العداء الامريكي لايران وإنقلاب السحر على الساحر…بقلم الدكتور بهيج سكاكيني

العداء الامريكي لايران وإنقلاب السحر على الساحر…بقلم الدكتور بهيج سكاكيني

العداء الامريكي لايران وكذلك التوتر والتصعيد ما بين الولايات المتحدة وإيران لا يعود فقط الى قضية انسحاب الادارة الامريكية من الاتفاقية الموقعة بين إيران والدول الست الكبرى حول برنامج إيران النووي فجذور تسمم العلاقة يعود الى ابعد من ذلك بكثير. وهنالك من يعتقد وبحق على ان العقود الطويلة من الحرب الاقتصادية الخانقة المتمثلة بما سمي العقوبات الاقتصادية قد شكلت “عقدة” من الصعب إن لم يكن من المستحيل حلها.
اعتقد البعض خطأ بان ازاحة او إقالة مستشار الامن القومي بولتون المعروف بتعطشه الى الحروب وخاصة مع إيران وفنزويلا كان من الممكن ان يفتح إمكانية فتح علاقة مع إيران ولو بحدها الادنى والذي يمكن البناء عليها وتطويرها في المستقبل لصالح التهدئة وخلق فرص مواتية لخفض التوترات والارهاصات في المنطقة وعودة نوع من حالة الاستقرار. وهذا ما راهن عليه البعض ولكن هذا لم يتحقق لان هنالك عوامل اخرى لعبت دورا كبيرا للتاثير على المدى البعيد. وبعض هذه العوامل تعود الى الماضي وربما الاهم يعود الى ما ستكون عليه إيران مستقبلا من حيث دورها ووزنها وفعلها في المنطقة وقدرتها على التأثير على مجرى الاحداث بما لا يتناسب ولا يتناغم مع الاستراتيجية الامريكية في المنطقة وخاصة فيما يتعلق بمصادر الطاقة والتحكم في طرق إمدادها الى جانب تأمين “الامن” للكيان الصهيوني باعتباره القاعدة العسكرية المتقدمة في المنطقة للدفاع عن المصالح الامبريالية الغربية وعلى رأسها الامبريالية الامريكية. وهذا ما اصبحت الادارة الامريكية تجاهر به على العلن ليس فقط من خلال التصريحات بل من خلال سياساتها العدوانية على الارض وتقديم الدعم الى أدواتها وعملاءها في المنطقة سواء.
فتقديم الدعم اللامتناهي لآل سعود في العدوان الغاشم والهمجي على اليمن بالاضافة الى الضغوط التي تمارس على العراق واستخدام زلمها في بغداد وتشجيع الفساد المستشري في المؤسسات الحكومية واستخدام اراضيها لتحريك القوات الامريكية من هنا وهناك والتصريحات بأنها باقية على هذه الاراضي, الى جانب الحرب الكونية على الوطن السوري وتحريك الساحة اللبنانية ودفعها نحو الفتن الطائفية والمذهبية كل هذه السياسات العدوانية أحد اهدافها الرئيسية هي محاولة الاحاطة بإيران واحتواءها. وهي نفس السياسة العدائية تجاه روسيا الاتحادية ومحاولة احتواءها من خلال نشر القواعد العسكرية الامريكية في الدول المجاورة لها.
فيما يخص الماضي لا اعتقد ان الشعب الايراني قد نسي ما قامت به اجهزة المخابرات الامريكية والبريطانية التي تعاونت فيما بينها لاسقاط الرئيس المنتخب مصدق عام 1953 لانه تجرأ على إتخاذ الخطوات والاجراءات التي كانت ستضع حدا لعمليات النهب لثروات إيران وخاصة النفطية منها من قبل الشركات البريطانية والامريكية على وجه التحديد. وقامت أجهزة المخابرات الغربية باستبدال نظام مصدق بنظام الشاه الاستبدادي والديكتاتوري الذي حكم البلاد بإطلاق يد اجهزة مخابراته الملقبة بالسافاك الذي عمدت على التخلص من المعارضة عن طريق التنكيل والقتل والاغتيالات والزج بالسجون والتعذيب الوحشي. واستمر حكم الشاه الى ان تم إسقاطه على يد ثورة جماهيرية شعبية عام 1979 . والولايات المتحدة ومنذ ذلك الوقت لم تغفر للشعب الايراني ثورته واسقاط نظام الشاه المستبد والذي كان يشكل إحدى الركائز الاساسية في السياسة الامريكية واستراتيجيتها في المنطقة. وقامت الادارات الامريكية المتعاقبة بفرض عقوبات إقتصادية على الجمهورية الاسلامية الناشئة منذ ذلك التاريخ في محاولة لتضييق الخناق عليها وإفشالها. ولكن بالرغم من كل هذه العقوبات الجائرة والمنافية لكل الاعراف والقوانين الدولية لم تنجح المحاولات الامريكية المتكررة في إسقاط النظام والدولة الايرانية لا بل وتمكنت الجمهورية الاسلامية وتحت ظل الحصار الاقتصادي الخانق ان تطور من قدراتها وإمكانياتها على جميع المستويات العلمية والعسكرية والاقتصادية..الخ وهذا ما شهد له العديد من المحللين وما رأيناه من القدرات الايرانية على ارض الواقع وخاصة في السنوات القليلة الماضية يدلل بشكل لا لبس فيه في هذا الاطار.
الانسحاب الامريكي من الاتفاقية حول برنامج إيران النووي جاء ليدعم ويؤكد الشكوك الايرانية حول مصداقية السياسة الخارجية الامريكية وصدق نواياها. وقد جاء الانسحاب بالرغم من التقارير الايجابية التي قدمت من قبل منظمة الطاقة العالمية حول التزام إيران بتعهداتها المنصوص عليها بالاتفاقية. وفيما إذا ما كان الانسحاب جاء نتيجة ضغوط من الكيان الصهيوني وبقية الحلفاء والادوات في المنطقة او نتجية عوامل اخرى فإن ذلك لم يعد ذات أهمية الان ضمن ما تشهده المنطقة من أحداث,هذا الى جانب أن الاتفاقية بحد ذاتها لم تكن الهدف الرئيسي. بالنسبة لايران وربما ايضا لغيرها من الدول فإن الانسحاب الامريكي من الاتفاقية أتى ليؤكد ما ذهب اليه الرئيس بوتين من ان الامريكيين لا يحترمون الاتفاقيات الموقعة معهم. وإيران ليست الدولة الوحيدة التي توصلت الى هذه النتيجة فتجربة كوريا الشمالية وروسيا الى جانب تركيا تدلل ايضا على عدم مصداقية او التزام في السياسة الخارجية الامريكية. والانسحابات المتتالية من العديد من الاتفاقيات والمعاهدات الدولية من جانب الادارة الامريكية حتى تلك التي ابرمت مع الحلفاء تدلل على عدم إحترام ما توقع عليه الولايات المتحدة من عقود وإتفاقيات مما يخلق نوع من عدم الثقة بها والابتعاد التدريجي عن الولايات المتحدة حتى من قبل الحلفاء التاريخين في الدول الاوروبية وغيرها.
وعلى سبيل المثال لا الحصر فإن دول الاتحاد الاوروبي رفضت إملاءات الادارة الامريكية بالانسحاب من الاتفاقية الموقعة مع إيران بشان برنامجها النووي كما فعلت ادارة ترامب كما ورفضت ان تفرض اية عقوبات جديدة على إيران ولم تذعن للتهديدات الامريكية. لا بل وقامت بالذهاب الى ابعد من ذلك وذلك بوضع الاليات المالية للتعامل مع إيران لكي تتلافى العقوبات الامريكية التي ستفرض على شركاتها نتيجة التعامل مع ايران والايفاء بالعقود التي ابرمتها بعد رفع العقوبات عن إيران متجة الاتفاق الموقع معها. وبالرغم من ان الاتحاد الاوروبي قد أبطأ في تنفيذ الاليات المالية والالتزام بما وعد إيران بتنفيذه الا ان حقيقة االانزعاج الاوروبي العلني من تصرف الادارة الامريكية والتهديد بفرض عقوبات على امريكا مقابل العقوبات التي ستفرض على الدول الاوروبية وكذلك الكيل بالمثل بشأن الضرائب والتعرفة على البضائع الامريكية المستوردة يدل على مدى التباعد من المواقف الامريكية وخاصة تلك الخارجة عن قرارات المجتمع الدولي ومجلس الامن وإتفاقيات التجارة العالمية والتي هي بمثابة إدانة واضحة للخطوات الاحادية الجانب التي تتخذها “الدولة الاستثنائية”.
ولنا مثال آخر، فإن دولة مثل المانيا والتي هي احد المنتفعين الرئيسيين من مشاريع الطاقة الروسية وشبكات أنابيب الغاز فإن رفض الانصياع الى المشيئة والاملاءات الامريكية كان دربا من الخيال في زمن ليس بالبعيد. فمؤخرا رفضت المانيا التوجيهات الامريكية لألمانيا بعدم التعاطي مع مشروع نورث ستريم الروسي الذي يسعى الى مد الدول الاوروبية وخاصة المانيا بالغاز الطبيعي الروسي متجاوزا الاراضي الاوكرانية. ولا شك ان المصالح الذاتية شكلت حافزا قويا لرفض الاملاءات الامريكية وخاصة عندما تدرك هذه الدول حجم الخسارة الاقتصادية التي تتأتى عن طريق الرضوخ الى المشيئة الامريكية. ولقد اتخذت العديد من الدول الاوروبية مثل فرنسا واسبانيا الى جانب المانيا خطوات هامة وحازمة في الاشهر الاخيرة للتأكيد على استقلاليتها وابتعادها عن السياسات الامريكية الخارجية.
أما اردوغان وخاصة بعد الانقلاب الفاشل لازاحته عن الحكم والتي يرى الكثير من المراقبين ان الولايات المتحدة واجهزة استخباراتها كان لها ضلع في الانقلاب قد اخذ العديد من الاجراءات التي تدلل على إعادة تموضع تركيا العضو في الناتو الى مسار يبتعد عن محور الولايات المتحدة هذا بالرغم من حجم الاضرار التي سببتها الادارة الامريكية على الاقتصاد التركي.
وقد تضمنت هذه الاجراءات تعاقدات تجارية مع إيران وربما الاهم هو انخراطه في المبادرات الروسية والصينية لاعادة تشكيل موازين القوى العالمية بعيدا عن الولايات المتحدة. وفي تحدي واضح للادارة الامريكية قام اردوغان بشراء منظومة الصواريخ س-400 مبالرغم من التهديدات الامريكية المتكررة له وهذه تعتبر سابقة خطيرة بحكم ان تركيا ما زالت عضوا في الناتو المحرم على دوله عقد صفقات تسليح مع روسيا المصنفة عدوا للناتو (او بالاحرى للولايات المتحدة).وقد عمد في الفترة الاخيرة لتقوية علاقاته والتزامه بمبادىء منظمة شنغهاي للتعاون وهذه منظمة دولية وسياسية واقتصادية وأمنية اوراسية تأسست عام 2001 وتضم الصين وروسيا وباكستان والهند واربعة دول اسيوية أخرى وتلعب دورا في تشكيل النظام العالمي بعيدا عن الولايات المتحدة.
ومنظمة شنغهاي للتعاون ما هي الا واحدة من عدة مبادرات لدول متباعدة جغرافيا من الصين الى اوروبا في محاولة لصياغة التجارة وغيرها من الترتيبات العالمية والتي في مجملها تتعارض مباشرة مع الرغبات الامريكية. ولقد بدات العديد من الدول بأخذ القرارات خارج نطاق التسلط الامريكي وإحدى تجليات هذا التوجه هوتوقيع اكثر من 150 دولة مع الصين للاشتراك في المبادرة الصينية التي اطلقتها الصين عام 2013 والمسماة بالطريق الحريري الاقتصادية الذي سيقوم بربط دول العالم المترامية الاطراف بحرا وبرا تجاريا. وقامت الصين وما زالت ببناء البنى التحية لهذا المشروع الضخم مع الدول من جميع القارات. ومنذ إنشاء هذا المشروع لم تتوقف الولايات المتحدة عن محاربته بضراوة عن طريق التهديد والوعيد وخلق بؤر توتر في البلدان المشاركة في هذا المشروع الضخم والطموح. وما فرض العقوبات الاقتصادية على الصين من خلال الحرب الاقتصادية والقيود الجمركية التي وضعتها إدراة ترامب على الصين مؤخرا الا دليل على حالة من الاحباط الذي تشعر فيها هذه الادارة وغيرها من نجم الصين الصاعد إقتصاديا وسياسيا على الساحة الدولية المعارض لسياسة الهيمنة والعجرفة والتسلط الدولي الامريكي الذي طال عليه الزمن منذ سقوط الاتحاد السوفياتي وتفكك جمهورياته في مطلع تسعينات القرن الماضي.
والان لم تعد الصين تأبه بالتهديدات الامريكية لا بل اصبحت في وضع متحدي لهذا التسلط الاقتصادي والسياسي للولايات المتحدة. فبعد الانسحاب الامريكي من الاتفاقية النووية الموقعة مع إيران وفرض مزيد من العقوبات عليها وعلى الدول والشركات التي تتعامل مع إيران قامت الصين بالتوقيع على معاهدة الشراكة الاستراتيجية بين البلدين في شهر اب من هذا العام واعتبرت هذه الاتفاقية توسيعا لاتفاقية الشراكة الاستراتيجية الشاملة الموقعة بين البلدين عام 2016. وبالرغم من ان بعض بنود هذه الاتفاقية الاقتصادية والعسكرية بقيت من الاسرار التي لم تنشر الا ان حجم الاستثمارات الصينية المتوقعة يدلل الى مدى عمق هذه الاتفاقية الاستراتيجية.
فعلى سبيل المثال ستقوم الصين بناء على اتفاقية الشراكة الاستراتيجية مع إيران بإستثمار 280 بليون دولار في عمليات تحديث وتطوير قطاع النفط والغاز والصناعات البتروكيماوية الايرانية. وبالاضافة الى ذلك ستقوم الصين باستثمار 120 بليون دولار لتطوير البنى التحتية الايرانية وخاصة في قطاع النقل وهذا مرتبط بمشروع الطريق الحريري الصيني حيث ستلعب الموانىء الايرانية دورا محوريا به. وربما تجدر الاشارة هنا الى أن الصين لن تستخدم الدولار الامريكي لتمويل هذه المشاريع بل سيتم تمويلها بالعملة المحلية والفائض من العملات الاجنبية المتنوعة دون اللجؤ الى استخدام الدولار الامريكي. ولعل التداول التجاري بين إيران والصين وروسيا وفنزويلا بالعملات المحلية والابتعاد عن الدولار الامريكي اصبح يشكل هاجسا للولايات المتحدة التي ومنذ اانتهاء الحرب العالمية الثانية فرضت الدولار الامريكي على كل التداولات الاقتصادية والتبادلات التجارية بين دول العالم وهذا مهد لها السيطرة على كل المعاملات التجارية العالمية واستخدام الدولار لتركيع وتهديد اقتصاديات الدول الحليفة منها والعدوة.
من ينظر بعين متفحصة وموضوعية الى الاحداث ومجريات الامور العالمية يستطيع أن يستشف حالة من عدم الرضى عند العديد من الدول وحتى من تلك الحليفة للولايات المتحدة على ممر العقود من الزمن وان هذه الدول باتت ولاول مرة في تاريخها تنظر الى مصالحها الذاتية التي تضررت من جراء الركض وراء السياسة العدوانية للولايات المتحدة التي اتبعت سياسة خارجية مبنية على مبدأ “الحرب الدائمة” وخلق بؤر التوتر وعدم الاستقرار لصالح المجمع الصناعي الحربي الامريكي والصناعات المرتبطة به وشركاتها العملاقة. لقد سئمت هذه الدول الانصياع للدولة “الاستثنائية” لفترة طويلة من الزمن ولا شك ان التحركات الشعبية في العديد من هذه الدول المناوئة للسياسات العدوانية للولايات المتحدة قد فرض على حكومات هذه الدول إعادة النظر في علاقاتها مع الولايات المتحدة.

شارك على :
المحور العربي © كل الحقوق محفوظة 2023