بسيم عبدالواحد وشعر المنشور السياسي…بقلم كريم وهاب عبيد العيدان

بسيم عبدالواحد وشعر المنشور السياسي…بقلم كريم وهاب عبيد العيدان

بسيم عبدالواحد يمتلك القدرة المغناطيسية والفيزياوية الرائعة لالتقاط الاحداث والاشياء العابرة التي لاتستوقفنا الا قليلا ,ذلك انه يدقق النظر فيها ويشحنها برؤيته ليحولها الى قضية او شئ يستحق الاهتمام او التعاطي , هو شاعر يسبح في فضاء اللافتات او لنقل حبكة القصة الشعرية ,يستطيع ان يسبر غور الاشياء وان يحرك لاقطاته السمعية ليترجم لنا هموم مقطعية ولكنها على مستوى الوطن , وليرسم من خلالها المسرح السياسي ويجسدها بشكل مؤثر وفعال. انه في قصائده السابحة في بحر الاغتراب والشعور بالذبحة الوطنية يحاول ان يعبّر عن شعور جمعي بالوضع السياسي والحياتي والانساني .
شحنات الشعور بالالم ومعاناة الشاعر بسيم تتجاوب في منحنيات ومدرجات القصيدة بحيث يستطيع ان ينقلك بكلماته وحروفه الى المستوى النفسي الذي يعانيه ,انظر الى قصيدة “حلمٌ ذبيح”التي هي صرخة من الشاعر بخصوص العبث الخارجي بمقدرات الوطن , حيث انه يصوغ كلماته بسرد قصصي يقترب من ذهن المتلقي لدرجة التصريح والتشاغل بالقضية اكثر من الصورة المطهمة ,انظر الى هذه الحبكية الاقناعية في سرد الحدث يقول :
في وطني أُغازل حلمي الذبيح
وهو يرقص على مسرح ذهني الشرود
من تلّه للجبين ؟
من أعمل في نحره السكين ؟
ونحن فديناه بآلآف الأضاحي !
قالوا إياد غريبة
تسللت خلسة من خارج الاسوار
أحدثت كوة فتصدع الجدار
قلت أذن فلنبني الجدار
ونزرع الاذهان بالفكر والحوار
تصاعدت أصواتهم واكثروا الجدال
فشعرت حينها ان الايادي بيننا
مخفية هي لا ترى
مثل السمِّ المدسوس بالعسل الانيق
أو مرئية تلقاك باسمة تلّوح لك بالسلام
لكنها هادئة تحوك بالظلام
وتوعد القطيع بالعشب والامطار
تبني لهم زرائبا من ذهب
وتطلق العنان للجسد
من كبد الحرمان
وذئبنا يحرس نعاجكم
من طمع الجيران
ويعيش القطيع في نعمة الامان
صرخت باعلى صوتي
يا أخوتي أسندوا الجدار
ان الشياطين كاذبون
رأيتهم يلمعون خناجرهم في رقابنا
ويمسحون الدماء بأعلامنا
ويحكمون أشجارنا بالخريف المؤبد
قالوا لكم هذا هو ربيعكم
هذا هو ربيعنا ؟!
اين السنابل والبيادر والحقول ؟!
تأخر المطر ؟!
هل ياترى لم يحسن الهطول ؟!
أم أنها غادرت سمائنا وأرضنا
مابال سماؤنا تلمع بالنجوم السداسية
ربما النجوم السباعية
هي الاخرى غادرت أماكنها
أصرخ …. أصرخ ….أصرخ
فلا من مجيب
لماذا لا يأبه الاخرون ؟
لماذا لايرون كما ارى ؟
لعل مخالب الكوابيس
تنبت فوق صدري كالرخام
فلا أحدا يسمع صوتي
إلاّ أنا
وأسمع صوت الشياطين يأز بأذني
فالشاعر بملكته الالهامية ودوره التوعوي الهادف يستطيع ان يغوص في حقائق الحدث وان يرى مالايراه الاخرون ,ولكن هل تستطيع صرخاته وتحذيراته ان ترفع كومة التحجر الصخري الذي يتكلس على بعض العقول , وهل يستطيع ان ينقل رسالته الى القلوب من اجل الانعتاق من نير التخلف والتسطح الفكري ,كلها علامات استفهام ترتسم في رؤية القصيدة المثخنة بجراح الالم والقلق .
وفي نفي المنحى تاتي قصيدته “سبع بقع زيتية مشتعلة”هي فكرة تضعنا امام قدر المتاهة والقرصنة والحرب الناعمة التي توقد النيران في بحار اعماقنا لتشتعل تلك الصور وتتلوى ذاكرة الشاعر امام هذه الحقائق الصادمة التي تشعل نيران الضغينة وتدفع الشعوب الى حرب الحرائق الداخلية لان الشاعر يدمج بين ريشه الخيال واقواس السياسية لتاتي القصيدة بلون ومسار جديد ,لنستمع الى هذه الكلمات المتدافعات في سردية المخاطر التي تحدق بالشعوب ,يقول :
سبع بقعٍ زيتية صغيرة
تشتعل في المحيطات القصية
هناك في أعالي البحار
ربما تسربنَّ من ناقلات نفط مهرب
في جنح الليل
وربما في وضح النهار
فالارض المغتصبة
لايصحو فيها الا السلطان وحاشيته
مرَّ منها الكثير من البحارة
يحصونها ثم ينطلقون
غير آبهين بها
يرددون مجرد سبع بقع
صغيرة مشتعلة
هي لاتعنينا بشيء
وربما كانوا سكارى
فالخمر يريح العقل بطول السفر
تنبأ شاعر مجنون
وهو يتأمل البقع التي تسافر
فوق الموج ببطيء
ويسمع صوتا منها كحمحمة الخيول
وهي تلوك أعنتها
يسمع صليل سيوف مزمجرة
قال سيحرق هذا البحر
جميع الارض وعشبها
ستموت الاعشاب بمحض ارادتها
في حفلة جماعية
هي الاكثر ظلمة
سبع ظلمات عجاف
ستبقى سبعة آلاف بذرة
فان الارض طيبة
وقد نائت بحمل المجرمين
أستهزأ قبطان السفينة
وضحك الاخرون
فتعالت كؤوس النخب
مترعة بظل الوهم
البقع تتسع شيئا فشيئا
وتسافر فوق الموج ببطيء
الى مختلف الجهات
والقبطان يأمر البحارة
بعصر مزيد من الكروم
ويأمر الشاعر المجنون
ان يشرب كأساٌ من الوهم
او ينزل الى البحر وحيدا
يطفيء بقع الزيت المشتعلة
وهي تشق عباب البحر
الى مختلف الجهات
نزل البحر وحيدا
فقد حلم بسيفنة تأتي
من بحار الشمس
تبحر فوق أمواج النار المتلاطمة
وتحمل على متنها
سبعة آلآف بذرة
فسفن الشمس لاتحمل الا الاخيار
فالشاعر الواعي هنا بمثابة جرس الانذار الا انه يبقى حبيس الهامه فيما يسخر الاخرون من نبواءاته ويرون فيها شيئا من الوهم او شيئا من الخرافة ,اماقصيدة سفينة تطير ,فهي تعكس رؤية الشاعر السلمية البعيدة عن اشعال الحرائق والمتناقضة مع نمط اخر من اللهاث وراء التدمير المجاني للوطن والانسان , الشاعر يتمنى ان تتحول الطرقات الى طيف من الازاهير وان تتحول النفوس الى عطر يفتح الروح على العطاء وان تتحول السفن الى سفر في الفضاء لتتفتح الجنة المنشودة ,فالشاعر يقارن بين من يزرعون الموت وبين من يزرعون الحياة , وهنا تاتي المفارقة لتغرس في الوعي الكثير من الرؤى والكثير من الشحنات الحيوية الايجابية , لنستمع الى هذا الرصد الفكري المتماوج :
دثت السماء موتاً
فقالت المدينة
بل مزنة عابره
تساقط الموت مرةً ثانيةً
قال رجلٌ
من ياترى أوقد النائره
يا أخوتي
لا تشعلوا الطريق
فليس لنا من دونه الاهو
فازرعوا طريقكم بالورد والمأثره
قال قائلٌ
قد ظل هذا الشيخ
أو فيه جنة
من فكرة ٍ غابره
هطل الموت سريعاً
بات يزداد هطولا
مدينةٌ لم ترعوي
في غيّها سادره
تدور حول نفسها
بالفكرة الهابطة
و(النكتة) الساخره
رجلٌ يبني سفينة تطير
يمرُ الناسُ منه هازئين
يهزون أكفهمُ
ربما ننكر اليقين
بمحض وهمنا
ما أجمل الوهم
ما أبشع الحقيقة
حقيقة كافره
للرجل صوت يخترق الجدار
يخترق الجبال
يخترق الصمم
بل يخترق
حتى القصور المُحكمة
بالوعظ والسلام
بالحب والنبرة الآسره
ترعد السماء
تسارع النزول
والمدينة مازالت
تدور حول نفسها
بين نقطة السفينة
ومركز الدائرة
تسارع النزول
يزداد موج الموت
والرجل قد صعد
من لهجة الخطاب
في المحاضره
فلقد دعى رهطه
أن يزرعون على ظهر السفينة
نخيلا وحنطة وشعيراوقطنا
وأعطى لنا ألواحا
خطت عليها أناشيدّ فاخره
طغى الموت على روح المدنية
غرقت في لجِّ أعماق السكينة
سكت فيها الضجيج
كمسرح اسدل منه الستار
كيباب عمَّ أرجاء المدينة
فاستعدوا لسؤال الاخرة
طارت السفينة نحو السماء
لتسكنوا مدن الجمال العامره
الشاعر بسيم اذن يحاول ان يطعم الحقيقة بباقات الورد وان يعطر الوعي بسنابل الجنة الجاثية على قارعة الخيال ,ان يهز جذع النخل في ليلة ممطرة ليزهر في الوجدان انماط فكرية واقعية تعيد الهوية الوطنية للانسان وتمنحه طبشورا ازرق ليكتب مذكراته على لحاف يتلوى على لجة الموج وسط البحار الغارقة في زرقة السماء .

شارك على :
المحور العربي © كل الحقوق محفوظة 2023