المعروضات واللقى التاريخية بمتحف المجاهد بقالمة: “نماذج وعبر”

المعروضات واللقى التاريخية بمتحف المجاهد بقالمة: “نماذج وعبر”

بقلم : شعبان ياسين-باحث في تاريخ الثورة الجزائرية ومدير متحف المجاهد لولاية قالمة |

بعد أن تحدثت في مقال سابق عن أهمية متاحف المجاهد – متحف لتاريخ الثورة الجزائرية – بالجزائر لصون وإثراء الذاكرة التاريخية للجزائر مركزا على متحف المجاهد لولاية قالمة كنموذج، نواصل الحديث في هذا المقال عن هذا المتحف الموجود بولاية قالمة التاريخية كما أسلفت سابقا، وموضوعنا اليوم هوعن دورالمعروضات و اللقى والوثائق التاريخية التي نجح المتحف بجمعها خلال السنوات الماضية في اطار المساعي المبذولة لكتابة تاريخ الثورة.

اذ أن هذا المتحف يتم من خلاله المحافظة على الماضي الثوري للمنطقة بمحتوياته الثمينة التي لا يمكن الحصول عليها أبدا إلا بعودة الزمن الى الوراء ، فهي ذات قيمة تراثية ترتقي الى مستوى المصلحة العامة بهدف أسمى وهو توصيل المعلومة الى الجمهور العريض عن طريق اقرار حق الجميع في المعرفة والتربية والثقافة التاريخية لتضحيات النساء والرجال لاسترجاع السيادة الوطنية والحرية التي ينعم بها جيل لم يحضر ولم يعش تلك اللحظة التاريخية ،وربما تمحى الكثير من الاثار الدالة على تلك المرحلة التاريخية نتيجة تطور حياة الناس بزيادة العمران والتمدن، فهنا تكمن أهمية اللقى والمقتنيات والمعروضات  المتحفية بمختلف أنواعها ، اذ أن أهميتها تنسحب على عدة أوجه بداية من الزائرين والسياح والوافدين من حيث التعامل المباشر مع معروضات المتحف و الذين تجعل من زيارتهم له أكثر فاعلية وتفاعلية بتلك المقاربة بين الماضي والحاضر وملامسته بالشرح وتقديم المعلومة التاريخية الصحيحة بعد تنظيم المعروضات وترتيبها حسب المراحل التاريخية واعتماد الطريقة التعليمية في تقديم المعلومة ،وهذا ما يجعلها باقية الاثر و راسخة في الذهن ،وهو ما لمسناه خلال ألاف الزيارات لمتحف المجاهد بولاية قالمة (وصل عدد زائري متحف المجاهد بقالمة خلال سنة 2019 الى عدد 12856ألف زائر ) اذ أن ايصال المعلومة للزائر المحلي أو الوطني  من خلال التعامل المباشر مع المعروضات لهو ذو أثر باق وراسخ ،فصور شهداء 8 ماي 1945 بمنطقة قالمة على قلتها خلال أربعينيات القرن الماضي وذاك السياق التاريخي التي جاءت فيه تلك المجازر وتلك القصص وراء كل صورة للتحدي وحب الحرية وتلك الابادة المروعة لعائلات بأكملها مثل “عائلة رقي” لكل من الاخوين “رقي عبد الحفيظ “و”رقي محمد” اللذان تأخرا في العودة الى المنزل بعد مظاهرات الثامن ماي 1945  فخرجت أختهما “فاطمة الزهراء” للبحث عنهما وهي فتاة مثقفة باللغتين العربية والفرنسية وسبق أن تابعت جانبا من تكوينها بتونس وأثناء الاستفسار عن أخويها لدى قائد العمالة بقالمة حينها المجرم “أندري أشياري ” فكان أن تطور النقاش لتحمل “فاطمة الزهراء” “أندري أشياري” مسؤولية اختفاء أخويها فلم يستسغ الامر وأمر باعتقالها على الفور وتعذيبها بقطع ثدييها ثم قتلها وجرها بشوارع قالمة عن طريق مركبة عسكرية ،ثم يرى زائر المتحف صورعن مناطق وأماكن التقتيل والتنكيل بعائلات برمتها مثل مزرعة “عائلة بن يخلف” بمنطقة لخزارة بقالمة التي نهبت وقتل أهلها جميعا وعشرات الاماكن الاخرى التي تروي قصصا مؤثرة لتضحيات ومعاناة الرجال والنساء والأطفال ليصدم المتابع والزائر بلغة بسيطة ومفهومة للشارح لذلك الفرن التي لا تزال أثاره شاهدة الى يومنا هذا وهو فرن الجير العائدة ملكيته للمعمر “دافيد لافيي” والذي يستخدم لتفتيت الحصى وتحويلها الى جير طلاء، أصبح سنة 1945 الى فرن لحرق جثث القالميين ضحايا المجازر وتفتيتها لإخفاء أثر الجريمة الشنعاء وذلك بعد أن انتشرت الجثث بالحقول وعلى قارعة الطرق.

وما أن يخرج الزائر من تلك الصدمة وتلك الصور المروعة لمجازر 8 ماي 1945 ، ينتقل بعدها الى ذلك الموقف الرائع لشباب مجموعة الـ 22 ومن ضمنها قصة التضحية للشهيد “سويداني بوجمعة” ابن ولاية قالمة الثائر الطائر الذي هجر من مدينته و ترك مرغما ابنته وزوجته وأحبابه الى الابد مطاردا من قالمة الى وهران ثم الى العاصمة  وأخيراالى البليدة – سيكون لنا عنه موضوع خاص- وتلك التضحية التي قدمها شهيد الوطن مصطفى بن بوالعيد والذي كان يملك حافلات على خط “باتنة – قسنطينة” التي لم تمنعه من الالتحاق بالعمل المسلح ومخاطره ،و نفس الشيء بالنسبة للشهيد باجي مختار- صاحب أول عملية بقالمة يوم 6 نوفمبر 1954 واستشهد بها- الذي باع أرضه بمنطقة سوق اهراس ليشتري بها الاسلحة للثورة ،والأمر سيان على جميع أولئك الشباب الـ 22 وغيرهم من الذين أمنوا بالعمل المسلح سبيلا للتحرر بتلك الاسلحة التي أصبحت غير قابلة للاستعمال وأظرفة الذخيرة بكل أنواعها[1]وقبلها تلك الاسلحة البالية من مخلفات الحرب العالمية الثانية والتقليدية البسيطة التي استخدمها الرجال الابطال في وجوه جنود مدربين ومدججين بأسلحة أكثر فتكا مع غطاء جوي ومدفعي رهيب ،وتلك الصور للأسلاك الشائكة على الحدود الجزائرية التونسية الجهنمية المكهربة والملغمة بتلك الالغام المعروضة بمتحف المجاهد بقالمة المضادة للأشخاص والجماعات أو تلك القنابل الدفاعية والهجومية ذات 45 قطعة وتلك الذخيرة الحية والأسلحة المتطورة نوعا ما بعد جلبها عن طريق القوافل الخاصة بجلب الاسلحة والذخيرة مرورا بتلك الخطوط المكهربة والشائكة والملغمة ، لينتقل الزائر وقد جذبته تلك الالوان الزهرية الربيعية التي تأبى أن تندثر رغم مرورالزمن وهي ألبسة خاصة  بالفدائية الشهيدة “مليكة بوزيت” بسن 17 سنة من خلال الالبسة والأحذية الخاصة بها الموجودة على مستوى متحف المجاهد بقالمة مع صورتها الجميلة ثم صورتها بعد استشهادها، وتلك الأغراض للشهيدين “شعلال مسعود”و” لخضر زايدي ” التي دفنا بها بعد معركة جبل مرمورة سنة 1958 واستخرجت جثتهما ليعاد دفنهما بمقبرة الشهداء وذاك الحذاء البسيط والحاجيات المعيشية المستخرجة من حقيبتهما القتالية ، ليأتي الدور على الوثائق التاريخية المعروضة والمسترجعة والتي تحتوي على معلومات مهمة حول التنظيم الثوري مباشرة من الوثيقة وليفهم الزائر أن الثورة الجزائرية لم تكن فقط قتال وأسلحة وقنابل ودماء وأشلاء بل تنظيم ومشروع مجتمع وإدارة لحياة الناس الاجتماعية والاقتصادية والثقافية بمقابل مقاطعة نوعية للإدارة الاستعمارية كالمحاكم وغيرها وكذا التنظيم في جمع الاشتراكات لصالح الثورة الجزائرية وكيفية صرفه وتقييد كل ذلك بالتفصيل على وثائق موجودة بمتحف المجاهد بقالمة .

وأنت تخرج من القاعة الكبرى وتنعطف يسارا وعيناك معلقتان بالكم الكبير من الصور المختلفة للحالة الاجتماعية والتعليمية البائسة للجزائريين الذين حرمهم المستعمر من حياة كريمة  والشهيدات والشهداء في عمر الزهور لتجد تلك اللافتة التي تقودك الى جناح الرئيس الراحل “هواري بومدين ” ابن ولاية قالمة لتجد صور مختلفة لمراحل حياة الشاب محمد بوخروبة – الاسم الحقيقي للرئيس بومددين – والطالب بجامعة الازهر وتلك الملامح القوية المعبرة لمشاق سفر ثلاثة أشهر على مسافة 4500 كيلومتر مشيا على الاقدام ،ثم صور بومدين المجاهد جنبا الى جنب مع رفاق السلاح و بعدها بومدين الرئيس والتواضع الظاهر مع المواطنين من كل الفئات وما يزيدك دهشة الحاجيات الشخصية للرئيس الراحل “هواري بومدين” المتواضعة كطقمين لبذلتين بسيطتين ومعطف وتلك البذلة العسكرية الخضراء الفاتح لونها والتي خرج بها بومدين في 19 جوان 1965 لحظة اعلانه عن التصحيح الثوري الى أخره .

تلك صورة عن نماذج من المعروضات والمقتنيات التاريخية بمتحف المجاهد بقالمة في حينما تزوره تتعامل معها بشكل مباشر فيصبح هذا التواصل  أبلغ حديث وأثر من خطب رنانة أو كتب ثقيلة وتلاحظ ذلك على وجوه الزائرين المأخوذين بالدهشة أحيانا والدموع المنهمرة أحيانا أخرى، أما بالنسبة للسائح الاجنبي فهي صدمة ودهشة ثم تأمل واحترام وتكون تلك المعروضات قد نشرت جانبا من جوانب التعريف بتاريخ الثورة ومد جسور التواصل مع شعوب وثقافات وتجارب الامم الأخرى ليكون الجميع كاتبا ملهما ويعبر عن شعوره بصفحات السجل الذهبي للمتحف المخصص للزوار بما رآه وأحسه بجميع لغات الدنيا .

أما بالنسبة للمعلم والمتعلم أثناء زيارتهما للمتحف فأهمية المعروضات أنها تعطي للمعلم خبرات أكثر من التي لديه وتؤكد له بعض المعلومات التي يعرفها وتفصيلات ضرورية عن الفترة التاريخية وتساعده في التمكن من البعد الزماني والمكاني في العملية التعليمية  وتزود المعلم بآلية فعالة لاستخدام المتحف في تدريس التاريخ ، وبالنسبة للمتعلم فالمعروضات بالمتحف تجسد له بعض الوقائع التاريخية وتربط في ذهنه بين ما يدرسه في المدرسة وبين الواقع التاريخي وتنمي وتثبت له المعلومات أكثر كما تثير في المتعلم روح الانتماء لوطنه واعتزازه بهويته وترسخ الروح الوطنية لديه .

كانت هذه بعض النماذج عن ما يحتويه متحف المجاهد بقالمة – الذي أتشرف بإدارته منذ سنة 2015- من المعروضات واللقى التاريخية  ونقلا لجانب من تجربة و منهجية المتحف في استثمار هذه الكنوز الثمينة من المعروضات واللقى التاريخية بما يقود الجمهور الزائر المحلي والأجنبي الى أخذ انطباع راسخ ومعلومات نوعية تاريخية وفكرية وخبرات شعورية لمثل هذا النوع من المتاحف التي تحتوي على غالبية من المعروضات مصنوعة بدماء وعرق وجهود رجال ونساء أمنوا بالوطن وأخلصوا له و ضحوا بأغلى ما يملكون وهي حياتهم .

 

شارك على :
المحور العربي © كل الحقوق محفوظة 2023