تونس 07/25/ 2021: الوضعية والرهان…بقلم عادل بن خليفة بالكَحْلة

تونس 07/25/ 2021: الوضعية والرهان…بقلم عادل بن خليفة بالكَحْلة

»لا تهمني السلطة، ولا أسعى وراءها في أي وقت،  ولكن كل ما سأفعله هو أن أضمن أن التضحيات التي يقدمها الكثير من المواطنين لن تذهب سُدى، مهما كلفني الأمر وأيا ما كان الزمن يخبئ لي«

(فيدال كاسترو)

 

– توطئـــة:

    أطلق رئيس الدولة قيس سْعيّد رصاصة الرحمة على منظومة دولة فاشلة (غير معلنة الفشل والإفلاس)، بينما كان رئيس الحكومة يقضي إجازته في الحمامات !

      كانت كذبة عشناها منذ 14/1/2011، بل منذ أول انتخابات بعدها. لنجد«ديمقراطية» شكلانية، فارغة المضمون الاجتماعي_الاقتصادي والسيادي_الثقافي؛ بل أميل إلى التطبيع مع الكيان الصهيوني والإمبريالية، و كانت يمينية عمليّا، أي متحالفة مع عناصر من الحزب الحاكم سابقا، من الصفوف الثانية والأولى، ومن الدولة العميقة. فلم يتغير شيء من النظام السابق. وقد كُنا كتبنا مقالات في ذلك، لعل من أبرزها:« بدع الديمقراطية التونسية: مطاعن الغدر على ثورة الشباب» (رأي اليوم، 15/09/2020) ، «في التطبيع التونسي قَطْرةً قطرةً و ظهور التطبيع العلني». ( https://generalsdaily.blogspot.com/2018/11 )

     كانت ديمقراطية أهل المال الذي حذر منها حكيمنا الفارابي.

***

   كانت قنوات التلفزيون الرسمي إلى حد اليوم الثاني من الحركة التصحيحية، لا علاقة لها بالحدث تنظيمًا للحوار حوله (ونحن ندفع لها ضرائبنا)، بينما بقيت القنوات الموالية للنهضة صامتة، وهي التي كانت زمن الحرب الكونية على سوريا متكرسة للشأن السوري.

ليس لحركة النهضة اليوم «صديق» حقيقي وثابت، واحد. فحتى محمد المنصف المرزوقي «يْسَالْها شْكارة سْمِيدْ» («مدينة له بكيس من السميذ») وليس «مْغَرْفَة»(ملعقة) فقط، كما قال في أحد تدويناته. الصديق شبه الوحيد هو قيادة «اتحاد الفلاحة والصّيْد البحري» لأنها إخوانية أصْلا، وقد كان بيانها من حركة قيس سْعيّد في 25/7/2021 بيانا حمِل الكثير من التقيّة، فلو نقرأه جيّدا لوجدناه أوامر لرئيس الدولة «باحترام الدستور والعودة إليه». أما الصديق الآخر، فهو «أجنبي». إنه «اتحاد العلماء المسلمين» الذي كفّر القذافي والأسد ودعا الولايات المتحدة الأمريكية لكي «تقف وقْفة لله» فتحتل ليبيا وسوريا «لإنقاذ شعبيْهما من الكافريْن»، فالولايات المتحدة الأمريكية_كما تؤكد حركة الإخوان المسلمين منذ نشأتها_ «دولة مؤمنة» عكس «دولة الإتحاد السوفياتي»، و«علاقتها بالإسلام جيدة».

  1. 1. هل كانت «حركة تصحيحية» أم انقلابا؟

    لن أدخل في جَدل أهل القانون الدستوري وتأويلاتهم المتناقضة. ما يهمني، من وجهة نظر سسيولوجية، أنّ منظومة الدولة الفاشلة وترقيعاتها المتوالية كانت ذاهبة باتجاه الانهيار الفظيع، بل نحو الفوضى الشارعية العارمة. فلقد أصبحت  الدولة التونسية(ومازالت) دولة فاشلة، مفلسة، ليس لها أي رأس مال ثقة شعبية، لأن أهل السلطة فيها لم يراكموا أي رصيد من المراكمة النضالية للاقتصاد العدالي- الشعبي، خاصة بعد تفريط الأكثرية البرلمانية في سيادة الدولة على البنك المركزي التونسي ليكون رهينة لصندوق النقد الدولي.

فعموم الشعب، إنما ضحى بين 17 ديسمبر 2010 و14/1/2011، من أجل مقايضة واضحة: «التشغيل استحقاق يا عصابة السراق!»، ثم «شغل! حرية! كرامة وطنية!». فعموم الشعب لا يعترفون بـ«نظام برلماني» و«نظام رئاسي» و«تنسيقيات شعبية»، بل ما يهمها مراكمة أفعال في اتجاه شعارات مخاطرتها في الأيام السبعة والعشرين، وأن الطبقة السياسية ليس لها منة عليها، لأنها ليست هي التي واجهت قوات القمع في تلك الأيام، بينما كانت تلك الطبقة مجرد مراقبة. والذي لاحظناه، بعد الرابع عشر من جانفي أن الطبقة السياسية، أصبحت تمارس الكذب الانتخابي والكبرياء بعد «الانتصار». أما السلطة القضائية فمازالت فاسدة، وما إقالة وكيل الجمهورية بالمحكمة الابتدائية إلا أعظم الأدلة على ذلك لتعمده تجميد ملفات الشهداء والتسفير وغيرها، وهو أحد أقارب قيادي بالنهضة.

  1. 2. هل قام الحاكمون قبل 25/7/2021 بانقلابات على الشعب والدستور؟

  نعم… قاموا بعديد الانقلابات على شعاريْ الثورة عديد المرات، وشعارات الثورة يجب ان تكون حاكمة على الدستور لا العكس. وقاموا بعديد الانقلابات الانتخابية إذ قاموا بعكس ما أخذوا به أصوات الناس. فقد وعدوا بالتشغيل، ولم يفعلوا. ووعدوا باجتثاث رموز النظام السابق بقانون، ولم يفعلوا. ووعدوا باستجلاب الرئيس السابق من السعودية لمحاكمته، فلم يفعلوا، بل كانت علاقتهم بتلك المملكة جيدة بينما هي في حكم العدو موضوعيا. ووعدوا بمحاسبة المتهربين من دفع الضرائب من أصحاب رؤوس الأموال بقانون واجراءات، ولم يفعلوا، بل تحالفوا مع الكثير من الفاسدين منهم. ووعدوا باسترجاع اموال الدولة المنهوبة بالخارج، ولم يفعلوا. ووعدوا بقانون يجرم التطبيع مع الصهيونية، ولم يفعلوا. ووعدوا بقانون يحظر العمل الحزبي والسياسي لعناصر الحزب الحاكم سابقا، ولم يفعلوا، بل تحالفوا معهم بعد أن أقسموا بأغلظ الأيمان أنهم لن يتحالفوا معهم.

هذا الدستور مصنوع في مساحة هامة منه من الخارج (الولايات المتحدة الأمريكية ذات النظام الرئاسي المركزي حرصت على نظام برلماني يؤدي إلى احتمال الفوضى). ورغم ذلك كانت مخالفات الحاكمين له كثيرة: فقد عطلوا تأسيس المحكمة الدستورية منذ عام 2015؛ ولم ينفذوا حق التشغيل وضرورة الاقتصاد العدالي، وقد شاب الانتخابات ما ثبت أنه تمويلات أجنبية لدى دائرة المحاسبات، ولسنا في حاجة إلى إثبات أن إمارة قطر (غير الديمقراطية والتي ليس لها دستور) قد ضخت الكثير من الأموال لحزب حركة النهضة. وقد تحالف الحاكمون مع رأس المال الكمبرادوري أي مع مركز النظام السابق، وأصبح نحو  نواب البرلمان من المقاولين وخاصة الفاسدين منهم.

 ومن الواضح تقاسم حركة النهضة للسلطة الجمعوية مع رأس المال الكمبرادوري (اتحاد الصناعة والتجارة، واتحاد الفلاحة والصيد البحري…)، ومع المنتمين للحزب الحاكم السابق في جمعية الكشافة…  ولقد احتكرت حركة النهضة جمعية وطنية هامة هي جمعية المحافظة على القرآن الكريم، ولم تستدع للمحاضرة فيها سوى السلفيين_الجهاديين من الداخل والخارج من أجل تكفير الديمقراطية (الشيخ بشير بن حسن وبعض رموز حزب التحرير مثلا)، وتكفير أهل السنة والشيعة، وتعبئة الشباب «للجهاد» في سوريا (محمد حسان، العريفي…). وذلك مخالف للدستور ولقانون الجمعيات.

وقد خالف أئمة الجمعة النهضاويون الدستور حين دعوا من منابر جوامع عمومية، تابعة للجميع  على اختلاف توجهاتهم السياسية، إلى «الجهاد» في سوريا. وقد خالف أئمة الجمعة والجماعة مناشير وزارة الشؤون الدينية بحظر صلاة الجماعة عند اشتداد أزمة الكورونا في إجماع بينهم بكامل البلاد، وتلك مخالفة للحق الدستوري في الصحة وانتهاك لحرمة الدولة، بل حرمة الشعب.

ولقد انهارت المنظومة المالية، وأصبحنا في حالة عار اقتراضي غير مسبوقة، فالحاكمون الجُدد لم يقدموا شيئا للسيادة الوطنية، بل مازال نفطنا وغازنا ملكا للمركز الإمبريالي دون سَعي لتأميمها (فحركة النهضة يمينية- كمبرادورية التوجه الاقتصادي). وإذا تعللت حركة النهضة بأنها «لم تَحْكم»، (وتلك واقعة قابلة للتأويل)، فإنه كان عليها أن تقدم استقالتها إذا كان ذلك صحيحا. ولكن شهوة السلطة وسوء التقدير كانا متحكمين في فعلها، علاوة على معاداتها لأصدقائها القدامى (قبل 14جانفي) لا لشيء إلا لأنهم «ضد إسقاط الدولة السورية»، وتلك لعَمري تِعلة واهية، فكيف نعلل التونسي بالسوري؟! ومتى كانت «سوريا» (مع إجلالي لدولتها الممانعة) مقياسًا للفعل السياسي التونسي؟! (انظر:”الباب السادس: الالتفافية الإخوانية والتحالف مع السلفية الحديثة”، من كتابي «الملة السلفية: التحولات والتحالفات»، ومقال عُقيْل البكوش: «كذبة الانقلاب»، المحور العربي، 27 /07/2021).

   ومن الغريب أن الإخوان المسلمين في تونس يبكون على «الديمقراطية» في سوريا، فيطالبون بتسليح الشباب من جميع أنحاء العالم لإسقاطه، ولكنهم لم يرفعوا إلى حد الآن السلاح من أجل «الجهاد» ضد ما يعتبرونه «انقلابية» قيس سعيد و«دكتاتوريته»!!!

  1. 3. هل نحن في «خطر داهم»؟

    نحن فعلا في «خطر داهم». فالمنظومة المالية في حالة انهيار مخيف، والقروض بحجم جَبليّ، وحالة البطالة في تزايد فظيع… و«ائتلاف الكرامة» السلفي_الجهادي (المتحالف مع النهضة!) يهدّد دائما بتسليف المجتمع و«الجهاد» بالداخل والخارج (بعض رموزه كانوا أئمة جمعة عبؤوا الشباب باتجاه إسقاط الدولة السورية، مع زملائهم من حركة النهضة)… والدساترة الجدد يمارسون خطابًا عنيفا، يخيف باحتمال الرجوع إلى منظومة القمع السابقة. وهناك «خطر داهم»، من الناحية الصحية، فلقد أصبحت تونس الأولى في إفريقيا والعالم في نِسب الوفيّات من جائحة الكورونا (ويتحمل ذلك وزراء صحة النهضة ومَن رشحه رئيس الدولة)، ولا عُذر لمن يتعذر بأن الوزير ليس من عصبيته، لأنهم «توافقوا» على هؤلاء الوزراء أو رضوا بـأمرهم الواقع ولم يتحفظوا ولم يستقيلوا من الحكومة.

كان الفعل السياسي لحركة النهضة فعل الترقيع والتبرير، أي فعل البحث عن السلطة من أجل السلطة («التمكين من أجل التمكين») في دَوَر عَبثي لا ينتهي… وهذا ما جعلها تتشبث بأيّ كان يمكن أن يساعدها على هذا التشبث. وكان كل هؤلاء «المساعدين» من الكمبرادوريين، أو من النظام السابق (وأخطرهم الباجي قايد السبسي، المشارك في جريمة استئصال اليوسفيين). فكل الذين تحالفت معهم حركة النهضة مشبوهون، يمينيون.فهم يمثلون «خطرا» دائما مؤسسيا.

عنندما أمسكت حركة النهضة بوزارة الشؤون الخارجية، أصبح ممثلها فيها لا هم له إلا إسقاط «النظام» السوري، ونظم مؤتمر «أصدقاء سوريا» بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية وهي التي يشخصها تشافيز بقوله: «أكبر خطر على كوكب الأرض هو دولة الولايات المتحدة الأمريكية».  وذلك ما وفر مشروعية للارهابيين، لتعبئة الكثير من الشباب التونسي القاصر وضعيف المستوى الدراسي، ضد سوريا وغيرها من الدول، وضد حياة التونسيين المناوئين للحرب العالمية على سوريا، وحرياتهم السياسية والفكرية والدينية. فأصبحت تونس بؤرة «خطر داهم» داخلا وخارجا.

 ولما كانت وزارة الفلاحة بيد وزراء نهضاويين، لم يكن لهم منوال تغيير وإنقاذ، بل أعادوا إنتاج تدهور الفلاحة والصيد البحري والبيئة والمياه والفلاحين والبحارة والرعاة والعاملات الفلاحيات، بالتعاون مع الدولة العميقة بالوزارة. وكان لهم انحياز واضح للمالكين الكبار في نزاعهم مع الصغار، و لمستوردي المنتجات الفلاحية. وحين أمسك ممثلون للنهضة بوزارة الثقافة ووزارة التربية ووزارة التعليم العالي، أعادوا إنتاج السائد، وأصروا على الاستمرار دون الاستقالة، حبا في الجاه والمال الفرديين والتمكين الحزبي. وهو «خطر داهم» استمر طويلا ضد تمكين الشعب والطبقات المهددة.

لم تتألف حركة النهضة حمّة الهمامي بـ«وزارة شؤون اجتماعية» (وليس وزارة تنمية جهوية قد تهدّد حلفاءهم من المقاولين الفاسدين)، وتألفت مَنْ كانوا يسبّونها من الدساترة القدامى، بل من الذين كانوا من المعذِّبين لهم، واسْتَبعدت المثقفين والمستقلين، الذين كانوا أصدقاءا لها قبل 14 من جانفي. ومازالت «شبهة» التسفير إلى سوريا وليبيا عالقة بها، إلى حدّ اليقين (كان وزيرا الداخلية والخارجية آنئذ منها، وكان زعيمها وأئمتها للجمعة ومكاتبها المحلية لا همّ لهم سوى «سوريا» و«بشّار» متناسين معضلات تونس واستحقاقات الوعود لمن ضحوا في السبعة والعشرين يوما). وعِوض محو هذه الشبهة، تحالفوا مع «ائتلاف الكرامة» الذي لا يُخفي تكفيريته وسلفيته الجهادية، مما يجعل البعض يعتبر هذا الائتلاف ذراعًا مُعْلنة لحركة النهضة التي تمارس التقية السياسية المفرطة.وذلك التحالف «خطر داهم» واضح.

وقد اختلقت إمارة قطر مركزا لجمع المثقفين من الإخوانيين والمتكسبين من أجل التزييف الإديولوجي لثورة الشباب، وجعلت له رديفا بالبلاد التونسية. وهو مما يعمق «الخطر» القطري على تونس وعلى مشروعها الثوري وعلى إجماع المثقفين عليه.

   ملفّ الشهداء لا يهم حركة النهضة كثيرًا، إلاّ من جهة تبرئة نفسها. فلقد عادتْ منذ البداية من هم مع الدولة السورية (محمد البْرَاهمي مثلا) لأن همّها الأوّل كان «سوريا» وليس «تونس». وعَادَتْ منذ البداية شكري بلعيد بتِعِلة أنه «مُلْحد»، كأنها شقتْ على قلبه، ولم تَسْع لأي صداقة معه (عكس تقاربها من طرف واحد مع مستئصليها القدامى، ومع آيْ-باك، ومع الولايات المتحدة الأمريكية في «مؤتمر أصدقاء سوريا»، مع السعودية المعادية لتونس بإيوائها لزين العابدين بن علي. ومع الشهيد محمد الزواري (شهيد حركة التحرر الوطني الفلسطيني) نجد زعيم الإخوان في تونس يقول: «لا يمثلنا. ونحن لا نقاوم إسرائيل». ولقد كان خطأ أن تختار قريب أحد زعمائها وكيلاً للجمهورية، فذلك شبهة لتجميد ملفات خطيرة، يتهمها البعض (بحق أو باطل) بالضلوع فيها.

 فكيف بهذه الأفعال لا تتعمق الشبهات والشكوك والخوف من تعمق «الخطر الداهم» ؟!

  1. 4. هل قيس سعيّد رئيس الشعب التونسي؟

… هو رئيس الدولة التونسية دستوريًّا.. ولكن هل هو رئيس الشعب التونسي؟!

ما قام به له «مشروعية شعبية» لأنه حركة تصحيحية ضد انقلاب السلطات الثلاث على الشعارات التي قامت عليها انتفاضة الشباب (17 ديسمبر _ 14 جانفي).

نعم… عاد الأمل.. ولكنّ ذلك مشروط بشخصية الرئيس إنْ كانت منحازة فعلا للشعب، وبشجاعته تجاه ضغوط الإمبريالية والصهيونية (وسفاراتهما) والكمبرادورية الداخلية والدولة العميقة، وبإنصاته للقوى الحيّة (المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية الذي يحمل برنامج إنقاذ عاجل ومشروع عدالة اجتماعية آجل منذ بدايته، علماء الاقتصاد الاجتماعي،  المستقلون،  أصحاب الرأي،  منتدى التفكير في الحراك العربي…).

من سوء الحظ أن قيس سْعَيّد نفسه اعترف أثناء التعبئة الانتخابية أنه «لا يملك برنامجا» وهذا أمر محزن. لم تكن له خارطة طريق ولا أهداف تفصيلية واضحة.

 في الآن نفسه، لم يُحط نفسه إلا بأهل القانون، كأن القانون وحده هو وسيلة الإصلاح الوحيدة. فلا نجد بحزامه الاستشاري مختصون في الاقتصاد الاجتماعي_التضامني (كالدكتور عبد الجليل البدوي) وفي الاقتصاد الفلاحي(كالدكتور محمد اللومي أو الدكتور الجغرافي عبد الله الشريف مثلا)، بينما الفلاحة والفلاحون والبحّارة في حالة تدهور فظيع. ولقد كتب له منسق منتدى التفكير في الحراك العربي رسالة مفتوحة بعنوان: «نريدك تْشافيز تونس!» عشية قراره انتخابه (لأنه هو «الممْكن» في قائمة المترشحين)، بل أوصَله إلى مكتبه. ثم أوصل له إصدارات المنتدى التي يمكن أن تكون قوة توجيه واقتراح ونقاطا لخارطة طريق: «تونس بين انتخابات 2014 وانتخابات 2019»، «الاقتصاد الاجتماعي_التضامني في سياق الحركة الاجتماعية»، «نقد المدرسة التونسية»(ج1 وج2)، «من أجل شروط دنيا لمغرب موحّد»، «منوال النجاح الإسكندينافي وآفاق التعاون في السياق الثوري العربي»، ولكنْ لم نجِدْ أثرًا لنص المنتدى في خطابه. وكذلك الأمر بالنسبة إلى نصوص المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية.

لم يخْرُج قيس سْعيّد مِن بارادِغْمِي الثوري (مُوخيكا، تْشافيز، الحزب الاشتراكي البوليفاري، الصندينيون، محمد مصدّق- الكاشاني، جمال عبد الناصر، دوميتيلا دوشنْغارا، مورالس، كاسترو…). ولكنني أتفاعل مع الأفضل في الممكن… لا أستطيع ضمانهُ، لكنني أتواصل مع حدثه، حتى أتأكد أنه لا يريد الاستماع إلى قوة اقتراحي، أو لا يستطيع ذلك.

ما قام به ذو مشروعية شعبية، ومشروع الثورة لم ينتهِ بعدُ (عكس ما تُعلن حركة النهضة وغيره: «انتهى عهد الثورة وبدأنا عهد الدولة»). فنحن لم نبدأ الثورة بَعْدُ، فدُونها مئات الكيلومترات.

صحيح أن جزءًا من الأزمة السياسية ساهم فيها. فهو الذي اختار الفخفاخ، وهو الذي اختار المشيشي لرئاسة الحكومة، وقد بينا سابقا خطأ اختياره. الآن، أمامه فرصة جديدة لإثبات رهان شعبه عليه (وقد كانت مشروعيته الانتخابية أعلى كمّيًّا من «مشروعية» النهضة وذراعها ائتلاف الكرامة). كانت حركته تصحيحية استجابة لمطالب شرعية، ورصاصة رحمة على منظومة ذاهبة نحو الفوضى.

صحيح أن ما أعلنه بإمكان مناقشة بعض جزئياته (حلّ البرلمان أم تجميده؟ هل يصبح رئيس الدولة رأس السلطة القضائية مؤقتا أم وزير العدل أم قاضٍ معيّن؟ ضرورة الاستفتاء الشعبي…). لكن من المؤكد أن السلطات الثلاث سلطات فاسدة وقامت بعدّة انقلابات على «ثورة» الشباب وشعاراتها الاجتماعية- الاقتصادية، وعلى الدستور.

    ولكن مدة شهر لا تكفي لتحقيق ما يريده. فلابد في نظري من 6 أشهر بالأقل من أجل ذلك…

وما سيقوم به من إجراءات، قد نشخصها بأنها سليمة، ستبقى جوفاء دون محتوى تنموي وعدالي- اقتصادي وسيادي ووحدوي (مغاربي- عربي- إسلامي- عالمي/ ثالثيّ)، ودون استئصال العائلات الكمبرادورية/المستنزفة لقوت الشعب التونسي وسيادته، ودون استرجاع الدولة التونسية لسيادتها على البنك المركزي حتى لا يبقى وكيل صندوق النقد الدولي والمركز الإمبريالي، ودون إرجاع فوري للعلاقات مع الدولة السورية، ودون وضع فوري لبند تجريم التطبيع مع الصهيونية بالدستور…

إن الطمع في إعانات المركز الإمبريالي وصندوق نقده الدولي سيزيد أزمة دولتنا. أما التعاون الاقتصادي مع الصيني والروسي والإيراني والعربي والأمريكي_الجنوبي، والذهاب نحو الاستثمار في إفريقيا الغربية، والاقتراض من الصين، فهو سبيل ضروري من أجل الإنقاذ العاجل…

  1. 5. المطـــــــلـــــوب: لا بد من تأسيس ثقافة ثورية وكتلة تاريخية دائمة:

   إنها فرصة استعادة الأمل… صحيح أنها غير مضمونة على مدى طويل لأننا لا نملك يسارًا ولا كتلةً تاريخية.

     …ليس الوقت وقت فرح مفرط …أخاف أن نفرح ثم تلعب بنا و.م. أ.  وأذنابها كما فعلت بنا بعد 14 جانفي… فينبغي أن نكون متفاعلين مع هذه الحركة التصحيحية وبانين لثقافة سياسية تونسية جديدة لم تكن موجودة من قبل: ثقافة الممانعة والسيادة الشعبية…

    المطلوب منا عاجلا، قبل الانتخابات المبكرة، أن نفعل كما فعلت شعوب أمريكا الجنوبية:

     -لا بد من فرز قيادة شعبية من نقابيين مستقلين و علماء اقتصاد ومثقفين ثوريين…

     -لا بد من بديل يقوم على الاقتصاد الاجتماعي والسيادة الوطنية على مصادرنا..

     -لا بد أن يتخلى “يسارنا” عن الاستخفاف بالدين لأن ذلك ما أسقطه في أعين الشعب(سب الجلالة  في البرلمان من أحد نوابه…).. فتشافيز كسب شعبه بتدينه اليساري ومسيحيته الثورية… فترك الدين محتكرا من السلفية والإخوانية يجعله دين الإمبريالية والأفيون وليس دين الإنسان والتحرر والماعون…

   أما آجلا، لن يبقى قيس سعيد أكثر من 5 سنوات أو 10 مهما كانت نواياه الصادقة. فالأهم هو إيجاد ثقافة سياسية دائمة تتميز بالممانعة والانحياز للطبقات الشعبية والسيادة الوطنية تحملها كتلة تاريخية دائمة تحترم ثقافة شعبها الدينية ولا تترك الدين محتكرا من السلفية العالمية والإمبريالية…

   قيس سعيد لا يحمل بديلا، وامكانياته الذاتية لا تسمح له بذلك… لا بد من الاقتداء بكفاح شعوب أمريكا الجنوبية ،والا سنبقى نجري وراء السراب….

فلا بد من أن نفكر في ما بعد ،أي البديل عن منوال لم يتغير منذ سنة الاستقلال. ولا بد أن نقتدي بالبيرو و بوليفيا قبل موعد الانتخابات المبكرة لإنقاذ بلادنا:

       1-  نلتقي منذ الآن حول برنامج سيادي-اجتماعي.

       2-  نؤهل منذ الآن قيادتنا: عبد الجليل البدوي  ( لأنه عالم يحمل أطروحة اقتصاد اجتماعي مفصلة)،أو محمد اللومي(لأنه يحمل أطروحة اصلاح فلاحي مفصلة)، أو عبد الله الشريف (لأنه عالم في الجغرافيا الفلاحية والريفية وخبير بالشأن التنموي الإفريقي) أو بدر الدين القمودي (لأنه قاد إضرابا ناجحا)،أو رشيد القنوني أوصلاح الدين المصري أو منير حسين أو عقيل البكوش أو مصباح الشيباني أو عبد القادر النقبي(لاختصاصه في شأن المعارضة التونسية)، أوغيرهم (لأنهم ذوو ماض نضالي معروف، ولأنهم مستقلون وتجميعيون وغير إقصائيين، ولأنهم يساريون و فلسطينيو البوصلة)…

    لا نفكر في من يحكم، بقدر ما يجب أن نفكر في نمط الحكم ومنوال التنمية…

  ولكنْ هذه فرصة أيضا لبناء ضروري ليسارٍ من عدم(لم يوجد بتونس إلا لمدة قصيرة مع برسبكتيف). و«التيسّر»(بتحديث لمصطلحية الثورة الفرنسية) هو معارضة الكُمْبْرَادُوريّة والصّهيونية والتبعيّة والإمبريالية، والدفاع عن العدالة الاقتصادية والسيادة السياسية والثقافية والاقتصادية. أمّا «التَّيَمُّن» فهو نقيض ذلك تماما (تقْبل النهضة مصطلح «الديمقراطية»، وترفض مصطلح «التيسّر» و«اليسارية»).

لم تكن هناك أحزاب يساريةٌ تونسية. فاليسار بالدقة العلمية لم يكن إلا مع برسبكتيف، ولكن كانت هناك أحزاب علمانية ذات مخيال يساري، كان للكثير من أفرادها انخراط بالحزب الحاكم السابق لدواع مصلحية أو لمبرر اختراقي لا جدوى واقعية له. ولكن للمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية ثقافة يسارية، وهو ليس حزبا، بل مركز بحث وتدخل استراتيجي، لم تنصت له سلطة ما بعد الرابع عشر من جانفي، ولم تتحالف معه النهضة ليمينيتها (والتحالف يكون بداية بتناصّ النص الانتخابي مع نصّ هذا المنتدى). وهذا ما عمق الخطر على الطبقات المهدد والسفلى بينما كان المنتدى يعرض حلولا آجلة وأخرى عاجلة لأزمتها.

 إن الاحزاب التي تسمي نفسها “يسارية” ليست شعبية الهوى والثقافة، بدليل محاربتها للدين (كتاب «ضد الظلامية» كتبه حمّة الهمامي لنقد إديولوجيا الإخوان و تفنيد القرآن الكريم والسنّة النبوية في الآن نفسه!)، بينما كان تشافيز وحزبه متدينا يساريا، أو بالأحرى يساريا متدينا. ولذلك خافت الطبقات الشعبية حتى المفقرة، من تلك الأحزاب، فلم تنتخبها لتتحصل على ما يقارب صفرا من الأصوات، رغم أن تلك الأحزاب تملك الكثير من الأجوبة الناجعة عن أزمة تلك الطبقات، مما عزز الخطر الاقتصادي «الداهم»  عليها.

ليست الكتلة التاريخية جبهة أحزاب، كما في ابتسار الكثير من المثقفين العرب، وإنما هي أران بركسيسٍ ثقافي شعوري ولاشعوري لتوحيد المفكك، جهاتٍ وطبقات وجنسين وأجيالا، بما هي رد إبداعي عميق على أزمة حضارية عميقة، حتى يكون هيمنة ثقافية مضادة  للهيمنة المركزية منذ قرون، تعيد خلق الأمة المقتدرة والعدالية بموجات المراكمات التاريخية البَدائية.

هل يستطيع أي كان أن يمحو القرآن الكريم من تونس وأن يمحو الميول للألوهية والمحمدية عند التونسيين؟! إذن من الضروري أن نتفاعل مع قرآن شعبنا، وألوهيته ومحمديته، لا لكي لا تكون عائقا له، بل لأن عدم تفاعل المناضلين مع تلك المقولات هو العائق الرئيس أمام أي نجاح لهم، بل يجب أن يجدوا في بحثهم في إبستمية شعبنا عن جيناته الثورية عليهم أن يستخرجوا لاهوت تحرر شعبهم حتى لا يزيفه الآخرون وحتى يخلق كتلته التاريخية الثابتة ( راجع مقالي: « وظيفة الحركة الاجتماعية الغوثية في إعادة بناء الأمة المغربية الحديثة» في الكتاب الجماعي: « من أجل شروط دنيا لمغرب موحد»).

  «الحياة عقيدة وجهاد»، كما قال أحد حكماء العرب قديمًا. وبناء الكتلة التاريخية التي ستنتصر للثورة التونسية مُنذ القدّيس دُونات إلى الغوثْ والشاذلي وبِنْ غذاهم والشابيّ، يبدأ بوضوح الرؤية وبالمراكمات الأولى…لا يهم أن تسقطنا الإمبريالية وأذنابها، بل المهم وضوح مراحل الطريق الذي نسقط عليه.

النتائج العامة:

_ أطلق رئيس الدولة قيس سْعيّد رصاصة الرحمة على منظومة دولة فاشلة (غير معلنة الفشل والإفلاس).

_ كانت كذبة عشناها منذ 14/1/2011، بل منذ أول انتخابات بعدها. لنجد «ديمقراطية» شكلانية، فارغة المضمون الاجتماعي_الاقتصادي والسيادي_الثقافي؛ بل أميل إلى التطبيع مع الكيان الصهيوني والإمبريالية، و كانت يمينية عمليّا، أي متحالفة مع عناصر من الحزب الحاكم سابقا، من الصفوف الثانية والأولى، ومن الدولة العميقة. فلم يتغير شيء من النظام السابق.

 _ من وجهة نظر سسيولوجية، إنّ منظومة الدولة الفاشلة وترقيعاتها المتوالية كانت ذاهبة باتجاه الانهيار الفظيع، بل نحو خطر الفوضى الشارعية العارمة. فلقد أصبحت  الدولة التونسية دون أي رأس مال ثقة شعبية، لأن أهل السلطة فيها لم يراكموا أي رصيد من المراكمة النضالية للاقتصاد العدالي- الشعبي، خاصة بعد تفريط الأكثرية البرلمانية في سيادة الدولة على البنك المركزي التونسي ليكون رهينة لصندوق النقد الدولي. فقد قاموا بعديد الانقلابات على شعاريْ الثورة عديد المرات، وشعارات الثورة يجب ان تكون حاكمة على الدستور لا العكس. وقاموا بعديد الانقلابات الانتخابية إذ قاموا بعكس ما أخذوا به أصوات الناس.

 _ نحن فعلا في «خطر داهم». فالمنظومة المالية في حالة انهيار مخيف، والقروض بحجم جَبليّ، وحالة البطالة في تزايد فظيع… و«ائتلاف الكرامة» السلفي_الجهادي (المتحالف مع النهضة!) يهدّد دائما بتسليف المجتمع و«الجهاد» بالداخل والخارج (بعض رموزه كانوا أئمة جمعة عبؤوا الشباب باتجاه إسقاط الدولة السورية، مع زملائهم من حركة النهضة)… والدساترة الجدد يمارسون خطابًا عنيفا، يخيف باحتمال الرجوع إلى منظومة القمع السابقة. وهناك «خطر داهم»، من الناحية الصحية.

_ ما قام به قيس سعيد له «مشروعية شعبية» لأنه حركة تصحيحية ضد انقلاب السلطات الثلاث على الشعارات التي قامت عليها انتفاضة الشباب (17 ديسمبر _ 14 جانفي).نعم… عاد الأمل.. ولكنّ ذلك مشروط بشخصية الرئيس إنْ كانت منحازة فعلا للشعب، وبشجاعته تجاه ضغوط الإمبريالية والصهيونية (وسفاراتهما) والكمبرادورية الداخلية والدولة العميقة، وبإنصاته للقوى الحيّة. كما أن مدة شهر لا تكفي لإنجاز ما يريد إنجازه، فلا بد من ستة أشهر.

_ المطلوب منا عاجلا، قبل الانتخابات المبكرة، أن نفعل كما فعلت شعوب أمريكا الجنوبية. لا بد من فرز قيادة شعبية من نقابيين مستقلين و علماء اقتصاد ومثقفين ثوريين..

_ لا بد من بديل يقوم على الاقتصاد الاجتماعي والسيادة الوطنية على مصادرنا( وهو موجود ضمن اعمال المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية منذ سنوات) .

_ لا بد أن يتخلى “يسارنا” عن الاستخفاف بالدين لأن ذلك ما أسقطه في أعين الشعب. بل إن الدين في حالتنا ضرورة للتحول الثوري.

_ لا بد من أن نؤهل منذ الآن قيادتنا: من ذوي الماضي النضالي المعروف، والمستقلين والتجميعيين وغير الإقصائيين، واليساريين و فلسطينيي البوصلة)…

***

 هذا أبو القاسم الشابي، من وراء العقود، يشحننا بالأمل في المراكمة الكفاحية:

 

لـك الـويلُ يـا صَرْحَ المظالمِ من غدٍ        إذا نهـضَ المسـتضعفون وصمّمـوا
إذا حــطَّم المســتعبَدون قيــودَهم            وصبُّـوا حـميم السـخط أيَّـان تعلمُ
أغـرّك أن الشـعبَ مُغْـضٍ على قذى        وأنّ الفضـاء الرّحْـبَ وسنانُ مظلمُ؟  
ألاَ إنّ أحـــلامَ البـــلادِ دفينــةٌ                تَجَمْجَــمَ فـي أعماقِهَـا مـا تَجَمْجَـمُ  
ولكــن ســيأتي بعـد لأي نشـورُها            وينبثـــقُ اليــوم الــذي يــترنّمُ 
هـو الحـقُّ يُغفـي.. ثمّ ينهضُ ساخطًا       فيهــدمُ مـا شـادَ الظِّـلامُ ويَحْـطِمُ

 

 

شارك على :
المحور العربي © كل الحقوق محفوظة 2023