مسؤولة أمام مجلس نيابي منتخب.

 ولمواجهة هذه الثورة الشعبية وتبعاتها استخدم الاستعمار البريطاني جميع أنواع القوّة وآليات القمع للقضاء عليها واغتيال قادتها، لكنّه لم يفلح في ذلك، فالتجأ إلى الحكّام والملوك العرب بهدف الضّغط على الثوار العرب والفلسطينيين، وأصدروا نداءً يوم 8 أكتوبر 1936 جاء فيه: ” لقد تألّمنا كثيرًا للحالة السائدة في فلسطين، فنحن بالاتفاق مع إخواننا ملوك العرب والأمير عبدالله ندعوكم إلى الإخلاء إلى السّكينة حقناً للدّماء معتمدين على حسن نوايا صديقتنا الحكومة البريطانية ورغبتها المعلنة لتحقيق العدل“. فهذا البيان الصّغير في حجمه استطاع أن يُخمد ثورة دامت ستة أشهر ويمنعها من تحقيق أهدافها.

   وفي هذا الإطار، يمكن أن نذكّر ببعض محطّات التطبيع العربي الرّسمي :

  1ـ  منذ انعقاد “مؤتمر مدريد للسّلام” (1991) أصبح العزف منفرداً، وأصبحت القوى الوطنية مفتّتة ومتصارعة ليس على الصّعيد العربي فحسب، وإنّما على الصّعيد الفلسطيني أيضا بين مؤيّد ومعارض للتّفاوض. وأصبح البعد القومي العربي للقضية الفلسطينية شبه غائب في الكتب والبرامج المدرسية وفي صفحات الصّحف والفضائيات العربية الخاصة منها والعامة. وهو مؤشّر يدل على التّجاهل المتعمّد من قبل الغرب الإستعماري والأنظمة العربية المتواطئة معه لروح القضية الفلسطينية والعمل على تبخيسها وتحقيرها لدى المخيال الاجتماعي والسّياسي العربيين. والأمر ذاته بالنسبة إلى الاهتمام بقضايا الأحداث الجارية في مجتمعاتنا العربية والمذابح التي ترتكب يوميا ضد الأبرياء من أبناء هذه الأمة في مختلف المواقع والسّاحات في العالم.

2ـ  يعرف الجميع أنّ الحكام العرب لما قبلوا مفاوضات “السّلام” مع العدو الصهيوني وذهبوا إلى “مدريد” (1991) لم يكونوا ضعفاء مثل اليوم، بل إنّ الانتفاضة الفلسطينية الأولى (8 ديسمبر 1987) هي التي دفعت بـ”دولة إسرائيل” إلى طلب “السّلام” لكن توقيع “اتفاقيات أوسلو” عام 1993 أضعفت العرب والفلسطينيين وجرّدتهم من أهم قوّة في ذلك الوقت وهو سلاح الانتفاضة وعزلت المفاوضين أو “المستسلمين”عن البيت العربي، أي حوّلت القضية الفلسطينية في رأي هؤلاء المتآمرون من قضية عربية إلى قضية خاصّة بالفلسطينيين وحدهم ( مثلما نرى اليوم، اللافتات التي ترفع في شوارع بعض دول الخليج). لقد كانت  الأهداف من “أوسلو” وغيرها بالنّسبة إلى هذه الأنظمة تحشيد الرأي العام والزجّ به في تغيير معادلات مقاومة العدو، حيث سعت بكل الوسائل إلى خلق واقع جديد يسوده منطق الاستسلام والهزيمة في نفوس العرب المطبعين وغير المطبعين معاً، لكن انتصارات المقاومة المسلحة العربية في فلسطين ولبنان مع العدو كذّبت هذه الأطروحة وأفشلتها في تحقيق أهدافها.

3ـ انخرطت أغلب الأنظمة العربية في مسرحية “المفاوضات” مع العدو ووفق شروطه في النكبة العربية في فلسطين، وأصبحت حليفًا رئيسًا في تصفية المقاومة العربية والفلسطينية بالاغتيالات لرموزها تارة، وبالسّكوت عن حروب الإبادة الجماعية للشعب العربي في فلسطين وفي غيرها من الأقطار العربية تارة أخرى( مثالا سوريا واليمن وليبيا). ودخلنا اليوم إلى أخطر مرحلة في التّطبيع والدعوات العلنية إلى التعايش السّلمي بيننا وبين العدو الصهيوني والتي جلت أخيرا في باتت تعرف بـ “صفقة القرن”. وأصبح الهدف الاستراتيجي لهذا التحالف العلني أحيانا والمتخفي أحيانا أخرى بين اعداء الداخل والخارج، هو إجهاض أي حراك شعبي عربي أو فلسطيني مقاوم للعدو وقمعه استجابة للضغوط الخارجية أولاً، وتحسبا من تداعياته في السّاحات العربية الأخرى ثانيًا. ولتحقيق هذه الأهداف اعتمدوا تحالفوا مع الأحزاب الإسلاموية من أجل تغيير بوصلة النضال العربي، وعبر جميع أصناف الحملات والتشويه الإعلامي والثقافي لطبيعة الصراع القائم بيننا وبين الصهيونية، ومحاولة إظهار على أنّ صراعنا معه هو صراع حدود وليس صراع وجود. 

 4ـ  إنّ تحقيق مشروع “دولة إسرائيل الكبرى” والعمل على تحويله إلى واقع ” جيوـ سياسي” كان ومازال يشكل مطلباً ملحّاً وهدفاً مشتركا بين الأنظمة العربية والأحزاب الإسلاموية الرجعيّة، وبين الكيان الصهيوني. فالقضية الفلسطينية أصبحت تواجه منذ2011، أخطر مؤامرة من قبل أحزاب الفتن والإرهاب والابتزاز وأنظمة النّهب والفساد والتجويع، وباتت أمتنا العربية تتعرّض إلى أخطر سياسة عدوانية مجنونة تقودها شلل سياسية إسلاموية أعمتها مصالحها الذاتية الضيقة، بدعم مادي وإعلامي سخي من القوى الإستعمارية من الشرق (تركيا) والغرب( أوروبا وأمريكا) معًا. 

   5ـ إنّ هذه الاستراتيجية الجديدة أو “المسلكية” الأخير للتّطبيع العربي ( صفقة القرن) التي وضعت منذ قمة “جامعة الدول العربية”( في الأردن الدورة العادية عدد28 في 29 مارس 2017)، استهدفت أساسًا تحويل وجهة النّضال العربي ومقاومته المسلحة للعدو الصهيوني، وتغيير أساليب الاحتواء لهذه المقاومة عبر آليات سلطوية جديدة مثل: الاستبعاد والتشويه والحصار المادي والإعلامي والرّمزي لقادة المقاوة وداعميهم ( سوريا وإيران)، في محاولة منها لترميم قواعد أنظمتها التي أصبحت متهالكة وآيلة للسقوط والاندثار في كل حين ولحظة، وهي مسلوبة الإرادة والسّيادة حتى على المقاعد التي تجلس عليها في مكاتبها، وهي تدرك أن ” الشّجرة الميّتة لا توفّر ملاذًا، ولا يُعطي الجَنْدب ( بمختلف معانيه: الحشرية والبشرية) راحةً، ولا تصدر الصّخرة الجافّة خرير ماء” مثلما يقول المثل.

  من أهمّ دروس هذه الأحداث التّاريخية وغيرها كثير لا يتسع المجال لذكرها، أنّه في جميع معارك التحرّر الوطني تشهد السّاحات الداخلية انقساما عموديا بين قوى المقاومة وبين قوى المساومة. وغالبًا ما يكون الخطر الحقيقي على المقاومة العربية في فلسطين أو في غيرها من المواقع، يتمثّل في أنظمتنا العربية باعتبارهم ليسوا إلا وكلاء للصّيونية في مواجهة أي حراك ثوري وتحرّري في الوطن العربي من أجل وضعه أمام أمرين كلاهما مرّا: إما اليأس والإحباط في هزيمة العدو مثلما وقع في عديد المعارك (2006- في لبنان/ 2008 في فلسطين)، أو بقبول شروط التّسوية غير العادلة مع العدو الغاصب لأرضنا.

  نعتقد أنّه من لا يعي بهذه الحقائق التاريخية لا يمكنه أن يعي بشروط التحرّر العربي في المستقبل، باعتبار أنّ الوعي بتاريخنا هو أوّل شرط لفهم واقعنا وتغييره. كما أنّ كلّ من يراهم على “مفاوضات الاستسلام” والحوار لاسترجاع الأرض العربية المغتصبة من العدو فهو واهِمٌ، وأنّ إرادة الشعوب وحدها هي التي تستطيع تغيير معادلة موازين القوّة مع أي عدوّ ( المقاومة اللبنانيّة والفلسطينية مثالاً)، والدّرس الأول والأخير الذي ينبغي أن نتعلّمه بعد مرور 72 عامًا من النّكبة العربية بفلسطين، هو “أنّ ما أخذ بالقوّة لا يسترد بغير القوّة”. 

 

شارك على :
المحور العربي © كل الحقوق محفوظة 2023