تدبّر طالب التيسير في فضاء القرآن الكريم: تدبر في سورة التوبة (ج-6)

تدبّر طالب التيسير في فضاء القرآن الكريم: تدبر في سورة التوبة (ج-6)

بقلم: د. نعمان المغربي (مختص في علوم الأديان المقارنة، – تونس)
عفا الله عنه وحفظ أهله، آمين

بين «غار»«البراءة» و«مغارات»«التعاهد» مع المشركين«المُعْتَدِين»: بين البُنيان السياسي الإسلامي والبُنيان السياسي الضِّراري

10. موقع «الإلِّ» المحمدي في البُنيان الاجتماعي والنفسِيّ الإسلامي

لم يَرِدْ مصطلح «الإِلّ» إلا في سورة التوبة فقط. و«الإلُّ» في العربية هو «القرابة»[1]، وهي قرابة رسول الله، المعصومة، صلى الله عليه وعليهم جميعا. أما «الذّمة» التي جاءت قرينة لـ«الإلِّ» في سورة التوبة، فهي «العَهْدُ» و«الضمان» و«التحجير»[2]، لعموم المسلمين. «فظهور» أئمة الكُفْر مِنْ قَبْل على بُنيان المسلمين، أما إمامتهم لهم، نتيجة «تعاهد» سريّة بينهم وبين بعض كبار المهاجرين والأنصار سيؤدي إلى كارثة و«جحيم بابِلِيّ»، لن تحرق «الإلّ» عليهم السلام وحدهم، بل ستحرقهم هم أنفسهم بمجرّد ظهور «الشهر المَغَارِيّ الرابع» الذي أفرزه «الانقلاب على الأعقاب»، أي ظهور إمامة «الشَّهر» معاوية بن أبي سفيان.

فالتعاهديون سرًّا، أي غير «البرَائيين»، إنما يلعبون بالجحيم البابلي التي ستحرقهم تماما، بظهور الشهر الرابع/الإمام الأموي الأول: ﴿قَالُوا ابْنُوا لَهُ [إبراهيم] بُنْيَانًا، فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (97) فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ(98) (الصافات). فقد احترق بُنيانهم المَغَارِيّ السياسي والمِلي وتقوّض، لأنه وهمي، خيالي، غير واقعي، غير ممكن، فهو «تخبّط» و«مَسّ». أما أهل البيت فقد خرجوا من محاولة حَرْق بيتهم وكسر ضِلعهم وتحطيم بابهم، أقوياء ﴿قالوا حَرِّقوهُ وَانصُروا آلِهَتَكُم إِن كُنتُم فاعِلينَ (68) قُلنا يا نارُ كوني بَردًا وَسَلامًا عَلى إِبراهيمَ (69) وَأَرادوا بِهِ كَيدًا فَجَعَلناهُمُ الأَخسَرينَ(70) (الأنبياء).

لقد أصبح غير «البرائِيين»، من ﴿قَوْمِ إِبراهيمَ﴾النَّمْرُودِيّين-البابليين، حسب توقع سورة التوبة، فكانوا من الظالمين ﴿وَلـكِن كانوا أَنفُسَهُم يَظلِمونَ (التوبة، 70).

وقد صرّحت سورة التوبة كعديد السُّور أن المؤمنين/المؤمنين، هم شهداء الأعمال، يروْن أعمال المؤمنين والمنافقين والكافرين في عصرهم الخاص بهم، سواء كان ممتدّا كعصر رسول الله، صلى الله عليه وآله، يمتد حتى يوم القيامة، أو عصر «قوم» محدَّدين حِمويّا وزمنيا: ﴿وَقُلِ اعمَلوا، فَسَيَرَى اللَّـهُ عَمَلَكُم وَرَسولُهُ وَالمُؤمِنونَ (التوبة، 105). فهو ﴿لَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا، إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ (الجن، 26-27). وكذلك في ما يخص حقيقة عمل المنافقين: ﴿قُل لا تَعتَذِروا. لَن نُؤمِنَ لَكُم. قَد نَبَّأَنَا اللَّـهُ مِن أَخبارِكُم. وَسَيَرَى اللَّـهُ عَمَلَكُم وَرَسولُهُ، ثُمَّ تُرَدّونَ إِلى عالِمِ الغَيبِ وَالشَّهادَةِ، فَيُنَبِّئُكُم بِما كُنتُم تَعمَلونَ (التوبة، 94).

وقد صرّحت سورة التوبة، كعديد السّور، أن عِدَة «الإلِّ»-المؤمنين/المؤمنين إثنا عشر «شهرا»، و«الشّهْرُ» هو «العالم»/العالم[3]، وبشهادة الجميع ليس هناك مَنْ هو «أقْضى منهم»، ولا أكثر علمًا، ولا أكثر تمكنا من كتاب الله تعالى وسنة رسوله، صلى الله عليه وآله، علاوة على شهادة رسول الله، صلى الله عليه وآله فيهم: «إني أوشك أنْ أُدْعى فأجيب. وإني تارك فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي: كتاب الله ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي. وإن اللطيف الخبير أخبرني أنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض. فانظروا كيف تخلفوني فيهما»[4]. فهم عِدْل القرآن ومستوعبوه لا يفترق فهمهم عن حقيقته مطلقا. وهذا ما قاله القرآن الكريم في أخريات نزوله الشريف: ﴿إِنَّ عِدَّةَ الشُّهورِ [=العلماء] عِندَ اللَّـهِ إثنا عَشَرَ شَهرًا[=عالِمًا] في كِتابِ اللَّـهِ يَومَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالأَرضَ [فقد خلقهن من أجل الإنسان/الإنسان، وخلق الإنسان من أجله]. مِنها أَربَعَةٌ حُرُمٌ[الإمام علي، والإمام الحسن والإمام الحسين والإمام المهدي عليهم السلام][5]. ذلِكَ الدّينُ القَيِّمُ [ذلك هو البُنيان الديني-السياسي الأفضل، اختاره الله الحكيم لكم]. فَلا تَظلِموا فيهِنَّ [في سماواتكم وأرضكم] أَنفُسَكُم [لأن أهل البيت هم أنفسنا، إنسانيتها الصافية «البريئة»، فعندما نظلمهم إنما نظلم أنفسنا وتشهد علينا سماواتهم وأرضهم، لأنها سماواتهم وأرضهم قبل أن تكون لنا]. وَقاتِلُوا المُشرِكينَ كافَّةً [متحدين بقيادتهم لا أن «نَفْرَق» كما جاء في الآية]، كَما يُقاتِلونَكُم كافَّةً [في مؤامرة جزيرية-عالَمية منسَّقَه، بين عاد وثمود والمؤتفكات ومَدْيَن وقوم إبراهيمَ المُحْدَثِين مع الروم]. وَاعلَموا أَنَّ اللَّـهَ مَعَ المُتَّقينَ (التوبة، 36). وقد جاء في مسانيد المسلمين: «الخلفاء بعدي إثني عشر»[6].

وأوّل هؤلاء «الإلّ»«المطهّرين»، أي هؤلاء «الشهور الإثني عشر»، سيدنا الإمام علي بن أبي طالب، عليهما السلام. وقد انتقدت السورة الكريمة العباس بن عبد المطلب إذ جعل ﴿سِقايَةَ الحاجِّ وَعِمارَةَ المَسجِدِ الحَرامِ [اللتين له ولعثمان بن طلحة] كَمَن آمَنَ بِاللَّـهِ وَاليَومِ الآخِرِ وَجاهَدَ في سَبيلِ اللَّـهِ وهي تقصد الإمام عليا عليه السلام[7]، وأكّدت أن الطرفَيْنِ ﴿لا يَستَوونَ عِندَ اللَّـهِ وَاللَّـهُ لا يَهدِي القَومَ الظّالِمينَ (التوبة، 19)، متهمة العباس بالظلم، وكذلك بنيه، أي متوقعة «انقلابهم على الأعقاب»، واضطهادَهُمْ للشهور المُطهَّرين المعارضين لهم. وقد أكدت الآية 20 أن ﴿الَّذينَ آمَنوا وَهاجَروا وَجاهَدوا في سَبيلِ اللَّـهِ بِأَموالِهِم[فدك، ينبع، عديد الواحات بالعراق…] وَأَنفُسِهِم أَعظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللَّـهِ وَأُولـئِكَ هُمُ الفائِزونَ. وكلمة ﴿الفائِزونَ بقيت تتردد في القلب الكبير للشَّهْر المطهَّر الأوَّلِ حتى سقط شهيدًا للحق وللكتاب وللنبي في المحراب وهو ينادي: «فُزْتُ وربّ الكعبة!». والآيتان تنطبقان على كل من يريد أن يكون «رفيقا» لِـ«عَبْد» محمد، عليهما السلام، سيدنا الإمام علي، فقد أحبّه حتى جعل نفسه له «عَبْدًا».

وقد هاجر الإمام «الرغائبَ الحسيةَ والمَوَاطن النفسية بالسلوك في سبيل الله». فجاهد بأموال معلوماته ومُرَادَاته ومقدوراته بمحو صفاته في صفات الله، وجاهد بنفسه «بإفنائها في ذات الله». فهو الأعظم درجة في التوحيد في مدرسة سيدنا محمد صلى الله عليه وآله[8]: ﴿يُبَشِّرُهُم رَبُّهُم بِرَحمَةٍ مِنهُ وَرِضوانٍ وَجَنّاتٍ لَهُم فيها نَعيمٌ مُقيمٌ (21) خالِدينَ فيها أَبَدًا إِنَّ اللَّـهَ عِندَهُ أَجرٌ عَظيمٌ(22) (التوبة).

وقد كان الإمام علي (ع) مقدّما دائما بين كل أتباع النبي (ص). ويكفي أن نذكر يوم الدار[9]، وأن نذكر حمله لراية رسول الله (ص) في كل معركة هو حاضر فيها: ﴿وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ[=الإمام هو مِنْ أهْلِه الإثني عشر]، تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّـهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (آل عمران، 121)، وهو الوحيد الذي وجده رسول الله كفءًا لكي يتولى المدينة المنورة عِوَضه، عِنْد غَيْبَتِهِ مكانيا لمدة طويلة باتجاه الحدود الشمالية (معركة تبوك). وهو إشارة إلى أنه لا يصلح لخلافته موضوعيا عند «غَيْبته» الجسدية غيره: «يا علي لا يصلح بالمدينة إلا أنا وأنت». وقد شرّفه في بداية تلك «الغَيْبة» بقوله وهو يودّعه على عيون الأشهاد: «أنتَ مِني بمنزلة هارون من موسى» عند غيبته، فكان وصيّة الأوّل.

ولما عيّن عبد الله بن أبي قُحافة بكر ليكون أميرا للحج ومقدّم سورة «براءة للناس» (سورتنا هذه)، جاء الوحي بأن لا يقدّمها للناس إلا «الشَّهْر» المطهَّر الأوَّل، ومن ثمّة يصبح هو أمير الحج، لأنه «لا يؤدي عني إلا أنا أو واحد من أهل بيتي»[10]، فكان هو أمير الحج لأنه هو «الشهر» أي الأعلم، بشهادة أبي بكر نفسه. وقد ذكر الإمام الحسن عليه السلام «أن النبي (ص) حين بعثه ببراءة قال: يا نبي الله إني لست بِلَسِنٍ ولا بخطيب. فقال، صلى الله عليه وآله: يأبى الله إلا أن أذهب بها أو تذهب أنت»: فقال: «فإن كان لا بد، فسأذهب أنا». قال «فانطلقْ، فإن الله يُثَبِّتُ لسانك ويهدي قلبك». ثم وضع يده على فمه فقال: «انطلق واقرأها على الناس». وقال صلى الله عليه وآله: «الناس سيتقاضون إليك، فإذا أتاك الضمان فلا تقض لواحد حتى تسمع الآخر، فإنه أجدر أن تعلم الحق»[11]. فكان هو أبْلَغَ الناس، وأخْطَبَ الناس، بَعْد الذي أعْطاهُ الله تعالى «جوامع الكلِم».

وهكذا، كانت آخر دورة تكوينية مرّ بِها الإمام علي (ع) على يد سيده، سيدنا محمد صلى الله عليه وآله، وهي أنه علمه الخَطابة، فاكتشفت عبقريته الخطابية لأول مرة في تلك الحَجَّة المباركة، وكان هو أوّل خطيب في الإسلام بتلك الواقعة، بعد أبي الخطابة، سيد الخلق أجمعين. ولو أنني أظن أن الدورة التكوينية النبوية في الخطابة والولايات (القضاء، والولاية المركزية) للإمام علي، بدأت ببعثه إلى اليمن سَنَةً قبل ذلك، فكان هناك واليا عامًّا وقاضيا وخطيب جمعة وداعية ومصلحًا عاما في الفضاء العمومي لصنعاء المسمَّى «حلقة صنعاء».

والسورة تحذر العباس من أن يكون أبا لهب الثاني، فالنسب والحسب لا قيمة لهما، لأن الذي يُقرّب إلى الله تعالى هو الأعمال الشريفة فحسب. وعلي، لم يصل إلى ما وصل إليه لقرابته من الرسول الأكرم، بل لمجاهداته في الفضاء الأكبر والفضاء الأصغر، وإن استغل قرابَتَهُ مِنْ أكمل عباد الله لكي يسمح للتربية المحمدية حتى تهيمن عليه أكثر من هيمنتها على الغير. فالقرابة من الحضرة النبوية إمكانية وليست وصولا، والإمكانية يحققها العمل المستمر والصادق.

والسورة تتهم العباس بتغليب حبِّه «عشيرتَهُ» القرشية و«الكنْزَ» على حب ﴿اللَّـهِ وَرَسولِهِ (الآية الموالية، 24)، فيكون حسب السياق عدم حبه عليًّا، هو عدم حبه الله ورسوله. وقد أكد ذلك سيدنا النبي(ص): «يا علي. من أحبك فقد أحبني. ومن أبغضك، فقد أبغضني»[12]، «يا علي لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق»، لأنه لا يفترق عن الكتاب الكريم: «علي مع الحق. والحق مع عليّ»، و«يُعْرَف الرجال [والنّساء] بالحق».

وتذكر السورة، بما صرّحت به سور أخرى من أهمية «الشهر الحرام الأخير»، وهو الإمام الحجة بن الحسن، عليه السلام: ﴿يُريدونَ أَن يُطفِئوا نورَ اللَّـهِ بِأَفواهِهِم، وَيَأبَى اللَّـهُ إِلّا أَن يُتِمَّ نورَهُ، وَلَو كَرِهَ الكافِرونَ (التوبة، 32). فالنور المحمدي يسْتمر بأنواره/أَنْفُسِهِ الإثني عشر، وتكتمل دورتها المباركة حتى تضيء كامل العالم رغم قوة الكُفر العالمي-الرومي-اليهودي: ﴿هُوَ الَّذي أَرسَلَ رَسولَهُ بِالهُدى [يُرسله مرة أخرى مُجَسَّدًا بـ«الهُدَى»، أي المهدي عليه السلام] وَدينِ[13] الحَقِّ [بُنيان الحق والعدل وقانونِهِمَا] لِيُظهِرَهُ عَلَى الدّينِ كُلِّهِ وَلَو كَرِهَ المُشرِكونَ (التوبة، 33). وعلى يده يكون «المُلك العظيم» لآل إبراهيم (وآل محمد مِن آل إبراهيم): ﴿أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَىٰ مَا آتَاهُمُ اللَّـهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا﴾، (النساء، 54)، وهو مُلك كل الصالحين بإمامة الحجة بن الحسن، عليه السلام، أي ﴿العَرشِ العَظيمِ بلغة سورة التوبة، (الآُية 129) وهما الكلمتان الأخيرتان في السورة. ولهذه التأخّرية دلالة عظيمة جدّا، لقوم يتفكرون، جعلنا الله مِنهم أو من «رُفًقَائهم»، أو من الذين يَشْفَعُ فيهم محمد و«آله»، عليهم السلام. وبذلك يكون عموم نور نبينا ﴿رَحْمَةً لِلْعَالَمِين، عجلها الله تعالى.

فـ«العَرْش» هو المُلْكُ. و«العَرْش العظيم»، هو المُلْكُ العَالَمِيُّ «العظيم»، الأهَمُّ، لأنه «يملأ الأرض عدلا وقسطا، كما ملئت ظلما وجورًا»، وهو علامَة الانتصار الناجز والنهائي والطويل جدًّا حتى يوم القيامة للخير على الشرّ.

هنالك ينتهي الصراع بين المنتمين لأوهام ظلال ﴿الشَّجَرَة المَلْعُونَة الأموية والمنتمين لظلال كساء أهل البيت، بسُجِيّ[14] مُلك آل «الإبْـ-الرَّاهيم» العظيم، بعَرْش العدل والنور التامَّيْنِ.

11. ولاية الفقهاء جزء من بُنيان الخلافة الشرعية للرسول الأكرم

ضمن إطار اختبار المسلمين لولاية «الأعقل»، أي ولاية المعصوم، تكون الولاية المشتركة (الآية 71 من سورة التوبة). وضمن إطار ولاية الأعقل أيضا لا بد من ولاية الفقهاء، في الغيبة المكانية أو الزمانية لإمام الزمان المعاصر لهم، وهي ولاية محدودة حِمَويّا وزمانيا وديمغرافيا، على عكس إمام الزمان الذي من واجبه/ومن حقه أن «يهيمن بالعقل» على كل المكان وكل الزمان، بحكم أن مقدرته العقلية أكثر تفوقا من المقدرة العقلية للفقيه. فمقدرة المعصوم تستند إلى «الوحْي»[15]، أمّا مقدرة الفقيه فتستند إلى «الاكتساب». أما إذا كان الفقيه عارفًا، أي أعقل من الفقيه العادي، انضاف له الكَدْح السلوكي.

فإن تمكن المعصوم من تكوين العلماء الذين يقطنون كُلَّ الحِمواتِ، طلب من أهالي تلك الحِموات الاقتناع بهم فَنَصَبَهُ عليهم بمحض اختيارهم وإرادتهم، وإن لم يستطع أوجد صيغة توفيقية بين المحلي والعقلي، في انتظار ارتقاء المحلي إلى العقلي تدريجيا، كما فعل رسول الله، صلى الله عليه وآله، إذ أوِجد في الفترة الانتقالية بين الدولة/المدينة الصّرْف وبين دولة العقل/دولة الإسلام كما يجب، صيغة إيلافية، بين الإيلاف الواجب وإيلافِهمْ، أي بين معركة الأحزاب ووفاته، صلى الله عليه وآله.

ولقد وُفق رسول الله، صلى الله عليه وآله، إلى تكوين بعض الفقهاء بالشروط الأفضل في عصره، رغم الصعوبات والمعضلات التي اكتنفته، وقد مارسوا ولايتهم إمَّا على قومهم كأبي ذرّ الغفاري رضوان الله عليه، والرسول مازال مُحَاصَرًا في مكة لم يؤسس دولته، إذْ أصبح وليًّا فقيها يتابع كل ما يطرأ من توجيه تشريعي إلهي/نبوي؛ أو على أقوام آخرين لم يُوقَّقوا بعد لولاية فقهاء منهم، وأبرزهم مُعاذ بن جبل، الذي عيّنه بديلا عن معصوم اليمن، سيدنا عليٍّ عليه السلام، فهو سيملأ «غَيْبة» النبي، صلى الله عليه وآله، و«غَيْبة» علي عليه السلام عن اليمن، رغم أنف اليهودية اليمانية المساهمة في «الحِنْث العظيم» آنئذ بزعامة الحَبْرَيْن الشيطانيّيْن: كعب الأحبار ووهب بن منبَّه…

فقد قال رسول الله، صلى الله عليه وآله، للولي الفقيه معاذ بن جبل، لما بعثه إلى اليمن: «يا معاذ علمهم كتاب الله»، فهو يَعْرف أنه يَعْرف كتاب الله تعالى. وقال: «وأحسن أدبهم على الأخلاق الصالحة، وأنزل الناس منازلهم، خيرهم وشرهم، وأنفذ فيهم أمر الله، ولا تحاش في أمره ولا ماله أحدا»، فرسول الله، صلى الله عليه وآله، علّمه القوانين الإسلامية ويدعوه لأن لا يخاف في الله تعالى لومة لائم، وذلك لأنها «ليست بولايتك ولا مالك». فولايته هي مَجَازِيّة إذ الولاية الأصلية باليمن السعيد كانت للإمام علي عليه السلام؛ والولايةُ الأصلية للإمام علي هي لسيده، سيدنا محمد، صلى الله عليه وآله؛ والولاية على النبي، صلى الله عليه وآله، هي بالحقّ والحقيقة، لله تعالى.

وهو يوصيه: «وعليك بالرفق، والعفو في غير ترك الحق، يقول الجاهل قد تركت من حق الله. واعتذر إلى عملك من كل مر خشيت أن يقع إليك منه عيب حتى يعذروك. وأمِتْ أمر الجاهلية إلا ما سنَّهُ الإسلام. وأظهر أمر الإسلام، صغيرَه وكبيرَهُ»، فهو يعرف كل قوانينه، «وليكن أكثر همك الصلاة، فإنها رأس الإسلام بعد الإقرار بالدين. وذكّر الناس بالله واليوم الآخر، واتبع الموعظة، فإنه أقوى لهم على العمل بما يحب الله، ثم بثّ فيهم المُعَلِّمين»، فيجب أن يولّد وُلاةً فقهاء جدُدا. وأوصاه أيضا: «واعبد الله الذي إليه ترجع ولا تخف في الله لومة لائم. وأوصيك بتقوى الله وصدق الحديث والوفاء بالعهد (…) والفقه في القرآن وكظم الغيظ وحفظ الجناح». وهكذا نكتشف أن «الفقيه» في الاصطلاح المحمدي/القرآني ليس مجرّد قانونيّ، بل هو أخلاقيّ أيضا وأساسًا.

وهو يدعو معاذًا بن جبل إلى طاعة المعصوم الذي بعده، وعدم طاعة من ينصّبُ نفسه بدل ذلك المعصوم: «وإيّاك أن تشتم مسلمًا، أو تعصي إماما عادلا (…). يا معاذ لولا أنني أرى ألاَّ نلتقي إلى يوم القيامة، لقصرتُ في الوصية، ولكنني أرى أن لا نلتقي أبدا (…)!»[16]. ولكنْ مِن سوء الحظ أن «الشَّهر» المَغَاريَّ الأوَّل عزله عن ولاية اليمن، جاعلا أحد المَغَاريّين عليها. وبذلك فهو يعتبر اختيارا غير حكيم. وذلك مع إقرار أحبار مدعين للإسلام في كثير من ولايات اليمن الجزئية.

وقد مارس الوليّ الفقيه مصعب بن عمير، رضوان الله تعالى عليه، الولاية السياسية قبل رسول الله، صلى الله عليه وآله، إذ عينه وليّا فقيها على المدينة المنوَّرة حوالي سنتين قبل مقدمة الشريف. وكذلك مارس أعظم الوُلاة الفقهاء، سيدنا سَلمان الفارسي، عليه السلام الولاية السياسية قبل رئاسة الإمام علي عليه السلام السياسية للأمة، إذ دعاه إلى قبول ولاية المدائن مُقنعا عمر بن الخطاب بذلك، فلما تُوفي دعا حُذيفةَ بنَ اليمان (رضوان الله عليه) إلى أن يكون مكانه مقنعًا عمر بن الخطاب به، وقد فعل الأمر نفسه قبل ذلك إذ كان حُذيفة واليا على أذربيجان.

ومن أعظم الأولياء/الفقهاء بعد سلمان الفارسي سيدنا مالك الأشتر، رضوان الله عليه. وقد عيّنه الإمام علي عليه السلام على مصر، ملخّصا له ولاية الفقيه السياسية بقوله: «لا تَنْقُض سنة صالحة عمل بها صُدُور هذه الأمة»[17]، أي مُقدَّموها المفترضون للطاعة وهم: رسول الله، صلى الله عليه وآله، وأهل الكساء، والمعصومون التسعة من وُلد الإمام الحسين، عليه السلام، و«لا تُحْدِثَنّ سنة تَضرّ بشيء». فله أن يجتهد: «ثُم انظر في الأحكام»، أي الوقائع المستجدة، وتكون معالجتها إما ممَّا شاهد في «حكومة عادلة»، أي حكومة إمام زمانه، أو «سنة فاضلة» حفظها، أو «أثر عن نبيك، صلى الله عليه وآله، أو فريضة في كتاب الله. فتقتدي»، أي تسْتنبط الحكم الشرعي «بما شاهدتَ ممَّا عملنا به مِنها، وتجتهد نفسك في اتباع ما عهدتُ إليك في عهدي»[18].

وقد استشهد له بالآية الكريمة: ﴿وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ﴾(النساء، 83). فينبغي للولي/الفقيه، مالك الأشتر، أن يُرْجِع الموضوعَ المِصْرِيَّ إلى سنة الرسول وإلى سنة وليّ الأمر المعصوم (وهي سنّة رسول الله، صلى الله عليه وآله، فحلاله حلال إلى يوم القيامة، وحرامه حرام إلى يوم القيامة)، فبذلك سَيَعْلَمُ المستنبطُ القدير، سيدنا مالك، الحكْمَ الشرعي المناسب للموضوع المِصْري. وقد دعاه إلى تأسيس العلوم الإنسانية حتى تخدم مشروعه الإصلاحي في مصر المحروسة بشجاعة مالك واستنباطيته: «وتفقّد أمور مَن لا يَصل إليك منهم ممّنْ تقْتَحمه العيون بالأعذار إلى الله يوم تلقاه»[19]. فالعلوم الإنسانية الخادمة للعدالة بين الطبقات، إنما يتطلب في نظر مؤسّسهما، عليه السلام، تفريغ الثقات الموضوعيين الذين يخافون الحق والحقيقة.

إن سورة التوبة تكرّس «ولاية الفقيه» التي تملأ غيبة النبي، صلى الله عليه وآله، والإمام، عليه السلام، فتقول: ﴿وَما كانَ المُؤمِنونَ لِيَنفِروا كافَّةً. فَلَولا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرقَةٍ مِنهُم طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهوا فِي الدّينِ، وَلِيُنذِروا قَومَهُم إِذا رَجَعوا إِلَيهِم، لَعَلَّهُم يَحذَرونَ(التوبة، 122).

فـ«الولاية المشتركة» بين أفراد الفِرْقة الواحدة حق، ولكنْ مِن الضروري أن يُشْرف عليها، برضاهم وإرادتهم العاقلة، «طائفة» من الفقهاء، تكون من الأفضل، منهُمْ، أي من أصولهم المحلية حتى يكونوا فاهمين لظروفهم أفضل، أو مِنْ جنس عقلهم وفِطرتهم ﴿بِلِسانِ قَومِهِ﴾(إبراهيم، 4)، كسيدنا سَلمان الفارسي. وتلك الطائفة تُفرزها الفرقة المحلية، وتكون «طائفة» أي جماعية التدبير والولاية، حتى لا تُرتَهن بالفقيه الواحد إذ قد يموت أو يمرض أو يُغتال كما حدث لسيدنا مالك الأشتر، وتكون أحكامها جماعية حتى تكون أقرب إلى المعصومية وأبعد عن عدم الوعي بالشيطان الإنسي والجِنّي وارتكاسات الاختلاط الاجتماعي، وتكون «مِنْهُمْ» حتى لا يطمع الطغاة في اغتيالهم وهم في الطريق، إلى تلك الفرقة، لأنهم ليسوا «مِنهم» كما حدث لمحمد بن أبي بكر، رضوان الله عليه.

وينبغي أن يكون وصول الفقيه إلى الولاية السياسية العليا «بالإنذار»، أي بالإقناع وعرض المشروع (كمشروع مالك الأشتر في مصر المحروسة، أو مشروع معاذ بن جبل – حسب وصية النبي صلى الله عليه وآله – في اليمن السعيد). فإذا «حَذَّرَ» القومَ من مغبة عدم التسليم للفقه السياسي الإسلامي والمشروع الإسلامي عمومًا (إذ ينبغي للفقيه العلم بالزمان والمكان لتلك «الفرقة» المحلية أو الإقليمية ومستقبلهما أيضا)، فآنئذ ينصّبونهم مختارين، مريدين، إذ يَرْجِعُونَ إلى فطرتهم وعقلهم، والعقل أنفس ما خلق الله تعالى، يقول الله «أقبِلْ» فيُقبل، ويقول له: «أدبِرْ» فيُدْبر.

نسأل الله تعالى أن يمنّ علينا بأن تكون كل فِرْقَاتِنَا يَمنًا سعيدًا عليه معاذٌ بنُ جَبَلٍ صالحٌ مؤتمٌّ بسُنن المعصومين عليهم السلام حتى يمكنه أن يُدبّر ولايتهم المشتركة المتعقِّلة! إنه سميع مجيب!

إنّ غيبة المعصوم، عليه السلام، الظاهرية، قائمة حتى في زمن ظهوره الظاهري. ولذلك فإنَّ ولاية المعصوم ينبغي أن تكون دائما، حتى في زمن غيبته الظاهرية. كما أن ولاية الفقيه على الفرقة المحلية أو القطرية أو الإقليمية، قائمة ودائمة في زمن ظهوره الظاهري. وذلك لأن عقل المعصوم، عليه السلام، هو عقل بإمكانه احتواء كل الأرض، وكل مشكلاتها، بينما عقل الفقيه، مما بلغ أقصى الدرجات لا يمكنه أن يحتوي بدقة أكثر من مشكلات المحلة أو الجهة أو القُطر، أو الإقليم، على أقصى تقدير، موضوعيًّا. ولكنْ بإمكاننا أن نجد وليًّا فقيها ذَا سَوْق عالَمي، «حَذِرٍ»، أي غير متعسف، تاركًا تدبير الخصوصيات لأهل الفِرْقَاتِ الأخرى ولفقهائهم السالكين، لكنْ أنْ يكون خيرَ نَاصِح وخيرَ «إيلافيّ» (أي وَحْدويًّا).

نسأل الله تعالى أن يشمل وليّنا الفقيه بدعمه، وبدَعْمِ الإمام المعصوم، عليه السلام، وجهازه العالمي! فإنْ تحالف كل عالَم الشر على ولينا الفقيه وفرْقته [=شَعْبه] «الحذِرة» ذاتِ «الولاية المشتركة»، نسأل الله تعالى أنْ يُظهر آنئذ عقل العالَم الأعقل فيُنقذ فِرْقته القُطرية وكلَّ العالم! إنه سميع مجيب!

قال الله تعالى بعد تأسيسه لولاية الفقيه السياسية «داخلالفِرْقة الحَذِرة»، بالآية 123: ﴿يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنوا قاتِلُوا الَّذينَ يَلونَكُم مِنَ الكُفّارِ[20]، أي قَاوِموا من يُمارسون على حدود فرقتهم، داخلكم وبجواركم، انتهاكا ومحاصَرةً وظلما، ﴿وَليَجِدوا فيكُم غِلظَةً. وَاعلَموا أَنَّ اللَّـهَ مَعَ المُتَّقينَ(التوبة، 123)، و«المتّقون» هنا، هُمْ المُمَهّدون لدولة الإمام المهدي عليه السلام، إذ أن الله تعالى يقول في سورة القَصص: ﴿وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾(القصص، 83)، أي إن النهاية الانتصارية للذين يُمَهِّدُون (=﴿يُمَهِّدُون﴾) بتقواهم للإمام المهدي عليه السلام. ﴿تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا. وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾(القصص، 83)، فالمتقون الذين يحرصون على عدم «الفساد» و«العلوّ»، سيكونون طليعة المهدي عليه السلام، للإمساك بالعاقِبة، هؤلاء الذين يعضّون على الجمر لمجابهة الاستكبار و«العُلُوّ» الرومي وفساد السلام النووي وفساد الأخلاق.

أمّا «الدَّارُ الآخرة»، فهي المرحلة الأخيرة من صراع الحق مع الباطل على الأرض، بقول الله تعالى: ﴿قالَ موسى لِقَومِهِ: استَعينوا بِاللَّـهِ وَاصبِروا إِنَّ الأَرضَ لِلَّـهِ يورِثُها مَن يَشاءُ مِن عِبادِهِ. وَالعاقِبَةُ لِلمُتَّقينَ﴾(الأعراف، 128)، أي لهؤلاء الصابرين، العاضّين على الجَمْر، الذين ينقذهم الله تعالى بعقل الوريث الأكمل في تلك «الدار الآخرة»، قبل مجازاتهم بغير حساب في «الدار الأخيرة» بالحياة الأخرى بعد الحياة الأولى.

12. مسؤولية عامة المسلمين:«التَّدايُن»

12-1- خصائص «التَّدايُن»:

القيادة وحدها غير كافية لإتمام النور الإلهي، فإذا لم ينخرط عامة المسلمين في «الأمر الجامع» (سورة النور، 62)، أي المشاركة في الممارسات السياسية العامة: ﴿أَم حَسِبتُم أَن تُترَكوا وَلَمّا يَعلَمِ اللَّـهُ الَّذينَ جاهَدوا مِنكُم وَلَم يَتَّخِذوا مِن دونِ اللَّـهِ وَلا رَسولِهِ وَلَا المُؤمِنينَ وَليجَةً. وَاللَّـهُ خَبيرٌ بِما تَعمَلونَ(التوبة، 16). و«الوليجة» هي «كلّ شيء أدخلته في شيء وليس منه. والرجل يكون في القوم وليس منهم، فهو وليجة فيهم»[21]. وذلك من أجل «براءة» البُنيان الإسلامي من «الجاهلية» و«الشرك» و«الاستكبار» و«الكنز» ليصلح نموذجًا للعالم.

وذلك بحثا عن «الطهارة» النفسية والاجتماعية والسياسية[22] (الآية 108) مقابل «رجس» التعاهديين-الوليجيّين-المغاريين (الآية 95) و«نجاسة المشركين» (الآية 28)، وتنصيبًا لعلامة هذه الطهارة، الذين طهّرهم الله تطهيرًا، الذين بإمكانهم «مسُّ» القرآن الكريم لأنهم «المطَهَّرون» (الواقعة، 79). فبتنصيبهم تكون طائفة المتفقهين في الدين. فإذا كان ﴿أَمْرٌ مِّنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ﴾(النساء، 83)، «مَردُودٌ»﴿إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ [من جوهر الإنسان/الإنسان، كرسول الله منهم]لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ(النساء، 83). فلما تردّ أهمّ طائفة في المسلمين (طائفة المتفقهين في الدين) سياسة الأمن والخوف (سياسة السلم والحرب) وأصولها الرسول (ص) وأهل بيته (ع) أصبحوا «مُستنبطين»، أي مجتهدين، يصلحون بولاية الفقهاء.

وأهم فضاءات «الأمر الجامع» هي:

  • «نفور» طائفة المتفقهين في الدين «المُستنبطين» (التوبة، 122).
  • طائفة «النقباء»[23].
  • «تسبيق» (تقديم) السابقين الأوّلين،﴿وَالسّابِقونَ الأَوَّلونَ مِنَ المُهاجِرينَ وَالأَنصارِ وَالَّذينَ اتَّبَعوهُم بِإِحسانٍ(التوبة، 100). وحرف التبعيض ﴿مِنَ، وكلمة ﴿السّابِقونَفي الآية كافيان وحدهما لكي نعرف أنه ليس كل «مهاجريّ» مهاجرًا وليس كل «أنصاريّ»، نصيرًا.

فـ«مَن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله؛ ومن كانت هجرته لدينا يصيبها، أو امرأة ينكحها، فهجرته لما هاجر إليه»، كما قال رسول الله (ص). ولعلّ أهم هؤلاء «السابقين» كما شهدت سورة النحل، سيّدنا عمار بن ياسر، عليه السلام. وقد أكد التاريخ أهمية أبي ذر (الولي الفقيه على قومه في غِفار، ثم في بلاد الشام رغم وُجود القيادة السياسية المَغَارِيّة-الأموية رقيبةً، والمقداد وعمر بن أبي سلمة، رضوان الله عليهم.

  • الولاية المشتركة: هو إمّا ولايات حِمَوية (حِمى منزلي، حِمى حضري، حِمى ريفي، حِمَى الحيّ، حِمًى إقليمي أو قطري…)، أو «نصيحة» لله أو لرسوله أو لوصيه أو للمؤمنين. فـ«كلكم راعٍ وكلّكم مسؤول عن رعيته. فالمرأة راعية في بيت زوجها وهي مسؤولة عن رعيتها» (حديث نبوي). والرعية هو ليس مجرّد «مُوَاطن»، أي ساكن في مَوطن، كما في البنيان الأثيني أو البنيان الرومي، بل أرقى من ذلك، أن تكون «المُوَاطنة المسؤولة» (إن شئنا الخضوع للترجمة «النهوضية»[24]). فهي مُوَاطنة قائمة على «المسؤولية» (سورة الأحزاب، الآية 72) و«الذِّمَّة» (التوبة، 10). فالرَّعَوِيّة، تختلف اختلافًا جذريا عن «الخولية» التي حرَّمها الإسلام (قال ابن خلدون عن العلاقات بين الأعراق الأخرى والعرب في الدولة الأموية والعباسية: «كانت العجم خَوَلاً لهُم»[25]، أي تَبعًا للملإ الاستكباري «المسلم»-العربي). فالبنيان السياسي الإسلامي يعني ﴿وَيَضَعُ عَنهُم إِصرَهُم وَالأَغلالَ الَّتي كانَت عَلَيهِم﴾(الأعراف، 157).

وقد أعادت سورة التوبة ما ذكرته عديد السور الشريفة من ضرورة «الولاية المشتركة» ضِمْنَ «الأمر الجامع»: ﴿وَالمُؤمِنونَ وَالمُؤمِناتُ بَعضُهُم أَولِياءُ بَعضٍ: يَأمُرونَ بِالمَعروفِ، وَيَنهَونَ عَنِ المُنكَرِ، وَيُقيمونَ الصَّلاةَ، وَيُؤتونَ الزَّكاةَ، وَيُطيعونَ اللَّـهَ وَرَسولَهُ. أُولـئِكَ سَيَرحَمُهُمُ اللَّـهُ. إِنَّ اللَّـهَ عَزيزٌ حَكيمٌ(التوبة، 71). إنه بنيان سياسي من «العزة التكريسية»: ﴿وَلَقَد كَرَّمنا بَني آدَمَ وَحَمَلناهُم فِي البَرِّ وَالبَحرِ﴾(الإسراء، 70)، وهي «عزّة» بين الجميع، لا تستثني أحدًا (ذكور وإناث، أطفال وكبار، أصحّاء ومَرضى، كل الألوان والألسنة…). وهو ﴿رَحْمَةٌ﴾سياسية، فبدونها ستكون «الخَوليّة»، وهي نقيضة «العزّة» و«الكرامة». وهو ما بدأ يحدث منذ مؤامرة «المَغَارة». فترسخت هناك «إمّة» (أي سُنَّة) الحاكم[26].

لقد بدأت التجربة تنضج، وينبغي أن تتحسّن حتى يصل مسلمو السَّنَة 10هـ والسنة 11هـ، إلى درجة «التّمكّن» (سورة النور، 55)، فمضمونها قابل للتكامل والتحسين: ﴿وَعَدَ اللَّـهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ ﴾.

والرَّعَوية الشاملة («كلكم راعٍ») ينبغي أن تكون «قَوّاميّة بالقسط»، أي يقظة، حرصة على «القسط» و«التقويم» و«التقييم»: ﴿الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ﴾(الزمر، 18). وينبغي عدم إقصاء ذوي «الشَّنْئِ» لأن جُلّ السُّكان بهذا الإيلاف «طُبِعوا» طيلة قرون على حكم «الملإ» لا على «الأمر الجامع»، فينبغي الصبر عليهم، ومزيد الصبر. فالمهم هو تماسك كبار المهاجرين والأنصار، لأنهم مركز هذا الإيلاف، فإذا انهار تماسكهم انهارت الإنجازات:﴿وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّاتَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى، وَاتَّقُوا [أيها المهاجرون والأنصار، زَمَنَ النزول]اللَّـهَ. إِنَّ اللَّـهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ(المائدة، 8). ولذلك كان جميع «مُبوِّئي»[27] دولة الصحيفة «رعاة»، وليس الرسول «الراعي» فحسب، إذ هي «رَعَوِيّة» تبادُلية-تقابلية: «كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيّته».

و«الأمر الجامع» يمكن أن يكون ولاية مشتركة، ويمكن أن يكون ولاية خاصة. فإذا كان ولاية خاصة ينبغي أن تكون بالعدل: ﴿وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ﴾(النساء، 58).

 

[1] الطّريحي، م. س، المجلد5، ص310.

[2] الطّريحي، م. س، المجلد6، ص66 و67.

[3] الطريحي، مادة: ش هـ ر.

[4] رواه الترمذي، ج2، ص380، والحاكم في المستدرك، ج3، ص109؛ وأحمد بن حنبل، ج3، ص17، والطبراني في المعجم الكبير، ج1، ص129…

[5]﴿مِنهم أَربَعَةٌ حُرُمٌ﴾: رغم أنهم جميعا حُرُم، لأن هؤلاء الأربعة كانوا فُرَصًا للمسلمين لأنهم وصلوا إلى الولاية السياسيّة العليا، أما البقية فمَنعَهُمْ الاضطهاد من ذلك.

[6] البخاري، مسلم، الترمذي، وغيرهم…

[7] انظر تفاسير الطبري والقرطبي والجلالين، وغيرها…

[8] ابن عربي، التفسير، ج1، ص287.

[9] رواه البغوي في تفسيره: معَالم التنزيل، دار الفكر، بيروت، 1405هـ، ج4، ص278.

[10] رواه ابن كثير السلفي في البداية والنهاية، والبخاري (4655) ومسلم (1347) والطبري…

[11] الطباطبائي (م. حسين)، م. س، المجلد9، ص170 و171

[12] رواه الحاكم ومسلم والبخاري…

[13] من معاني «الدين»: النظام والقانون…

[14]﴿سَجَى﴾: دَامَ وسَكَن (لا وُجود لمُحَادَّاتٍ داخل بُنيانه). أما ﴿اللَّيْل﴾ فهو ابن بعض الطيور-لغةً-، ولن يكون إلا ابن ﴿آل إبْرَاهِيم﴾، الذي يَسجي-مع أنصاره- مُلكهم العَدَالي العظيم (سورة النساء، 54).

[15]﴿كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَىٰ نَفْسِهِ﴾(آل عمران، 93)، فتحريم إسرائيل القائم على صفاء العقل وعدم تأثره بإملاء الشياطين من الإنس والجن يوافق ما يريده الله تعالى في التشريع، وذلك ما يريد الإمام المهدي عليه السلام أن بفعله في تشريعه محدّدًا شريعة محمد (ص).

[16]انظر هذه الوصية في: الأصبهاني (أبو نعيم)، حَلْية الأولياء وطبقات الأصفياء – مثلا-

[17] الحرّاني (ابن شعبة)، تحف العُقُول.

[18] م. س، ص 95.

[19] الإمام علي، نهج البلاغة، «عَهْدُ الإمام إلى مالك الأشْتر».

[20]«الكافِر»، كما بيّنّا مرارًا، هو الجاحد لـ«الذِّمّة» و«الإلّ»، بتعبيره عن هذا الجحود بالاعتداء، أي المقَاتَلةُ في الدين والحياة والإخراجُ من «الدّيار». أوضح مثال على «الكُفر» هو: «الإمبريالية» الأوروبية والدولة الصهيونية.

[21] الطّريحي، م. س، المجلد2، ص334.

[22]﴿رِجالٌ يُحِبّونَ أَن يَتَطَهَّروا(التوبة،108).

[23] انظر «تدبّر في سورة النحل».

[24] … نسبةً إلى عصر «النهضة»!

[25] ابن خلدون، المقدمة، ص82. يقول الله تعالى: ﴿وَتَرَكتُم ما خَوَّلناكُم وَراءَ ظُهورِكُم. وَما نَرى مَعَكُم شُفَعاءَكُمُ الَّذينَ زَعَمتُم أَنَّهُم فيكُم شُرَكاءُ. لَقَد تَقَطَّعَ بَينَكُم، وَضَلَّ عَنكُم ما كُنتُم تَزعُمونَ(الأنعام،94). ويقول الإمام علي (ع): «ولكنني آسَى أن يلي أمَرَ هذه الأمة سُفهاؤها وفجارها، فيتخذوا مال الله دُولا، وعِباده خولا، والصالحين حربًا والفاسقين حزبًا، وكل منهم (…) مَن لم يسلم حتى رُضخت له على الإسلام الرضائخ» (نهج البلاغة، مؤسسة المعارف، عدد660).

[26]﴿مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ(الزخرف،23)، وذلك ما يعطل الربعة والذكاء السياسي ويُرجع ﴿الإِصْرَو﴿الأَغْلاَل.

[27]﴿وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ(سورة الحشر،9)،

شارك على :
المحور العربي © كل الحقوق محفوظة 2023