“جَرَسِيّة الارهاب” في تونس وإيقاعاته على أوتار الأحداث الوطنية !…بقلم: د. مصباح الشيباني

 “جَرَسِيّة الارهاب” في تونس وإيقاعاته على أوتار الأحداث الوطنية !…بقلم: د. مصباح الشيباني

  لم يعد الفساد في تونس ظاهرة شاذّة أو مخفية، كما لم يعد فشل الحكومة في إدارة شؤون البلاد حالة ظرفية أو وقتية بل أصبحت حالة بنيوية ومعترف بها رسميا.

وتحوّلت كل هذه الظواهر “الانتكاسية” إلى حقائق موضوعية تمظهرت في تنوع معاول الانحراف و”الخبل” الفكري والانهيار الأخلاقي في مجتمعنا ــ أفقيا وعموديا ــ ولم يسلم منه أحد. وأصبح التطرّف والعمليات الارهابية ( النّاعمة والشديدة) “تدبيرا مفتعلا” ومُمَسْرحًا، ويتم وفق استراتيجية محْبكة في الإعداد والاخراج بحسب تبدّلات الوقائع والأحداث، على كامل رقعة البلاد، تبعا لأهداف اللاّعبين الأساسيين، ولا أحد قادر على معرفة مصادرها ولا أهدافها أو ماهيتها إلى اليوم. وعلى الرّغم من اختلاف أساليب الإرهاب وتعدّد ضحاياه، فإنّ مضمونه ورسالته واحدة…

لقد أصبحت حملات التّهميش للمجتمع وإذلاله هي الشّغل الشاغل لسياسة الدولة وجوهر استراتيجياتها، خصوصا عندما أدركت أنّها عاجزة عن الالتزام بمسؤولياتها في تحقيق التّنمية والقضاء على الفساد. وفي هذا السّياق تحولت ظاهرة  “الإرهاب” إلى “ذخير استراتيجية” وفق مقاربة “سيكولوجية الجماهير” و”علم النفس الحشود” يتمّ استثمارها في الخداع والدّعاية الإعلامية، في ظل مناخ التشوّش العقلي العام والانحطاط الأخلاقي والاستبداد السّياسي، وفي حالة الاختلالات والأزمات الاجتماعية والاقتصادية التي لم تعرف تونس مثيلا لها في تاريخها الحديث.

والمستهدف الأول من ” جَرسِيّة الإرهاب” (La sonorité du terrorisme)، أي دقّ جرسه على إيقاعات بعض الأحداث التي تعيشها بلادنا، هو من أجل التحكّم في آليات التفكير نفسها عند الإنسان، باعتبار أن ذبح الشّباب ومسْرحَته أصبح أكثر سهولة في توجيه الرّأي العام. وطالما أن آثار هذه العمليات كانت ناجحة في السّابق، وكانت نتائجها فعّالة ( نفسية ـ اجتماعية ـ سياسية ـ إعلامية) في مواجهة من يسعى إلى التحرّر من أبناء هذا الشعب، ولو كان في حدود التخلّص من بعض العقد النفسية التي راكمها الاستعمار الفرنسي والتجارب السّياسية الاستبدادية الماضية. كما أنّه لا يمكن أن يكون لهذه “الجرسيّة” وإيقاعاتها التنويمية على المواطن، من معنى إلا بالنّظر إلى دور الاستعمار الغربي بما هو متماه معها. إذ أنّنا على يقين أنّه هو الذي يهدّد كل شيء ليأخذ مجتمعنا إلى دوّامة الفتنة والفوضى العامّة تحت عناوين ومسميّات مختلفة ومتحوّلة بهدف تفكيك ما تم تحقيقه من انسجامية اجتماعية وثقافية للمجتمع التونسي في ظل “دولة الإستقلال” والعبث بتراكماته التاريخية العميقة.

إنّ جرائم القتل بلا دافع عادة ما تكون وليدة اللّحظة ( فجائية)، وتكون محيّرة ومربكة تمامًا بالنّسبة إلى المشاهدين والمتابعين والمحقّقين، ولكنّها تنبئ بفطنة أصحابها وعمق تفكيرهم ودرايتهم بــ”جينيالوجية” الشخصية العربية في كل أبعادها. وعندما تتكرّر هذه الجرائم وتعتمد “السّيناريو” نفسه، يصبح فيها “القاتل”  هو الوحيد مفتاح حل ألغازها، خاصة في ظلّ حالة العبثية ( على مستوى الظاهر) التي تحيط بتبريرات جرائم القتل بحسب ما يصرّح به المسؤولون في الدّولة عبر وسائل الإعلام. ومن الواضح أن هناك نوعا من “النّموذج” الذي يربط بين كل الجرائم السّابقة والرّاهنة والآتية، ولكن ما هو ذلك النّموذج؟ وما هي القواعد التي تحكم أشكاله المختلفة في ظاهرها والمشتركة في باطنها؟

كل “جريمة سياسية” هي وسيلة لإفراغ  واقع اجتماعي معين من حالة التوتّر وإعادة تنويم وتهدئة له في الوقت نفسه. أما الهدف الأبعد فهو الحفاظ على عمليات السّطو على المجتمع والدّولة عموما دون أية مقاومة؛ فهي شكل من أشكال “القوّة النّاعمة”،أي أنّ عمليات القتل التي تظهر لنا أنها “عشوائية” ( وهي في حقيقتها جرائم سياسية) ليست إلا أداة لتحقيق ” الجريمة الكبرى”؛ وهي الاستيلاء على البلاد من قبل أطرف باتوا على يقين أنهم يمارسون اجرامهم بإرادة حرة، وفي مأمن من كل تتبّع أو مساءلة، نظرا إلى ما حقّقوه من نجاح و”عبقريّة”( في نظرهم)  في عمليات التّوجيه والتحكم، ومن خلال تنويع عمليات القتل وأساليبه. وبالتّالي، أصبحت الجرائم أداة مستترة للهيمنة على الضحايا ولتنويمهم في الوقت نفسه. وهناك أسباب وعوامل متعدّدة ومتشابكة لا يمكن معرفتها إلا من خلال الدراسة المعمّقة، فكل حركة ارهابية مفاجئة ( جريمة، فضيحة ما ..) لابد أن تهزّ الذّات البشرية لتوقظها من جديد، لا لتعيدها إلى معرفة واقعها الموضوعي وتغيير طرقها في التفاعل معه، بل لتعيدها إلى حالة التنويم مرّة أخرى.

كانت جرائم القتل الأولى لبعض الرّموز السياسيين والحقوقيين والأمنيين ( بالقتل المباشر أو  غير المباشر) هي بداية طابور طويل من الجرائم المتلاحقة التي تنوّعت مساحاتها واختلفت شخوصها وامتدت أزمانها، ومازال هذا الطابور “الاجرامي” في حق شعبنا يقذف من حين لآخر نماذج من القتل المرعبة نتيجة عدم كشف أسرارها. لقد زادت الجرائم لتبين أن من يقف وراءه كلما شعر بأنّ هناك من يحاول أن يشوّش عليه، أو يؤثّر في البيئة التنويمية  للشّعب،إلا ودقّ جرس الإرهاب.  وعندما يكون مصدر الخبر واحدًا لن يدخل الشكّ في مصداقيته أو زيفه عند أحد. وعلى الرّغم من أن تأثير “القوّة النّاعمة” يستغرق وقتا أطول ويستند إلى تخطيط دقيق، فإنّ هذه الأداة غالبا ما تكون أكثر فاعلية لإنجاز أهداف أصحابها وهي توجيه “الرأي العام” واستهداف وعي الشّعب أولاّ وأخيراً.

شارك على :
المحور العربي © كل الحقوق محفوظة 2023