تدبر في سورة الرّعد: شَرْطِيَّةُ «الرعد» و«البَرْق» من أجل ظهور «الإمام» «الهادي» الخاتم و«عقبى الدار»

تدبر في سورة الرّعد: شَرْطِيَّةُ «الرعد» و«البَرْق» من أجل ظهور «الإمام» «الهادي» الخاتم و«عقبى الدار»

بقلم د. نعمان المغربي |

 

 

§       ملاحظة منهجية:

إن أسماء السور توقيفية من الله تعالى. فاسم السورة هو مَعناها الجُملي، أو معناها الاختزالي، أو قَلْبُها الذي يدور حوله كُلُّ فَلَكيّة السورة. فيمكن لإسم السورة أن يكون أداة التحليل النَّووية لكل السورة فهما وتدبرا.

 

 

§                  قَلْبُ السورة:

1_ ﴿يُسَبِّحُ الرَّعدُ بِحَمدِهِ، وَالمَلائِكَةُ مِن خيفَتِهِ ﴾(الرعد،13)

2_ ﴿لَهُ مُعَقِّباتٌ مِن بَينِ يَدَيهِ وَمِن خَلفِهِ، يَحفَظونَهُ مِن أَمرِ اللَّـهِ. إِنَّ اللَّـهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَومٍ حَتّى يُغَيِّروا ما بِأَنفُسِهِم. وَإِذا أَرادَ اللَّـهُ بِقَومٍ سوءًا، فَلا مَرَدَّ لَهُ، وَما لَهُم مِن دونِهِ مِن والٍ﴾ (الرعد، 11).

 

§                  موضوع السورة:

تبين سورة الرّعد شروط «التغيير» «الرَّعْدية» و«البَرْقِيّة»، بطلب «ماء» السماء المحمدية وتولّي «الهادي» «المستخفي»، «السَّارب»، عليه السلام، و«مدّ» الأرض له، حتى تكون «العقبى»، له ولـ«السعادة» البشرية أبدًا.

 

 

  • دائرة السورة:
مقدّمة السّورة خاتمة السّورة
﴿المر تِلكَ آياتُ الكِتابِ. وَالَّذي أُنزِلَ إِلَيكَ مِن رَبِّكَ الحَقُّ. وَلـكِنَّ أَكثَرَ النّاسِ لا يُؤمِنونَ﴾ (الآية1). ﴿وَقَد مَكَرَ الَّذينَ مِن قَبلِهِم. فَلِلَّـهِ المَكرُ جَميعًا: يَعلَمُ ما تَكسِبُ كُلُّ نَفسٍ. وَسَيَعلَمُ الكُفّارُ لِمَن عُقبَى الدّارِ﴾ (الآية42).
﴿اللَّـهُ الَّذي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيرِ عَمَدٍ تَرَونَها، ثُمَّ استَوى عَلَى العَرشِ. وَسَخَّرَ الشَّمسَ وَالقَمَرَ، كُلٌّ يَجري لِأَجَلٍ مُسَمًّى. يُدَبِّرُ الأَمرَ﴾ (الآية2). ﴿وَيَقولُ الَّذينَ كَفَروا لَستَ مُرسَلًا [لست مرسلاً إلى يوم القيامة: «حسبنا كتاب الله»!]﴾ (الآية43).
﴿وَسَخَّرَ الشَّمسَ وَالقَمَرَ﴾ (الآية2). ﴿قُل كَفى بِاللَّـهِ شَهيدًا بَيني وَبَينَكُم، وَمَن عِندَهُ عِلمُ الكِتابِ[ «الإمام» «الهادي» المعاصر للرسول(ص)]﴾ (الآية43).
§                   المقولات المركزيّة للسورة:

–                  «العُقبى»: هي «المُستقرُّ» العَصْرِيُّ الطّويل للعَدْل المحمدي-المهدوي.

–                  «الدّار»: هي مجالُ الهيمنة على الأرض: دار «السّلام» ودار «الشّيطان».

–                  «السّماء»: هي «الرَّتْل» الرسالي بشمسه والأجرام التي تدور حولها.

–                  «الأرض»: هي التي ينبغي أن تكون «ظلّ» الرسالة. هي محل الصراع والخلافة.

–                  «الشاهد»/ «الشهيد»: الامتداد المتعيّن للرسول (ص).

–                  «الرعد»: هو آثار المُقاومة الجهادية التي «تُرعب» الاستكبار العالَمي.

–                  «البَرق»: اللّوامع «التبيينيّة» التي «يُبيّنها» المؤمنون العاملون في العالَم.

–                  «الماء»: هي وسائل «الحياة» الرسالية. هي «مُحْيِي» الإنسانِ وسببُ خلافته بواسطة «السماء» المحمدية.

 

  1. ما هي «السّماء» مقولةً قرآنيةً:

         ﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً، وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً، فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ. فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّـهِ أَندَادًا، وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ (البقرة، 22).

         «السّماء» هي «بناءٌ» رساليّ ينبغي أن «يُحْيي» الأرض، ويجعلها موحِّدة/موحَّدة[1]. و«الأرض» هي مُفترَش الإنسان، أي مجال صراعه بين «السَّبُعيّة» و«الخلافة»: ﴿قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا. فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى، فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ (البقرة، 38).

         كانت «السماوات» «سَبْعًا»: «وإن من آدمكم سبْعًا. وإن من نوحكم سبْعًا. وإن من إبراهيمكم سبْعًا. وإن من موساكم سبعا. وإن من عيساكم سبعا»[2].إذن، فـ«السّماء» هي الرسالة السماوية التي لها «إبْـ-رَاهيم» (= أبٌ رحيم) رئيسٌ، واحد. فلكلّ «رسولٍ» «سماءٌ» ذاتُ خصوصيةٍ.

         ومادام لكل «أب رحيم»/كل «رسول» 7 صور، فلكل «رسول» 7 سماوات. ولكنّ محمدًا (ص) ليس له نظير، و«سماؤه» واحدة، وهي تبدأ من الآدم البيولوجي الأوّل إلى ما بعد القيامة. وقد غطت كل «سماء»رسالية، قبل أن تستقل بـ«الاستدارة»[3]. الرسالية الأخيرة، المنتصرة.

     وقد نتخيّل أن «السّماء» المحمدية دون استمرار، بعد الوفاة الظاهرية، فنقول استهزاءا: «حسبنا كتاب الله!»، «مَنْ كَانَ يَعْبُدُ مُحمّدًا [ولم يكن يعبده أحد]، فإن محمدا قد مات!»، فإنه قد ﴿رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيرِ عَمَدٍ تَرَونَها﴾ (الرعد،2). فالحقيقة أن «السّماء» الآدمية، تستمرّ باكتمال وظيفتها التاريخيّة، وكذلك «السّماوات» التي بعدها. أمّا «السّماء» المحمدية، فهي التي تغطّي كل «السّماوات» الأخرى، منذ ظهور «الآدم» البيولوجي الأوّل، ثمّ «ظهرت» منذ إعلان الرسالة المحمدية إلى ما بعد يوم القيامة: ﴿عَسى أَن يَبعَثَكَ رَبُّكَ مَقامًا مَحمودًا﴾ (الإسراء، 79).

       رَفَعَ سُبْحَانه «السّماء» المحمدية، ﴿مَقَامًا مَحْمُودًا﴾، عاليا، ﴿ثُمَّ استَوى عَلَى العَرشِ﴾ (الرعد،2)، أي استولى على «عرش» قلب ﴿عبده﴾ «مستعليًا» «بالتجلي»[4]؛ أفضل ممّا ﴿استوى﴾ على «عروش» قلوب «الرّسل» الآخرين وأوصيائهم و«أتباع» أوصيائهم، «بالتأثير والتّقويم»[5]، والهيمنة العشقية المطلقة: ﴿ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى، فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى﴾ (النجم، 8 و9).

  1. تدبير «السّماء» المحمديّة:

         إنّ الله سبحانه ﴿يدبّر الأمر﴾ «السماوي»/الرسالي، الذي «يَسْمُو» بالإنسانيّة، فلا يتركها «تَسْقُطُ»، و«تُخْلِدُ» إلى «الأرض» الشيطانية؛ بل «تترافَعُ» وتتكامل نحو «أرض» محمدية كاملة، تامة. فهو سبحانه ﴿بالمرصاد﴾ لـ«المَكْر» الشيطاني-البشري: ﴿فَلِلَّـهِ المَكرُ جَميعًا﴾ (الرعد، 42).

         وكان هذا «التدبير» بأنْ جَعَل «شمسًا» و«قمرًا» في هذه «السماء» المحمدية. فكان محمد (ص) هو «الشمس»: ﴿إنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّـهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا (46)﴾ (سورة الأحزاب)؛ ﴿وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا﴾ (نوح، 16). ومن ﴿الشَّمْس﴾ خلق الله تعالى ﴿القمر﴾ وكلَّ «النجوم» المتفرعة عنها: ﴿وسخَّر الشَّمْس والقمر﴾، بما هما «عَبْدَان» لا يعصيان «ربَّهما» أبدًا: ﴿كُلٌّ يَجري لِأَجَلٍ مُسَمًّى﴾ (الرعد، 2)، وهو ﴿يوم الدّين﴾، ﴿يوم الحساب﴾. فهما «عَبْدَان» إلاهيان يخدمان الرسالة الإلهيّة والمصالح الإنسانية لها[6].

         كان «القَمَرُ» العَلَويُّ مطيعًا مطلقا للرّسول محمد(ص)، إذ كان يتّبعه: «اتباع الفصيل أثر أمه، يَرْفَعُ لي في كل يَوْم من أخلاقِهِ علمًا، ويأمرني بالاقتداء به»[7].

         إنّه سبحانه يقول:﴿وَسَخَّرَ الشَّمسَ وَالقَمَرَ، كُلٌّ يَجري لِأَجَلٍ مُسَمًّى. يُدَبِّرُ الأَمرَ، يُفَصِّلُ الآياتِ﴾ (الرعد،2)، أي يجعل «العلامات» المعصومة تتتالى بَعْد الانحجاب الظاهري لـ«الشمس» و«القمر»، وهي 11 «كوكبًا»[8]، لكل كوكب أجل تبليغي وجهاديّ مسمّى، فهو آية تفصيلية تعقب آية، ثم تعقبها آية، وهم يسبحون حول شمسهم المحمدية. وتضيف الآية: ﴿لَعَلَّكُم بِلِقاءِ رَبِّكُم﴾، عند الائتمام بهم، ﴿توقِنونَ﴾ بجمال «السماء» المحمدية وبـ«السلام» الذي ينتظركم.

         عددٌ كبير من «النّاس» يترصّدون ذلك «القمر» وتلك «الآيات» بالتعذيب والسجن والقتل، ولا يخططون للتحاور معها ومع أتباعها من النفوس الصالحة المتكاملة: ﴿وَيَستَعجِلونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبلَ الحَسَنَةِ[9]﴾ (الرعد،6). وذلك «بمناسبة استعدادهم للشر، لاستيلاء الهيئات المظلمة والرذائل عليها، فينزعون إلى الشر لغلبة الشر عليهم»[10]. وهذا ما كان يحدث مع «السماوات» الرسالية الأخرى: ﴿وَقَد خَلَت مِن قَبلِهِمُ المَثُلاتُ﴾ (الرعد،6)، فهي «سماوات» متماثلة، و«سُنَنُها» الاجتماعية ـ التاريخيةـ متماثلة أيضًا.

      وعندما بَشَّرَهُم رسول الله(ص) بـ﴿الآيات﴾ التي تَتْرَى بعده، «تحَدَّوْهُ» وَهْمًا بأن تكون تلك «الآيات» الإنسانية مخلوقة كلُّها الآن، بل أن «تنطق» الآية المعاصرة له الآن: ﴿وَيَقولُ الَّذينَ كَفَروا: لَولا أُنزِلَ عَلَيهِ آيَةٌ﴾ (الرعد،7)، فـ«يَنْطِقُ» الآن الإمام علي (ع) مثلا. فكانت إجابة الله تعالى: ﴿إِنَّما أَنتَ مُنذِرٌ [أنت عامٌّ لدورتك التاريخيّة]، وَلِكُلِّ قَومٍ [بَعْدَك] هادٍ﴾ (الرعد،7). فلم يكن «نُطقُ» أيّ «هارونٍ»  إلاّ في غيبة «موساهُ». ولذلك لم «يَرَوْا» تلك «الآية»/«العلامة» المعصومة/«الشاهد» على النبوة المحمدية، إذ كانوا «عُمْي» البصيرة. فما على الرسول إلا أن «يُنْذِرَهم» فحسب. وما «نُطْق» «الآية» الموالية إلا بـ«الانحجاب» الظاهري لـ«الشمس» (صلى الله عليه وآله).

         إن «هادي» كل «قوم» من الأقوام التي ستتتالى بعد الانحجاب الظاهري لرسول الله (ص) «يُناسبهم بحسب الجنسية الفِطْرية، فيألفونه عند كماله وتلقيه النور الإلهي. فيألفونه، ومَنْ لا فلا»[11].

         ولما نزلت الآية: ﴿إِنَّما أَنتَ مُنذِرٌ، وَلِكُلِّ قَومٍ هادٍ﴾ (الرعد،7)، قال رسول الله (ص) مخاطبًا عليًّا(ع) أمام الجميع: «أنا المنذر، وأنت الهادي. وبك يهتدي المهتدون»[12].

         تتتالى «الآيات»/«الهادُون» الذين يُعيدون نشر أنوار «الشمس» المحمدية، وفيهم «الظاهر» مطلقا، وفيهم من كان مضطرًّا لـ«التقية»[13]: ﴿سَواءٌ مِنكُم مَن أَسَرَّ القَولَ [مَنْ كان ممارسًا للتقية في قوله الإلهي/المحمدي] وَمَن جَهَرَ بِهِ﴾ (الرعد، 10).

         وأمّا «الهادي» الخاتم (= الإمام محمد بن الحسن (ع))، فهو ﴿مُستَخفٍ بِاللَّيلِ، وَسارِبٌ بِالنَّهارِ﴾. و«الاستخفاء» «سُنّةٌ» لكل «مُوسًى»، أي لكل قائد معصوم مستعد لـ«الوَسْي»، أي الإنقاذ و«الإرسال» (=التحرير)؛ وأمّا «السّرْبُ» في أفعاله التاريخية، قبل الظّهور، فهو «مستتر» في مساره بالنّهار[14].

         وهذا «الهادي» الخَاتم، روحي له الفداء، ﴿لَهُ مُعَقِّباتٌ مِن بَينِ يَدَيهِ وَمِن خَلفِهِ، يَحفَظونَهُ مِن أَمرِ اللَّـهِ﴾ (الرعد، 11). فسيعصمه الله تعالى بتلك «المُعَقِّبات» من كل سوء، حتى يتم له الظهور المحمدي ﴿على الدّين كلّه﴾، فيملأ «الأرض» عدلاً وقسطًا.

  1. 3. لابد لكل رسول وأوصيائه من «أَزواج» معصومات يَلِدْن «ذُرِّيَّة» معصومين:

         طبيعي أن يكون الإمام «الهادي» مِنْ «إمامٍ هادٍ»، ومن نَسَب «الرسول»(ص)، أي من نَسَبِ «شمسِ» «السماءِ» الرِّسَالِية الراهنة (=«الجارية»)، إذ أن الوالد يهيمن على ولده أكثر من هيمنته على غيره من الناس: ﴿وَلَقَد أَرسَلنا رُسُلًا مِن قَبلِكَ، وَجَعَلنا لَهُم أَزواجًا[15]، رُسُلًا مِن قَبلِكَ. وَجَعَلنا لَهُم أَزواجًا وَذُرِّيَّةً. وَما كانَ لِرَسولٍ أَن يَأتِيَ بِآيَةٍ [من تلك «الذرية»] إِلّا بِإِذنِ اللَّـهِ،[إذ] لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ[= لكل مرحلة إمامية أدوار خصوصية]﴾ (الرعد، 38). فـ«سُنَّة» ﴿هادٍ﴾ معيَّن، إنما تَظهر في الوقت المناسب ضمن «سننٍ» تاريخية مناسبة لظهوره. وما كان رسول الله (ص) ﴿بِدْعًا من الرّسل﴾ حتى لا يكون له مِثْلَهُم ﴿ذرية﴾ معصومة﴿وَقَد خَلَت مِن قَبلِهِمُ المَثُلاتُ﴾ (الرعد، 6) [16].

      ومن العقلاني أن لا تكون الآية 38 تغطّي كل أزواج  الرسول(ص) وكل ذريّته. فبعض أزواجه مثل إحدى أزواج نوح ولوط(عليهما السلام)، وبعضهن مثل زوج إبراهيم بن تارح(ع) التي بشّرتها الملائكة بابنها «إسحاق» (ع) (سورة هود،71). ومن العقلاني أنها لا تغطّي كل ذريّة «الرسول»(ص)، إذ يمكن أن نجد فيها أمثال ابن نوح الذي رفض الالتحاق بسفينته الرسالية المنقذة للإنسانية، ويمكن أن نجد فيها أمثال «إسحاق» و «إسماعيل» ابنيْ إبراهيم بن تارح(ع). فالقرآن يفسر بعضه بعضا، وهو هنا يشير إلى ﴿الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ﴾(النساء،69).

  1. التمهيدُ لـ«الهادي» الخاتم: ﴿رعْد﴾ ثورات المستضعفين و﴿برقُها و«رياحها»:

         تؤكد الآية 11 التي تتناول حِفْظ الإمام «الهادي» الخاتم (ع) بـ«معقِّبات» إلهية أن التغيير التاريخي بظهور «رَحْمَة» محمد على «الأرض» كلها، بواسطة هذا «الهادي» لا يكون إلا بالتمهيد «التغييري» الجاد: ﴿مُستَخفٍ بِاللَّيلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ، لَهُ مُعَقِّباتٌ مِن بَينِ يَدَيهِ وَمِن خَلفِهِ يَحفَظونَهُ مِن أَمرِ اللَّـهِ [الموت، القتل، الطلب الاستخباريّ]. إِنَّ اللَّـهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَومٍ حَتّى يُغَيِّروا ما بِأَنفُسِهِم. وَإِذا أَرادَ اللَّـهُ بِقَومٍ سوءًا فَلا مَرَدَّ لَهُ وَما لَهُم مِن دونِهِ مِن والٍ﴾. فما لهم من دون هذا «المستحْفَظ» من «والٍ» أي مِنْ «وليّ» لـ«لتغيير» «الصالح»، النهائي، التام، لـ«الأرض» وتاريخها.

         فظهور ذلك «المستخْفي» بـ«ليل» البشرية الطويل، المُرْعب، مشروطٌ بعزم الجماعة البشرية المؤمنة على إرادة «التغيير» والتمهيد له.

         فلا بد من طلب «الماء» المحمدي و «استمطاره» («استسقائه»)، أي طلب مادّة «الحياة» الدينية الإنسانية: ﴿استَجيبوا لِلَّـهِ وَلِلرَّسولِ إِذا دَعاكُم لِما يُحييكُم﴾.

        ولا بُد من طلب «البَرْق» الثوري ـ النُّورِيّ. إنه ﴿هُوَ الَّذي يُريكُمُ البَرقَ﴾، «برق لوامع الأنوار القدسية والخطفة الإلهية، ﴿خَوْفًا﴾ أي: خائفين من سرعة انقضائه وبطء رجوعه[رجوع إمامنا المهدي(ع)]، ﴿طَمَعًا﴾ أي: طامعين في ثباته وسرعة رجوعه؛ ﴿وَيُنْشِئُ﴾ سحاب السكينة ﴿الثِّقَالَ﴾ بماء العلم اليقيني والمعرفة الحقة»[17]. فالبرق الثوري ـ المهدوي إنما هو البصيرة الثورية المتنورة، خوفا على الإنسانية وطمعا في نجاتها بـ«السفينة» المحمدية[18].

          و ذلك «البرق»، بما هو النظر الثوري المستبصر، لا بد أن يترافق مع «الرعد» الثوري المهدوي للمستضعفين في «الأرض» : ﴿وَيُسَبِّحُ الرَّعدُ بِحَمدِهِ﴾ (الرعد، 13). وهو «رعد سطوة التجليات الجلالية، أي يسبّح الله ويمجده عما يتصوّر في العقل ممن ترد عليه تلك التجليات لوجدانه ما لا يدركه العقل، ويحمده حق حمده بالكمال المستفاد من ذلك التجلي حمداً فعلياً. فيكون التسبيح للرعد الموجب لذلك، أو السطوة، تسبح بنفس التجلي المنزّه عن أن يدرك بالإدراك العقلي. ﴿والملائكة﴾ أي: ملكوت القوى الروحانية من هيبته وجلاله»[19]، وهي ملكوت الممهدين للإمام «الهادي» الخاتم (ع).

        و«الرعد» هو «التهديد الإلهي والوعيد القهري، الوارد في القرآن والآيات والآثار المسموعة والمشاهدة مما يخوّفهم، فيفيد أدنى انكسار لقلوبهم الطاغية وانهزام لنفوسهم الآبية». أما «البرق»، فهو «اللوامع النورية، والتنبهات الروحية، عند سماع الوعد وتذكير الآلاء والنعماء، مما يطمّعهم ويرجّيهم، فيفيدهم أدنى شوق وميل إلى الإجابة»[20]. فالله تعالى ينشر عدله بواسطة ﴿عباده﴾: ﴿وَما رَمَيتَ إِذ رَمَيتَ، وَلـكِنَّ اللَّـهَ رَمى﴾ (الأنفال، 17)، ضِمْن تبادُلَيَّةٍ:﴿قاتِلوهُم، يُعَذِّبهُمُ اللَّـهُ بِأَيديكُم﴾ (التوبة، 14). فتسبيح «رَعْد» المؤمنين الثوري مَدْعومٌ بالحضور الملائكي، أي المَدّ الإلهي: ﴿يُسَبِّحُ الرَّعدُ بِحَمدِهِ، وَالمَلائِكَةُ [في الآن نفسه] مِن خيفَتِهِ﴾ (الرعد،13). ﴿فَإِن يَكُن مِنكُم مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغلِبوا مِائَتَينِ، وَإِن يَكُن مِنكُم أَلفٌ يَغلِبوا أَلفَينِ بِإِذنِ اللَّـهِ. وَاللَّـهُ مَعَ الصّابِرينَ﴾ (الأنفال، 26)؛ ﴿إِذ تَستَغيثونَ رَبَّكُم، فَاستَجابَ لَكُم: أَنّي مُمِدُّكُم بِأَلفٍ مِنَ المَلائِكَةِ مُردِفينَ﴾ (الأنفال، 9).

       قال سيدنا عبد الله الجوادي الآملي في «العرفان و الثورة»: «العرفان والجهاد يلتقيان في الهدف ويكملان بعضيْهما»، «العقل عند العارف إمام للغضب، وثورة العارف رحمة»، « أهداف جهاد العارف تختلف عن أهداف قتال أهل الدنيا»، «الثورة تحتاج إلى قاعدة فكرية»[21]:﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَىٰ شَيْءٍ حَتَّىٰ تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ﴾ (المائدة، 68)، «وهذا المضمون يشمل المسلمين أيضا»[22].  فإذا أراد المسلمون، بما هم «أهل كتاب»، أن يكونوا «شيئا» واقعيا ملموسا في التاريخ، عليهم أن يستندوا إلى «التراث» المحكَم للقرآن الكريم، وإلى كل «إنجيلٍ»، أي بشارةٍ(باللغة العربية ـ السريانية)، لكل إمام «هادٍ» من الأئمة المتعاقبين. فهناك وحدة هدف محمدية، واختلاف أدوار مرحلية، كما حلّل سيدنا محمد باقر الصدر(رض) في: « أهل البيت: تنوع أدوار ووحدة هدف».

         إن أهل «المَرض»[23] النفسي، يستبعدون «التغيير»: ﴿وَإِن تَعجَب، فَعَجَبٌ قَولُهُم: أَإِذا كُنّا تُرابًا أَإِنّا لَفي خَلقٍ جَديدٍ!﴾ (الرعد، 5)، حيث تتغير البشرية تمامًا من «خلْقٍ» بامتلاء بالجور والظلم، إلى «خلْقٍ» بامتلاء لا ينقطع بـ«العدل» و«القسط» إلى يوم القيامة، تحت «رؤية» «الهادي» الخاتم (ع). وهذا «اليأس» إنما هو «كُفر»، فهو موجود بالحقيقة التي يروْنها رأي العين، ولذلك تبقى «أغلال» المستكبرين عليهم، ولن يتحرروا من العبودية لهم: ﴿أُولـئِكَ الَّذينَ كَفَروا بِرَبِّهِم، وَأُولـئِكَ الأَغلالُ [التاريخية] في أَعناقِهِم[24]﴾ (الرعد، 5). وهؤلاء لن يشاركوا في سيرورة «الإرسال» التمهيديّ للإنسانية من «الاستكبار» العالمي، ولن يكونوا «شيئا».

         فلا بد من ثورة «الأطراف» (=الهوامش والتخوم في العالم) على المركز الاستكباري، ليكون ظهور الإمام «الهادي» الخاتم (ع): ﴿أَوَلَم يَرَوا أَنّا نَأتِي الأَرضَ نَنقُصُها مِن أَطرافِها﴾ (الرعد، 31). هنالك، بهذا التمهيد «الأطرافيّ»، يأتي الحكم الإلهي العَدْلي على كل «الأَرْض»: ﴿أَوَلَم يَرَوا أَنّا نَأتِي الأَرضَ نَنقُصُها مِن أَطرافِها. وَاللَّـهُ يَحكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكمِهِ﴾ (الرعد، 31). فليس هناك بعد الانتظار المهدوي  «تعقيب» استكباري جديد. فـ«الأطراف» الثورية «تَنْتَقِصُ» المجال، فالمجال، من هيمنة «الاستكبار» العالمي. فلا «مُعَقَّبًا» استكباريًّا آخر، بَعد «ظهور» الإمام «المستخفي»(ع) على الدّين كله.

       ولا خوف على هؤلاء الثائرين، «المجاهدين» «الأطرافيين». فـ﴿اللَّـهُ يَبسُطُ الرِّزقَ لِمَن يَشاءُ وَيَقدِرُ﴾ (الرعد، 26). فـ«بسط الرزق» المُجَاهَدِيّ يَمْنحه الله تعالى لمن كانت له «مشيئة»[25]، وإعادة بناء لـ«القدرة»، فالله تعالى لا يُعطي نصره لـ«المُنهزمين»، المستكينين[26].

         فـ«ظهور» ذلك «السارِبٌ بِالنَّهارِ» (الآية 10)، مَشروطٌ بتمهيد «انتقاصيٍّ» متنامٍ من «الأطراف» المستضعَفة، باسم الإسلام والمسيحية (باعتبار الضرورة الموضوعية للمسيح بن مريم في القيام المهدوي)، وغيرهما من «الأديان». ذلك هو: ﴿إِنَّ اللَّـهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَومٍ حَتّى يُغَيِّروا ما بِأَنفُسِهِم﴾ (الرعد، 11). وذلك في تطور موضوعي نحو استيعاب أهل كل الأديان لأكمليّة الدين الإسلامي، مقتنعين: ﴿ إن الدين عند الله الإسلام﴾.

       كما ﴿جَعَلَ فيها زَوجَينِ اثنَينِ﴾ (الرعد، 3)، أي لا يمكن «الظهور»، دون تغطية التمهيد للجنسين «معا»: ﴿وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾(النمل، 44). «فذكرها بعظمة، وفي النتيجة يعرّفها بأنها عاقلة»، إذ خضع عقلها للحكمة الإلهية، وبذلك أكملت ذاتها، وهي التي: ﴿وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ، وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ﴾(النمل، 23). فرغم تمتعها بكل القوى السياسية والعسكرية، أتت وسلّمت «وهذا دليل على العقل» لديها. فبلقيس كان إسلامها أنطولوجيا(لا زمانيا) بـ«معيّة» إسلام سليمان أي بنفس درجته، وبنفس ضرورته التاريخية، أمام ﴿رَبِّ الْعَالَمِينَ[27].

***

         إن العصر المهدوي الطويل جدا، هو عصر الوفرة: ﴿وَهُوَ الَّذي مَدَّ الأَرضَ﴾ (الرعد، 3). ذلك أنّ الله تعالى خلق﴿مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ﴾: «زوج» يحطّمُهُ الفساد البشري، و«زوج» يُخرِجُه المهدي(ع) والمهدويون لإعادة خلق «الأرض» والإنسانية.

         قال سيدنا ابن عربي في تفسيره للآية ﴿لِكُلِّ أَجَلٖ كِتَابٞ﴾:«لكل وقت أمر مكتوب مقدر أو مفروض في ذلك الوقت على الخلق. فالشرائع معينة عند الله بحسب الأوقات، في كل وقت يأتي بما هو صلاح ذلك الوقت رسول من عنده، وكذا جميع الحوادث من الآيات وغيرها. ﴿وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأۡتِيَ﴾ بشيء منها إلا بإذنه في وقته، لأنها معينة بإزاء الأوقات التي تحدث فيها من غير تغير وتبدل وتقدم وتأخر. ﴿يمحو الله ما يشاء﴾ عن الألواح الجزئية، التي هي النفوس السماوية، من النقوش الثابتة فيها، فيعدم عن المواد ويفني، ﴿وَيُثۡبِتُۖ﴾ ما يشاء فيها، فيوجد. ﴿وَعِندَهُۥٓ أُمُّ ٱلۡكِتَٰبِ﴾ أي: لوح القضاء السابق الذي هو عقل الكل المنتقش بكل ما كان ويكون أزلا وأبدا على الوجه الكلي المنزه عن المحو والإثبات»[28]. فالآجال مكتوبة، ولكنّها رهينة بـ«المشيئة» الإنسانية ومراكمة «الاقتدار» الإيماني. فالله تعالى هو ﴿عالِمُ الغَيبِ وَالشَّهادَةِ، الكَبيرُ، المُتَعالِ﴾ (الرعد، 9)، إذ هو ﴿عالم﴾: « بالاستعدادات من قوة القبول، وشهادة الكمالات الحاضرة، الخارجة إلى الفعل، ﴿الكَبيرُ﴾ الشأن الذي يجل عن إعطاء ما يقتضيه بعض الاستعدادات، بل يسع كلها، فيعطيها مقتضياتها، ﴿المُتَعالِ﴾ عن أن ينقطع فيضه فيتأخر عن حصول الاستعداد وينقص مما يقتضيه»[29].

  1. خصائص المؤمنين الممهِّدين:

         أنْزَلَ «مُعيدُ الخلق» سُبْحَانَهُ من «السماء» المحمدية ﴿ماء﴾: «ماء العلم»[30]، وهو وسائل الخلافة الإنسانية على «الأرض»: ﴿استَجيبوا لِلَّـهِ وَلِلرَّسولِ إِذا دَعاكُم لِما يُحييكُم﴾ (الأنفال، 24)، ﴿وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ﴾، ﴿فَسَالَتۡ أَوۡدِيَةُ﴾، هي «القلوب باستعداداتها»، ﴿فَٱحۡتَمَلَ﴾ «سبيل العلم»، ﴿زَبَدٗا رَّابِيٗاۖ﴾ «من خبث صفات أرض النفس ورذائلها ودناياها، ﴿وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيۡهِ﴾ في نار العشق من المعارف والكشوف والحقائق والمعاني التي تهيج العشق ﴿ٱبۡتِغَآءَ﴾ زينة النفس وبهجتها بها لكونها كمالات لها ﴿أَوۡ مَتَٰاعٖ﴾ من الفضائل الخلقية التي يحصل بسببها، فإنها مما يتمتع به النفس ﴿زَبَدٞ مِّثۡلُهُ﴾ خبث كالنظر إليها ورؤيتها وتصور النفس كونها كاملة أو فاضلة متزينة بزينة تلك الأوصاف وإعجابها واحتجابها، وسائر ما يعد من آفات النفس وذنوب الأحوال. ﴿فَأَمَّا ٱلزَّبَدُ فَيَذۡهَبُ جُفَآءٗۖ﴾، مرميا به، منفيا بالعلم، كما قال تعالى: ﴿ليطهّركم به﴾[الأنفال، الآية:11]، ﴿وَأَمَّا مَا يَنفَعُ ٱلنَّاسَ﴾، من المعاني الحَقّية والفضائل الخالصة، ﴿فَيَمۡكُثُ﴾ في أرض النفس، ﴿لِلَّذِينَ ٱسۡتَجَابُواْ لِرَبِّهِمُ﴾ بتصفية الاستعداد عن كدورات صفات النفس، ﴿ٱلۡحُسۡنَىٰۚ﴾ أي: المثوبة الحسنى، وهو الكمال الفائض عليهم عند الصفاء المعبّر عنه بقوله تعالى: ﴿نُّورٌ عَلَىٰ نُورٍ﴾»[31].

         ﴿وَمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مِن مَّآءٖ ﴾، «ماء» العلم المحمدي، ﴿فَأَحۡيَا بِهِ ٱلۡأَرۡضَ بَعۡدَ مَوۡتِهَا﴾، أي «أرض النفس بعد موتها بالجهل. ﴿وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٖ﴾، وهي القوى الحيوانية الحية بحياة القلب». ﴿وَتَصۡرِيفِ ٱلرِّيَٰحِ وَٱلسَّحَابِ ٱلۡمُسَخَّرِ بَيۡنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلۡأَرۡضِ لَأٓيَٰتٖ لِّقَوۡمٖ يَعۡقِلُونَ﴾ (البقرة، الآية 164). و«الرياح» هي «عصوف زيادة الأفعال الحقانية»[32]. أما «السّحاب» فهو «تجلي الصّفات الرَّبّانية، المسخّر، المهيّأ»[33]، بين «السماء» المحمدية و«أرض» التمهيد المهدوي.

         سيكون من هؤلاء الذين يُجاهدون أنفسهم في الله تعالى، «جبال»[34]. وهم قادة الإنسانية في التغيير المهدوي العالمي. إنهم سَالكون على طريق «الهادي»، أصبحوا «جبالا» «تَسيرُ» (= تَسْلُكُ) بالقرآن الكريم، وقد كان صلى الله عليه وآله «خُلُقُهُ القرآن الكريم»: ﴿وَلَو أَنَّ قُرآنًا سُيِّرَت بِهِ الجِبالُ أَو قُطِّعَت بِهِ الأَرضُ [إذ سَتُصْبِحُ كلّ قِطَع الأرض أي أقاليمها، على «هدي» «الهادي» الخاتم باسْم الرسول الخاتم (ص)]، أَو كُلِّمَ بِهِ المَوتى [فهذا القرآن هو نداء ﴿لما يُحْييكم﴾]، بَل لِلَّـهِ الأَمرُ جَميعًا﴾ (الرعد، 31). فبهؤلاء «الجبال»،(رض)، «مَدَّ» الله تعالى الأرض: ﴿وَهُوَ الَّذي مَدَّ الأَرضَ، وَجَعَلَ فيها رَواسِيَ﴾ (الرعد، 3).

         فبجهاد «الهادي» «الخاتم» وعيسى بن مريم (عليهما السلام) و«الجبال» «الرواسي»  رضوان الله عليهم، ستُصبح كل «قِطع» «الأرض» في «جِوَارِ» «السلام» الدائم: ﴿وَفِي الأَرضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ ، وَجَنّاتٌ مِن أَعنابٍ وَزَرعٌ وَنَخيلٌ، صِنوانٌ وَغَيرُ صِنوانٍ، يُسقى بِماءٍ واحِدٍ. وَنُفَضِّلُ بَعضَها عَلى بَعضٍ فِي الأُكُلِ. إِنَّ في ذلِكَ لَآياتٍ لِقَومٍ يَعقِلونَ﴾ (الرعد،4). فالجمال والربيع لا يكونان إلا بالتنوع، المنبثق ﴿بماء واحد﴾، «ماء» أنطولوجيا محمدٍ وآل محمد (ص). فمن «عِنبيّة» «خَمْر» المحبة الإلهية والعطاء للناس، و«تخيليّة» الأبوة والأمومة للناس جميعًا، و«التعامل» إنما هو في التنافس في «خِدْمة» الإنسانية والأرض «سَرْمَدًا». جاء في دعاء كُمَيْل: «واجعلني في خِدمتك سَرْمَدًا».

         هذه الانتصارات المتوالية على الاستكبار البشري إنما هي ﴿للذين استجابوا لربهم﴾، فتكون لهم ﴿الحسنى﴾، حسنى لذة النصر: ﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّـهِ وَالْفَتْحُ ؛وَرَأَيْتَ [إذا رأيت] النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّـهِ أَفْوَاجًا﴾. هؤلاء هم: ﴿الَّذينَ يوفونَ بِعَهدِ اللَّـهِ وَلا يَنقُضونَ الميثاقَ، وَالَّذينَ يَصِلونَ ما أَمَرَ اللَّـهُ بِهِ أَن يوصَلَ وَيَخشَونَ رَبَّهُم وَيَخافونَ سوءَ الحِسابِ، وَالَّذينَ صَبَرُوا ابتِغاءَ وَجهِ رَبِّهِم وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنفَقوا مِمّا رَزَقناهُم سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدرَءونَ بِالحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ. أُولـئِكَ لَهُم عُقبَى الدّارِ ﴾ (سورة الرعد، 20 و21 و22).

         فقد استجابوا «بتصفية الاستعداد عن كُدُورَات صفات النفس»[35]. وهم ﴿الَّذينَ آمَنوا [=﴿يا أيّها الَّذينَ آمَنوا آمِنوا ﴾(النساء 136)] وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ﴾ (الرعد، 29). وذِكْرُهُمْ اللهَ تعالى في وجوه: «ذكر النفس باللسان والتفكر في النعم، أو ذكر القلب بالتفكر في الملكوت ومطالعة صفات الجمال والجلال، فإن للذكر مراتب ذكر النفس باللسان والتفكر في النعم، وذكر القلب بمطالعة الصفات»[36].

***

         إن ﴿عُقبَى الدّارِ﴾ (الرعد، 42) و(الرعد، 24)، بما هو «مستقر» «الأرض» الفردية و«الأرض» الجماعية،  لا يكون إلا بالمجاهدات النفسية، وبـ«إنقاذ» الأرض الممتلئة جورًا من هيمنة الاستكبار العالمي. بذلك يكون «الانتظار» الإيجابي، الحقيقي، «الماكر» بـ«المكر» الاستكباري.

         وهنالك تكون لحظة «ظهور» «الهادي» الخاتم (ع) باسم «الشمس» المحمدية، «الشمس» الخاتمة: ﴿وَيَقولُ الَّذينَ كَفَروا لَستَ مُرسَلًا. قُل كَفى بِاللَّـهِ شَهيدًا بَيني وَبَينَكُم، وَمَن عِندَهُ عِلمُ الكِتابِ﴾ (الرعد، 43). فمثلما كان «الشاهد» على صِدْق رسولِ الرحمةِ للعالمين «الهادي» الأول: ﴿إِنَّما أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَومٍ هادٍ﴾ (الرعد، 7)، كذلك يكون «الشهيد» الأخير، «الهادي» الخاتم، الحامل «علم الكتاب»، «المُظْهر» لذلك العلم كاملا، دون تقية: ﴿قُل كَفى بِاللَّـهِ شَهيدًا بَيني وَبَينَكُم، وَمَن عِندَهُ عِلمُ الكِتابِ﴾ (الرعد، 43). قال تعالى عن «ذو القَرنين» (ع)، أي الإمام «الهادي» الخاتم: ﴿إِنّا مَكَّنّا لَهُ فِي الأَرضِ، وَآتَيناهُ مِن كُلِّ شَيءٍ سَبَبًا﴾ (الكهف، 84)؛ ﴿وَقَد أَحَطنا بِما لَدَيهِ خُبرًا﴾ (الكهف، 91) [37].

خُلاصة:

       تشترط سورةُ الرعد ظهور الهادي الخاتم (ع)، بسَيَلان «أودية» المجَاهَدة التمهيدية، وعمُوم «رَعْدِ» الاستعدادات و«بَرْقِها» الثوريّيْن ـ المهدويّيْن، من «الحامدين»، «الخائفين» على مَصير العَالَمين، والمستمِدّين «ماءَ» إيمانهم أبدًا من «السماء المحمدية» بحَبْل «الهادي» الخاتم (ع).

       **********************************

[1]  ابن منظور، مادة «سَمَا».

[2]  رواه الحاكم النيسابوري.

[3]  «ألا إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّه السَّماواتِ والأَرْضَ»(خطبة الوداع).

[4]  ابن عربي، تفسير سورة الرعد.

[5]  راجع تدبرنا في سورة الشمس.

[6]  راجع تدبرنا في سورة الشمس.

[7]  الإمام علي، نهر البلاغة، دار صاحب، بيروت، 1984، ص157.

[8]  … مِن الإمامين الحسن والحسين عليهما السلام، إلى الإمام المهدي(ع). وقد برهنا على ذلك في عديد التدبرات.

[9]  ﴿وجادلهم بالتي هي أحسن﴾.

[10]  ابن عربي، تفسير سورة الرعد.

[11]  ابن عربي، م. س.

[12]  ابن حجر، فتح الباري، 8/285، الطبري، جامع البيان، 13/124؛ ابن كثير، التفسير، 2/528؛ السيوطي، الدر المنثور.

[13]  راجع تفسير: ﴿إلاّ أن تتقوا منهم تُقاةعند كل المفسرين.

[14]  ابن عربي، م.م.

[15]  «الزوج» هنا هي الزوج المنجِبة لـ«الهادي» في «القوم» المعيّن له. فـ«أمّ المؤمنين» هي «أم» للذكور المؤمنين فقط، أي لا حق لهم الزواج بها بعد وفاة الرسول. وقد نزلت الآية 6 من سورة الأحزاب في طَلحة بن عبيد الله، حين أعلن أنه سيتزوج عائشة بعد وفاة الرسول (ص) [رواه البيْهَقيّ في السنن الكبرى، 7/96؛ القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، ج14، ص207، ابن كثير، التفسير، ج6، ص455…].

[16]  راجع تدبرنا في سورة آل عمران، فقد كانت نواتُها القَرْئيّة مقُولة «الآل».

[17]  و3 ابن عربي، تفسير سورة البقرة [لا نجد مقولة «الرعد» إلا في سورتي البقرة (الآية 19) وسورة الرعد، الآية، 13).

[18]  ﴿هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ﴾ (الرعد، 12).

[19]

[20]  ابن عربي، تفسير سورة البقرة.

[21]  الجوادي الآملي (عبد الله) في «العرفان و الثورة»، دار الوسيلة، بيروت 1994، ص 109 و141 و209.

[22]  م.س، ص227.

[23]  مقولة «المَرض» النفسي نجدها في عديد السور: سورة البقرة…

[24]  الجملة الإسمية دليل على الراهنية والاستمرار.

[25]  راجع تدبرنا في هذه المقولة بتدبر سورة الأعراف.

[26]  الصدر (محمد باقر)، منابع القدرة في الدولة الإسلامية.

[27]  انظر: الجوادي الآملي (عبد الله )، جمال المرأة وجلالها، دار الهادي، بيروت 2000 ، ص310 و311.

[28]  ابن عربي، تفسير سورة الرعد.

[29]  ابن عربي، م. س.

[30]  ابن عربي، م. س.

[31]  م. س، في تفسير قوله تعالى: ﴿ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا ۚ وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ ۚ كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ ۚ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً ۖ وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ ۚ كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ، لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَىٰ ۚ﴾ (سورة الرعد، الآيتان 16 و17)  .

[32]  و6 ابن عربي، تفسير سورة البقرة.

[33]

[34]  راجع مقولة «الجبال» في تدبرنا بسورة الطور.

[35]  م. س.

[36]  م. س.

[37]  انظر تدبرنا في سورة الكهف.

شارك على :
المحور العربي © كل الحقوق محفوظة 2023