حقل البوري النفطي: قراءة في الجدل والسياقات التاريخية والقانونية…بقلم القاضي محمد المهدي عجيلي

حقل البوري النفطي: قراءة في الجدل والسياقات التاريخية والقانونية…بقلم  القاضي محمد المهدي عجيلي

أثارت تصريحات رئيس الجمهورية قيس سعيّد خلال زيارته الأخيرة يوم الخميس 16 مارس 2023 إلى مقر المؤسسة التونسية للأنشطة البترولية (ETAP) التي قال فيها أن ” تونس لم تحصل من حقل البوري إلا على الفتات القليل وأن الحقل يمكن أن يؤمّن كل حاجيات تونس وأكثر، وكان المُقترح من وزير الخارجية الليبي الأسبق علي عبد السلام التريكي أن يُقسم إلى نصفين ” مما أثارا جدلا واسعا في الأوساط السياسية والشعبية في تونس وليبيا.
وقبل الخوض في حيثيات هذه التصريحات وما خلفته من انتقادات لا بد من تقديم بسطة سريعة عن حقل “البوري” النفطي وهو حقل بحري وجزء من بلوك إن سي-41، والذي يقع على بعد 120 كم شمال الساحل الليبي في البحر المتوسط. أُكتشف أول مرة عام 1976 على عمق 2.700 متر وتصل الاحتياطيات المثبتة من النفط الخام في الحقل إلى 720.000.000 م³ و3.5 تريليون متر مكعب من الغاز الطبيعي وإنتاج سنوي محتمل يصل إلى 6 مليار م³. يعتبر حقل البوري أكبر حقل منتج للنفط في البحر المتوسط.

تم اكتشاف حقل البوري من قبل شركة “إني- ENI” الايطالية وهي شركة نفط وغاز طبيعي إيطالية متعددة الجنسيات، مقرها الرئيسي في روما، وتعتبر من أكبر عمالقة النفط في العالم، ولديها أنشطة في 79 بلدا، وتحتل حاليا الترتيب 11 كأكبر شركة صناعية برأس مال سوقي يصل إلى 68 مليار يورو ( 90 مليار دولار تقريبا).

سنة 1974، وقعت شركة “إني” اتفاقية مشاركة انتاج مع المؤسسة الوطنية الليبية للنفط للتنقيب البري والبحري في المناطق المجاورة لمدينة لطرابلس وكانت هذه هي المنطقة التي أُكتشف فيها حقل البوري البحري في خليج قابس بواسطة شركة “أجيپ-Agip” للنفط، التابعة لإني، عام 1976.
استعاد حقل البوري للنفط التقليدي 91.60% من إجمالي الاحتياطيات القابلة للإنتاج، وبلغ إنتاجه ذروته في عام 1995، وبلغت ذروة الإنتاج نحو 150 ألف برميل يوميا من النفط الخام والمكثفات، حسبما نشر موقع “أوفشور تكنولوجيا” (offshore-technology).
وسيستمر الإنتاج حتى يصل الحقل إلى حده الاقتصادي في عام 2034، بناء على التقديرات الاقتصادية، ويمثل الحقل حاليا ما يقرب من 2% من الإنتاج اليومي في ليبيا.
وبما أنه يمكن تحدث بين الدول خلافات بين الدول المتجاورة حول الحدود البرية والبحرية بينها، منها ما يتم حسمه وديا وسياسيا بالاتفاقات الثنائية أو عن طريق اللجوء إلى القضاء الدولي كما هو الحال بالنسبة للخلاف التونسي الليبي في خصوص حقل البوري ويمكن أن لا يحسم النزاع في عديد الوضعيات مثل ما هو الحال بالنسبة للخلاف الهندي الباكستاني في قضية إقليم “كاشمير” أو ملف الصحراء الغربية أو كذلك في الخلاف التركي اليوناني.
على إثر الخلاف بين تونس وليبيا حول ملف حقل البوري وعلى رغم أن الرئيس الليبي الراحل معمر القذافي اقترح على نظيره التونسي اقتسام ثروات الجرف القاري، لكن الرئيس الحبيب بورقيبة رفض ذلك بعد نجاح ثلّة من أساتذة القانون على رأسهم العميد صادق بلعيد وعياض بن عاشور الذين دفعوا الرئيس بورقيبة لرفض المقترح الليبي وأقنعوه برفع قضية أمام المحكمة الدولية بلاهاي وبأن الدولة التونسية سوف تفوز بهذا النزاع القضائي، وهو ما تم بالفعل سنة 1978 بعد وساطة من الأمين العام الأسبق لجامعة الدول العربية محمود رياض بين البلدين، واتفاقا على عرض الأمر على محكمة العدل الدولية.
اختارت اللجنة التي تمثل الدولة التونسية برئاسة الأستاذ صادق بلعيد، والدبلوماسي نجيب البوزيري، أن تستند في دفاعها إلى التاريخ والجيومورفولوجيا، وعلى الحقوق التونسية في صيد الإسفنج، فيما اعتمدت الدولة الليبية في دفاعها على المعطى الجيولوجي وتحرك طبقات الأرض.
قضت محكمة العدل الدولية بلاهاي في 24 فيفري 1982 لصالح الدولة الليبية بكامل الحقوق القانونية على الجرف القاري بأغلبية 10 أصوات مقابل 4 أصوات من أعضائها.
وقررت محكمة العدل الدولية أن الحدود بين ليبيا وتونس يجب أن تتبع خطا يبدأ من النقطة التي تلتقي فيها الحدود البرية بين البلدين في الساحل، وتمتد إلى البحر لمسافة 12 ميلا بحريا بعد هذه النقطة، يجب تحديد الحدود بخط متساو في البعد عن أقرب نقطتين على الساحل الليبي وتونس.


واتهم العميد بلعيد حينها قضاة محكمة العدل الدولية في لاهاي بالانحياز لصالح ليبيا، قائلا إنهم “تابعون لبلدان لها مصالح استراتيجية وسياسية واقتصادية في ليبيا، لكننا في تونس احترمنا العرف الدولي”.
سعت الدولة التونسية بعد أقل من ثلاث سنوات لتحريك الملف من جديد على المستوى القانوني أمام محكمة العدل الدولية طالبة إعادة النظر في الحكم على أمل تعديله لكن صدر حكم ثان عن نفس المحكمة في 10 ديسمبر 1985 يقضي برفض الدعوى القضائية.
وجدير بالذكر أن هذا الحقل يأتي في إطار ما يعرف بالجرف القاري الذي عرّفته اتفاقية جنيف لعام 1958 لقانون البحار بأنه “مناطق قاع البحر وما تحته من طبقات متصلة بالشاطئ تمتد خارج البحر الإقليمي إلى عمق مئتي متر أو إلى ما يتعدى هذا الحد إلى حيث يسمح عمق المياه باستغلال الموارد الطبيعية لهذه المنطقة”.
قلّل بعض المحللين والمتابعين للشأن السياسي التونسي وكذلك الليبي من استتباعات تصريحات الرئيس قيس سعيّد على العلاقة بين البلدين حيث اعتبرها البعض تذكيرا بسياقات تاريخية تفسّر أسباب العجز الطاقي التونسي بالرغم من وجود بلادنا في محيط جغرافي غني بالثروات النفطية والغازية وأن الغاية من التصريحات لم تكن تهدف إلى المطالبة بإعادة فتح الملف الذي اتصل به القضاء الدولي وحسم حوله الجدل نهائيا.
ويمكن الإشارة إلى أن الحجج التاريخية التي قدّمها الرئيس قيس سعيّد في خصوص الاتفاق الحاصل بين تونس وليبيا بشكل لاحق والذي تم بموجبه سنة 1988 إنشاء ليبيا شركة مع تونس تعمل في حقل مشترك جزء منه بالمياه التونسية وجزء بالمياه الليبية ومقرها في هو اتفاق لا يخص حقل البوري النفطي وإنما لحقل يبعد نحو 70 كيلومترا عن التقسيم الذي حددته محكمة العدل الدولية داخل المياه الاقتصادية الليبي والتي رأت الدولة الليبية أنه يمكن إنشاء مشروع مشترك مع الدولة التونسية يمكن فيه استخدام عائدات البيع، وهو ما يطلق عليه مشروع 7 نوفمبر حيث أن حقل البوري لم يكن في حلقة النقاش باعتبار المعايير الجيولوجية والقانونية انطلاقا من اتفاقية جنيف لقانون البحار تجعل من حقل البوري في المياه الاقتصادية الخالصة لليبيا.

ورغم أن الجانب الليبي لم يتفاعل بشكل كبير مع التصريحات التي أدلى بها الرئيس قيس سعيد في هذا الخصوص واكتفت الدولة الليبية بتوضيح موقفها من خلال تصريح مقتضب من وزير النفط في حكومة الوحدة الوطنية إلا مثل هذه التصريحات وخاصة في علاقة بمسائل تاريخية تم حسمها قانونيا لن تعود على تونس إلا بالتوتر والمشاكل على المستوى الديبلوماسي في وقت نحن في أمس الحاجة إلى الاستقرار السياسي وحشد الدعم من جيراننا لدعم ملف تونس لدى صندوق النقد الدولي.

شارك على :
المحور العربي © كل الحقوق محفوظة 2023