الكـتابـــة لحظـــة وعـــي*؟…

الكـتابـــة لحظـــة وعـــي*؟…

    بقلم: عبد الحق خالــد- كاتب من الجزائر |

“.. هناك عشرات من الأعمال الرائعة تموت بالتجاهل، على المبدع أن يكتب و لا يلتفت وراءه، فالنقد غير موجود وإن وُجـد فمعظمه مجاملة، و يصعب الآن أن نجد لناقد مصداقية تدفع القارئ لشراء وقراءة الرواية موضع النقد..”  جمال الغيطاني – الأديب المصري-.

 

   في الصفحة الثقافية لإحدى اليوميات الوطنية (الجزائرية) كتب صحفي شاب ذات ربيـع جزائري موضوعا شيّقا بعنوان “الكتابة تجربة حياة” وتحدّث بأسلوبه الجميل في مقالـه ذاك عن هذه التجربة الإبداعية عند بعض الكُتاب العالميّين (إرنست همنغواي كنموذج يُحتذى) وكيف جسّد هؤلاء الكبار المقولة هذه من خلال كتاباتهم الخالدة حينما انغمسوا عن وعي وصدق فـي عالمي الأفكار والنفوس دون أن يُهملوا عالمي الأشخاص والأشياء!.. عبّروا عن ذواتهم وعن الآخرين، فصوّروا لنا ببراعة حياة الأفراد والجماعات في السلم والحرب، في السعادة والشقاء… نقلوا لنا نظراتهم عن تقلّب النفس البشرية بين الخير والشر، ونظرياتهم عن تمرّدها الدائم سعيا وراء اللّذة وتجنّبا للألم!… ليخلص إلى القول بأن القصة الجزائرية المأزومة لن تتخلص من مأزوميتها إلا عندما تبرأ من عقدة عبادة الذات أو النرجسية المدمّرة للأشخاص كما الأعمال؟!.

   وأنا إذ أثمن ما ذهب إليه الكاتب الصحفي، فإني أقرّ أن قراءة كلماته الهامسة ومعانيه الجميلة قد أثارت في نفسي شيئا من الشجون… وشيئا من الحنين! بل واستفزتني لإعادة قراءة كتاب رائع لأستاذنا الأديب “محمـد بوشحيط” كنت قرأته منذ زمن بعيد وكان له فعل السحر في نفسي وعقلي معا، فالكتاب عبارة عن مجموعة مقالات نقدية قريبة من هذا المعنى إن لم تكن مكملة له وكانت افتتاحيته بعنوان “الكتابة لحظة وعي.. أم وظيفة إيديولوجية؟” ومما جاء فيه (… ومنذ تلك اللحظات أخذَت الكتابة مسارا خاصا، باعتبارها فعلا واعيا، يرتبط فيه الفكر بالممارسة، بطريقة لا يمكن الفصل بينهما، واعتبارها لحظة وعي حقيقية للذات والموضوع، مما حتم بالضرورة على كل من دخل هذه الحلبة، أن يبدع فيها مقدما إشراقات -لا بالمعنى الصوفي عند الغزالي، ولكن بالمعنى الحلاّجي إن صح التعبير- واستشرافات مستقبلية، تُفضي في التحليل النهائي إلى المساهمة الواعية، في التعبير عن آلام الإنسان وآماله، وإضافة لبنات جديدة إلى ملحمة الصراع الاجتماعي، التي هي “قاطرة التاريخ” بالتأكيد)().   

   هل يجوز لي بعد هذا أن أعلن أنّ الكتابة هي فعلا لحظة الوعي.. بل لحظة “التجلّي” إذا جـاز لنا أن نقتبس هذا التعبير الصوفي.. أم هي لحظة الحرية التي يتعشّقها الكاتب فيختلسها اختلاسا في غفلة من الزمن كي يبوح بمكنونات ذاته ويصوّر لنا ما تضطرب به ذاتُ غيره حين يوقّع بالقلم ما لا يستطيع قوله بوسائل أخرى في واقع متحفّـز لقمع الحرية؟.. إن الكتابة عذاب مسؤول وإنتاج للمعرفة مفيد في النهاية وليست تزجية وقت!..

   في البدء كانت الكلمة… ومعها كانت شبكة العلاقات الاجتماعية! فالكاتب أيّا ما كان مجال كتابته “قصة أو رواية أو شعراً أو فكرا…” لا يجب أن يقف عند حدود الواقع يصفه وصفا إحصائيا جامدا لا روح فيه، ولكن عليه أن يضفي من ذاته وعبقريته ما يتجاوز به حدود المرئي من غير أن يستغني عنه، فينقل لنا الصورة التي في نفسه عنه كما يراه، أو كما يريده أن يكون، عليه أن يتمرد على كل القوالب الجاهزة… إنه يثير الشكوك ويطرح التساؤلات ويناقش المسلّمات، هو يهدم الأركان ويزعزع الجمود والستاتيكية، بل ويزلزل الأفكار المقولبة والمعتقدات والأوهام البالية، نعم… لكنه يعيد تشكيل كل ذلك بطريقته، بوضع بصمته، كمهندس بارع، في هذا البناء الهندسي الدقيق الجميل… هو باختصار يرتفع عن هذا الواقع ويرفعه إليه ولا يترفع عنه بالضرورة؟!..

حقاً، إن الكلمة لمن روح القدس؟!..              

   إن أصحاب الأقلام الذين استمدّوا كلماتهم من ضمائر الشعوب، ومن مشاعر الإنسان، ومن صرخات البشرية، ومن دماء المكافحين الأحرار.. عاشت كلماتهم لأنها اقتاتت قلب إنسان، أما الكلمات التي وُلدت في الأفواه، فقد وُلدت ميّـتة، ولم تدفع بالبشرية شبراً واحدا إلى الأمام …

   إن الكلمة الحارّة الصادقة تحمل في ذاتها قداسة الفكرة التي تعبّر عنها، وهي بهذا وحده تفعل بالأفراد كما بالجماعات ما لا تفعله الأسلحة الفتاكة من قنابل ودبابات وطائرات… وصدق ذاك المفكر الفرنسي() الذي أعلن ذات يوم “من الكتاب المقدس (الإنجيل) إلى العقد الاجتماعي، كانت الكتب دائما هي صانعة الثورات”.

   فالكاتب يكون غيريًا أو لا يكون.. » قدره أن يكون مسكونا بحرقة الأسئلة التي ليست تحت الطلب.. هذه الأسئلة التي لا تبحث بالضرورة عن أجوبة جاهزة بقدر ما ترمي إلى طرح الإشكاليات الملحّة على حركة الفكر كما على حركة الواقع()«.. هو إذًا يحترق كي يضيء للآخرين، لأنه يعيش لغيره، لفكرة مقدسة تسمو بمجتمعه إلى آفاق بعاد، وهذا فقط ما يضمن له خلود اسمه في التاريخ؟.. وقد عبّر بكثير من الإبداع عن هذا المعنى السامي الأديب الكبير “سيد قطب” فقال: “حينما نعيش لذواتنا فحسب، تبدو لنا الحياة ضئيلة قصيرة تبدأ من حيث بدأنا نعي، وتنتهي بانتهاء عمرنا المحدود.. أما عندما نعيش لغيرنا أي عندما نعيش لفكرة، فإن الحياة تبـدو طويلة عميقة تبدأ من حيث بدأت الإنسانية وتمتد بعد مفارقتنا لوجه هذه الأرض، إننا نربح أضعاف عمرنا الفردي في هذه الحالة، نربحها حقيقة لا وهمًا، فتصور الحياة على هذا النحو يضاعف شعورنا بأيامنا وساعاتنا ولحظاتنا، وليست الحياة بعدّ السنين ولكنها بعداد المشاعر، وما يسميه الواقعيون في هذه الحالة وهمًا هو في الواقع حقيقة أصحُ مـن كل حقائقهم، لأن الحياة ليست شيئا آخر غير شعور الإنسان بالحياة، جرّد أي إنسان من الشعور بحياته تجرّده من الحياة ذاتها في معناها الحقيقي، ومتى أحس الإنسان شعورا مضاعفا بحياته فقد عاش حياة مضاعفة فعلاً!.

    يبدو لي أن المسألة من البداهة بحيث لا تحتاج إلى جدال، إننا نعيش حياة مضاعفة حينما نعيش للآخرين، وبقدر ما نضاعف إحساسنا بالآخرين نضاعف إحساسنا بحياتنا ونضاعف هذه الحياة ذاتها في النهاية…” اهـ .

   وليس ضروريا بعد كل الذي سبق أن نذكر الأسماء، ففي مقابل منتجي الرداءة ومكرّسيها، ما أكثر الكتّاب المجيدين الذين يحاولون إضاءة شمعة بدل أن يلعنوا الظلام، فحقّ لهم أن يتألقوا؟!..

  

 

شارك على :
المحور العربي © كل الحقوق محفوظة 2023