الشعب التونسي بين الكرامة والمهانة…بقلم محمد الرصافي المقداد

الشعب التونسي بين الكرامة والمهانة…بقلم محمد الرصافي المقداد

كشفت الانتخابات في تونس عن وجه لم تعهده البلاد من قبل وبدت سباقة فيه حتى تلك البلدان التي نشأت فيها تجربة الديمقراطية، وضع الجميع موضع  التساؤل الحائر الى اين نحن ذاهبون؟

الصدمة التي مني بها المرشحون عن الأحزاب، سواء الحاكمة بالتوافق، او تلك التي تعد ضمن المعارضة التقليدية، وحتى التي تأسست حديثا، نسجا على منوال نداء تونس الذي نجح في كسب الانتخابات الفارطة، صدمة جعلت الناطق باسم حركة النهضة سمير ديلو – من قوة إثرها – يستبعد حصول تلك النتائج، ويرى مصدرها غير موثوق به، وان الجهة الوحيدة المخول لها باعلان النتائج، هي الهيئة العليا المستقلة للانتخابات.

لقد تفاجأ الجميع من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، بنتائج لم يكن أغلب المواطنين يتوقعها، بأقصى ما كانوا ينتظرونه، بالتزوير والخروقات او بدونهما، ان يترشح واحد من السيستام القديم، وآخر من الشخصيات التي قدمت برنامجا مقنعا للجماهير المتعطشة للتغيير، لكن ذلك لم يحصل.

ويبدو أن قرار الفئة الناخبة من الشعب، كان القطع مع المنظومة الحاكمة، لفشلها الذريع في الوفاء بوعودها، بل إنها تسببت في تدهور اقتصادي فظيع للبلاد، وضعنا في سلسلة أزمات اقتصادية خطيرة، لم نعهدها من قبل، وقرار القطع مع منظومة التوافق، التي شكلها كل من نداء تونس وحركة النهضة، كان قرارا شعبيا ثوريا صائبا، يشكر عليه كل من ساهم فيه، وعبر عن وعي جماهيري كبير، ومسؤولية كاملة في مواجهة عبث سياسة التوافقات كالتي حصلت، ولم يكن همها سوى الحفاظ على السلطة، والمصالح الحزبية الضيقة.

اليمين الطامح لنيل نصيب اكبر هذه المرة، من الكعكة الانتخابية التونسية، التي لا تزال تسيل لعاب القوى الكبرى، الطامعة في نفوذ اكبر في بلادنا، خصوصا وأن الدول اللاعبة على ساحتها، تحت مبرر المساعدة في مكافحة الإرهاب، قد أصابته انتكاسة شديدة، لم تنفع فيها الأموال التي أهدرت لشراء الأصوات في عدد من المناطق الفقيرة والمهمشة، وكل ما قدمته لم يؤثر في شيء وكان فواصل مائوية صغيرة، لم تنقذ أصحابها من السقوط الرهيب.

وما أسفرت عليه النتائج، من جهة المترشحين للدور الثاني،  جاءت متناقضة تماما، ففي حين اصاب من اختار الأستاذ قيس سعيد، ليكون مرشحه، اخطأ اخرون باختيار نبيل القروي، باعتباره منتميا لمنظومة الفساد والتهرب الضريبي، وكان من قبل أحد أهم مؤسسي حزب نداء تونس، والعنصر المؤثر في ترشيح الرئيس السابق الباجي قايد السيسي، فكيف صعد نقيضان الى الدور الثاني؟

ببساطة تامة، استطاع نبيل القروي الذي يطلق عليها المثقفون في البلاد لقب المافيوزي، بدهاء وتخطيط كبيرين، ان يجمع حوله مخزونا كبيرا، من فئات الشعب المسحوقة، في المناطق النائية في الشمال الغربي والوسط والجنوب، بفضل مشروعه الخيري ظاهرا (يرحم خليل)، أعطاه شعبية وميل كبيرين، من تلك الفئات المهمشة والفاقدة السند، جمع رصيدا معتبرا من الاصوات، أوصله الى الدور الثاني، بنسبة 15.5 % مترشحا ثانيا، وراء الأستاذ قيس سعيد، الذي جاء أولا وحصد أكثر من 19 % من الأصوات.

ضربة موجعة ومفاجئة للمثقفين، وأصحاب الحركات والأحزاب والجمعيات المدنية، التي لم تحسب حسابا لعاطفة الفئات المعدومة من الشعب، أسقطت حساباتهم جميعا في الماء، واخص بالذكر اليسار الراديكالي (الوطد) المنجي الرحوي والمعتدل (الجبهة الشعبية) حمه الهمامي، الذين كان حريا بهما، ان يجتمعا على مرشح واحد، وليس اثنين، ورصيدهم الانتخابي لا يكاد يظهر عددا، فضلا عن النسب المائوية، خطأ ستكون له تداعيات أخرى، ستزيد من انقسام اليسار، وتنافر قياداته، مما سيزيد من فشله جماهيريا، ستكون له آثار أخرى، لا تقل سلبية في الانتخابات البرلمانية القادمة هذه السنة.

العامل السلبي الكبير الذي سجلته الانتخابات الرئاسية الحالية، تمثل في احجام حوالي 55 % من الشعب، المسجل في القوائم الانتخابية، عن الإدلاء باصواتهم، لعل نسبة منهم اعاقهم تزامن توقيت الانتخاب، بفترة التسجيل الجامعي – وقد سبقت دعوات لتأخير عن الموعد الحالي- ضخامة حجم الممتنعين عن المشاركة في الانتخابات، حول العرس الانتخابي من مظهر عام للوعي السياسي، الذي بلغه الشعب التونسي، الى حالة شاذة من الديمقراطية، على مقاس المردود الذي قدمه الائتلاف الحاكم سلبا للبلاد، كانما هو عقوبة جماعية له، ذات وقع شديد على الخاسرين في الانتخابات منهم، وخصوصا هؤلاء الذين حكموا فينا بهوى حزبي ضيق، ومصالح شخصية، كالتغطية على جرائم اقتصادية، بالتمتع بالحصانة البرلمانية والوزارية، توقيا من التتبع القضائي، مثال على ذلك (مهدي بن غربية)  

حركة النهضة التي جمعت حولها بعد 14  جانفي 2011 جماهير عريضة، ممن كانوا يعتقدون أنه بإمكانها أن تنقذ البلاد من مصير سيء، كان ينسج في ظل النظامين السابقين، وجدت تلك الجماهير فيها أنانية التصرف، وإعطاء الأولوية بابناء الحركة دون سواهم، وهو ما جعل مخزونها الجماهيري الانتخابي يتراجع في مناسبات سابقة، ووصل اليوم الى حد الاختلاف الداخلي، الذي أثر حتى على المخزون الخاص بالحركة، وهذا يعطينا فكرة الى اي مدى يذهب الاستبداد بالرأي لرئيسها، والقادم سيكون أسوأ، اذا تواصل حكم الفرد في الحركة بعقلية الملكية.

ما يجب علينا القيام به، هو العمل من الان، من اجل تفادي السقوط، في انتخاب رئيس، قد يزيد من معاناتنا، وليس الى ما سيذهب إليه الفاشلون، في توقي نقمته عليهم، بعد ان حرضوا عليه واودعوه السجن، فما يهمنا نحن اليوم، هو صعود الأستاذ قيس سعيد، لأنه الأكفأ مقارنة بنبيل القروي،  والقادر على إدارة البلاد من موقعه كرئيس مرتقب لتونس، ومساعدته على قيادة تونس، بلا عرقلة من احد، لأي مبرر كان، فهو لا يمتلك عصا سحرية، ولا يمكنه أن يحقق إنجازا لفائدة الوطن، دون أن تتكاتف جهود الجميع، وخذلانه هو خذلان لتونس وعرقلة خمس سنوات قادمة من الأمل بالتغيير الإيجابي.

الماكنة والمخزون الانتخابي الذي هيأه القروي بدهائه بإمكان من ينخرط في عمق معاناة الشعب ان يحصل افضل منه وحتى يكون الاعداد للانتخابات مبكرا جدا وفاعلا ملامسا لمعاناة الفئات المهمشة والفقيرة من الشعب  والتي تمثل غالبية فيه، يجب على من يسعى لحكم البلاد، ان يكون مواسيا لهؤلاء بما يستطيع، ولو بالكلمة الطيبة التي يشعرون منها بصدق الطرف المبادر وحسن نواياه.

نحن لا نريد جمعيات خيرية على نمط (يرحم خليل)،ليست نابعة من مواساة صادقة، وتقدم فيها المساعدات بلا دعاية لشخص بعينه، نحن عفيف وكريم في نفس الوقت، لذلك  نريد ان ننتهي من مشروع خبيث، اسمه يرحم خليل، لا علاقة له بحسن النية ولا الصدق، وبقاء هذا العمل الخيري ظاهرا، الموجه لهدف غير نزيه،  ومستفاد منه شخص مشبوه في علاقاته وتاريخه ومستراب في نواياه،  من شأنه أن يديم عليه عاطفة شعبية، قد تبقيه رئيسا على تونس، في صورة ترشحه طبعا، عبر هذه الالية التي جعل من قناته قبلة لاستقطاب الخيرين البسطاء الذين انطلت عليهم حيلته.

باب التحيل على المواطنين، باستدراجهم الى هذا العمل الخيري المشبوه وقد ثبت تأثيره على مجرى نزاهة الانتخابات يجب أن يغلق نهائيا باعتماد قانون يحول بين ذوي الاطماع السياسية وبين أهل البر والإحسان والمستفيدين من مواساتهم، فلا مجال مستقبلا لان يتسلق فاسد طلبا للسلطة على ظهور هؤلاء المساكين وما قدمه إليهم باليد الحذاء أخذه منهم باليد الأخرى، والله أعلم بما سيسفر عن ذلك، من انحراف شامل لسياسة البلاد.

سياسة تونس يجب ان تدبر جماعيا، فقد ولت سيطرة الحزب الواحد، و انتهينا من زمن الفراعنة، الذي دخل تاريخ غبن الشعب، وارتهان البلاد بالقروض، ولم يعد هناك مجال لعودة حكم الفرد، في قطيع من الاغنام حرم عليها حتى رغاؤها من الجوع والحاجة، اللهم إلا حكمت فئة من الشعب باحكامها ديمقراطيا، ببقاء (يرحم خليل) يستغل الناس سياسيا بكرتونة مواد غذائية، او اثاث بيوت مستعملة، دفع أغلبه أهل البر والإحسان وليس المافيوزي.

اما اليائسون من شعبنا، الذين ظفروا الشيب في البطالة، واعتزلوا الساحة السياسية، قرفا  من كذب العابثين فيها بمستقبل البلاد والعباد، فعليهم ان يرجعوا انفسهم في قرارهم لانه في كل الحالات لا يخدمهم في شيء، من باب أولى أن تكون لهم كلمة وراي، بدل اعتزال الساحة السياسية باستحقاقتها، واعتزال الساحة فراغ يسمح العابثين بان يغرسوا بدورهم الخبيثة بيننا فتعيق طموحاتنا في ان نكون بلدا حرا مستقلا بحق عن القوى الخارجية المستفيدة من انقسامنا وعدم وحدتنا، فهل سيعي أبناؤنا انهم يواجهون تحديات كثيرة وان ابتعدوا عن استحقاقاتهم ستؤثر على مستقبلهم؟

شارك على :
المحور العربي © كل الحقوق محفوظة 2023