دور متاحف المجاهد بالجزائر في خدمة تاريخ الثورة: ” متحف المجاهد لولاية قالمة أنموذجا”

 دور متاحف المجاهد بالجزائر في خدمة تاريخ الثورة: ” متحف المجاهد لولاية قالمة أنموذجا”

بقلم: شعبان ياسين-باحث في تاريخ الثورة الجزائرية ومدير متحف المجاهد لولاية قالمة |

قبل أيام مرت علينا ذكرى اليوم العالمي للمتاحف الذي  تحتفي به منظمة الامم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة  “اليونسكو” بالتنسيق مع المجلس العالمي للمتاحف- icom –  يوم 18 ماي من كل سنة وذلك منذ 1977 بشعار سنوي خاص، وكان  شعارهذه السنة “المتاحف من أجل المساواة : التنوع والاندماج “والاحتفال به لايقتصر على ذاك اليوم فقط بل قد يستمر لشهر كامل، و الهدف من ذلك هو زيادة الوعي بأهمية المتاحف في تطوير الحس التاريخي والثقافي باعتبارها الذاكرة الحية للشعوب ،وإتاحة الفرصة للمختصين من كل أنواع المتاحف  للتواصل مع المجتمع والجمهور وتحسيسه بالتحديات التي تواجه المتاحف .

وتحرص الدول على مشاركة متاحفها في التظاهرات المتعلقة بهذه المناسبة العالمية والجزائر من بين الدول التي أولت للمتاحف أهمية كبيرة لما فيها من واقع ملموس يخاطب الحواس وينقل الحقيقة عن الفن والتاريخ والاحداث كما تقول مديرة متحف هالدزهايم الالماني الدكتورة “ريجينا شولز ” ودورها المحوري في تعزيز العلاقات السلمية بين الناس والذي يعد فيها المتحف المكان الذي يضم المعروضات والأشياء الثمينة لحمايتها وعرضها والإطلاع عليها وفحصها ودراستها”.

وقد اهتدت الجزائر التي واجهت استعمارا غاشما لمدة 132 سنة  الى انشاء نوع جديد  من متاحف التاريخ  – الى جانب عشرات المتاحف المتنوعة الموجودة من قبل – وهي متاحف المجاهد بهدف الحفاظ على تاريخ الثورة الجزائرية بمنظورها الزمني والاثنوغرافي وإثارة الوعي الوطني ولتكون نافذتها للعالم، وأول متحف وطني  للمجاهد أنشيء في عهد الرئيس الراحل هواري بومدين سنة 1972 وكان مقره بالابيار احدى بلديات العاصمة  ثم في عهد الرئيس الشاذلي بن جديد دشن مقره الجديد  في مقام الشهيد برياض الفتح بالجزائر العاصمة  سنة 1982 ولايزال هناك الى يومنا هذا لتنتشر بعدها عديد المتاحف الملحقة بالمتحف الوطني للمجاهد عبر التراب الوطني منذ تسعينيات القرن الماضي والتابعة تنظيميا لوزارة المجاهدين حينها والتي أصبحت تسمى اليوم وزارة المجاهدين وذوي الحقوق لتصل أوجها في السنوات الاخيرة لتشمل معظم ولايات الجزائر الـ 48 والولاية التي  ليس فيها متحفا للمجاهد بعد  فهو في طريق الانجاز أو التدشين .

  متحف المجاهد لولاية قالمة أنموذجا :

ويعتبر متحف المجاهد لولاية قالمة من بين هذا النوع من المتاحف الذي سيتناوله مقالنا والذي أنشئ بداية بموجب قرار وزاري مشترك بين وزارتي المالية ووزارة المجاهدين مؤرخ في 08 محرم 1417 هـ الموافق لـ 26 ماي 1996 المتضمن فتح ملحقة المتحف الوطني بولاية قالمة، هذه الولاية الجزائرية التي تقع شمال شرق البلاد وسط سلسلة جبلية ضخمة خضراء، وأهم هذه الجبال : جبل ماونة ،جبل هوارة، جبل دباغ، جبل بني صالح …الخ وتبعد الولاية عن العاصمة الجزائر بـ 537 كلم وأقرب الولايات اليها ولاية عنابة الساحلية وولاية قسنطينة عاصمة الشرق الجزائري وولاية سوق اهراس الحدودية مع الجمهورية التونسية الشقيقة، علاوة على طابعها الصناعي والفلاحي والرعوي والغابي الذي يعطيها موقعا اقتصاديا واستراتيجيا هاما في الجزائر فضلا عن وجودها على ضفاف واد سيبوس الخصبة أين تمر المجاري المائية بها دون انقطاع خلال كل الفصول وتميزها بحماماتها المعدنية الشهيرة كحمام دباغ وحمام أولاد علي وحمام النبائل، زيادة على تضاريسها وطبيعتها الخلابة تتميز ولاية قالمة أيضا بثروة أثرية يصل عددها لما يزيد عن 500 موقع ومعلم يعود الى مختلف الحضارات التي تعاقبت على المنطقة ، ما جعل المستعمر الفرنسي يلاحظ موقعها الاستراتيجي خلال الغزو سنة 1830 فعمد الى اعادة بنائها وإحاطتها بأصوار جاعلا منها حصنا منيعا بخمسة أبواب .

قاومت قالمة الاحتلال الفرنسي بشراسة فبعد فشل الحملة الاولى احتلال قسنطينة سنة 1836 والتي قادها الماريشال كلوزيل وعاد حاملا خيبات الهزيمة ودخل معسكر قالمة الذي أنشأه لاسعاف الجرحى والمرضى من جنود العدو فواجه هجوما عنيفا من لسكان المنطقة بحوالي ثلاثةألاف مقاوم فعاد الى عنابة حين أدرك صعوبة وصول المؤن والامدادات تحت ضربات  المقاومين، ولكن تم احتلالها خلال حملة جديدة بعد احتلال قسنطينة في الحملة الثانية أواخر  سنة 1837، بعد فشل المقاومات الشعبية لعدم التنظيم ونقص الوسائل الحربية، وكان لصوت تونس والمغرب وليبيا طريق أوضح للشعب الجزائري والقالمي ليبلور ويطور فكرة ثورته، وهكذا تدعم الوعي وتبلورت الوطنية واخذت نخوة الحرية والكرامة تتزايد بفضل الاتصالات الشعبية المباشرة وغير المباشرة وزادت الحرب العالمية الثانية الحركة الوطنية بالجزائر وقالمة تطورا رغم حل الاحزاب والنفي والسجن مادفع بالاحتقاالى  أوجه الى جانب الوعي الدولي ليكون يوم 8 ماي 1945 بقالمة يوما خاصا حيث انتفضت المنطقة بمدنها و قراها في مظاهرات سلمية حمل الشعب بقالمة بقيادة المناضلين الوطنين خلالها الاعلام الوطنية وأعلام الحلفاء المنتصرين على النازية وشعارات مطالبة باطلاق سراح المعتقلين ومن بينهم مصالي الحاج أب الحركة الوطنية ومطالبة فرنسا الوفاء بوعودها بالحرية والاستقلال بعد أن شارك الجزائريون في تحرير فرنسا من النازية، لتكشر فرنسا عن أنيابها وتدحض دعاية مهمة فرنسا التمدينية بالجزائر ويسقط في كل من قالمة وسطيف وخراطة 45 ألف شهيد ،كان نصيب ولاية قالمة منها 25 ألف شهيد من خلال  مجازر مروعة نقشت في أذهان القالميين والجزائريين أبشع صورة عن الاستعمار الفرنسي الذي أعقب التقتيل حرقا بأفران الجير بولاية قالمة ومن بين هاته الافران فرن الجير بمدينة هليوبوليس الذي لايزال الى يومنا هذا شاهدا على هولوكوست الفرنسيين بولاية قالمة  سنة 1945.

بعد الاستفاقة من هول تلك المجازر أسست الحركة الوطنية  المنظمة الخاصة في 15 فيفري 1947 جناحا مسلحا للحزب يعمل على جمع السلاح وتدريب الشباب وتحضيرالحاضنة الشعبية للثورة القادمة الى غاية اكتشاف أمرها بالوطن وقالمة سنة 1950 وأصبح أعضاؤها اما أسرى أو مطاردين وبعد أزمة حزب انتصار الحريات الديمقراطية سنة 1953 وانقسام أعضائه بين مصاليين مؤيدين رئاسة مصالي الحاج للحزب مدى الحياة و امتلاكه حق النقض رغم غيابه بسبب ظروف الاقامة الجبرية المسلطة عليه باعتباره المؤسس للحركة الوطنية، ومركزيين وهم أعضاء اللجنة المركزية المنتخبين بمؤتمر الحزب ذوو رؤية اصلاحية تميل الى التنازلات لينسحب جزء معتبر من شباب الحزب على المستوى الوطني ومن بينهم شباب الحزب بقالمة الى الفئة الجديدة الثالثة وهم الحياديون الذين يؤمنون بطريق الكفاح المسلح سبيلا وحيدا للتحرر،و تحت شعار ما أخذ بالقوة لا يسترجع الا بالقوة ظهرت نهاية مارس 1954 اللجنة الثورية للوحدة والعمل بعد فشل مساعي الوساطة والتحكيم لانقاذ الحزب من الانقسام وجعله أداة ثورية حقيقية .

ليقرر اثنان وعشرون مناضلا  من بينهم الشهيد سويداني بوجمعة من قالمة، فيجوان 1954 اشعال فتيل الثورة تحت  قيادة جماعية لتتمخض عنه جبهة التحرير الوطني  التي ترى أن الثورة يجب أن تؤول الى تشكيل دولة جزائرية ديمقراطية واجتماعية في اطار المبادئ الاسلامية وكان العمل المسلح قد تقرر أن ينطلق في أول نوفمبر 1954 .

وكانت ولاية قالمة سباقة لاشعال فتيل الثورة من الساعات الاولى ونشر لهيبها خاصة بعد هجومات الشمال القسنطيني  في 20أوت 1955 التي شملت النواحي التاريخية الاربع لقالمة بعديد العمليات الجريئة ونزع الخوف من نفوس المواطنين من المستعمر  فانتظمت الولاية تحت قيادة المنطقة الثانية ثم الولاية التاريخية الثانية بعد مؤتمر الصومام سنة 1956 .

وقد شهدت الثورة غداة اندلاعها اشكالية التسليح خاصة بعد استجابة المناضلين لنداءات جيش التحرير للالتحاق به لتأتي فكرة قوافل جلب الاسلحة من تونس لتكون أول قافلة من قالمة في 8 ماي 1956 بقيادة الطاهر بودربالة لتصبح بعدها ولاية قالمة معبرا غدوا ورواحا للعديد من قوافل جيش التحرير الوطني القادمة من الولاية الاولى- الاواراس –  والولاية الثانية والولاية الثالثة – القبائل – و الولاية الرابعة – العاصمة والولايات المجاورة – ما جعل  قالمة تشهد بذلك الكثير من المعارك والاشتباكات  بصفة يومية تقريبا خلال فترة الثورة التحريرية المقدرة  بثمانية سنوات والتي لاتزال معالمها شاهدة عليها الى يومنا هذا .

ورغم عدم التكافؤ بين قوات المستدمر الفرنسي المدجج بمختلف الاسلحة والذي اعتبر رابع قوة عالمية حينها إلا أن  ايمان الجزائريين بحريتهم قلب الموازين .. ومن بين هذه المعارك الكبرى والخالدة بولاية قالمة معركة مرمورة التي سقط فيها أحد القادة الكبار لفرنسا وهو العقيد جان بيار، معركة أم النسور، معركة قلعة فيالة الاولى والثانية، معركة البسباسة، معركة عين القصب ،معركة غار الدحرج ،معركة راس الماء، معركة بئر لعناني، معركة سيدي سلام ….الخ وغيرها من الاشتباكات والكمائن والعمليات الفدائية الجريئة التي أجبرت العدو على التفاوض وفق شروط جيش وجبهة التحرير الوطني .

كما قدمت قالمة رجالا حملوا أرواحهم على أكفهم وخرجوا للجهاد في سبيل تحرير الوطن تاركين وراءهم عائلات وأحباب منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر، نذكرمنهم الشهيد سويداني بوجمعة نائب قائد الولاية الرابعة، الشهيد خليفة ختلة و الشهيد الطاهر دحمون قائدا معركة مرمورة، الشهيد زغدودي علي قائد معركة أم النسور، الشهيد عثمان مدور قائد ناحية ايدوغ عنابة، الشهيد بوعاتي محمود، الشهيد طابوش عبد الرحمان، الشهيد عمار شطيبي، الشهيد الفدائي بن بروق الهاشمي ….الخ، الى جانب الشهداء الابرار عرفت قالمة بمجاهديها الاشاوس من بينهم المجاهد هواري بومدين   الذي تولى رئاسة هيئة الأركان العامة وهو أعلى منصب عسكري في الثورة وأصبح فيما بعد رئيسا للجزائر، المجاهد صالح بوبنيدر قائد الولاية التاريخية الثانية، المجاهد بو دربالة الطاهر قيادي بالولاية التاريخية الثانية، المجاهد عبد المجيد كحل الراس قيادي بالولاية التاريخية الثانية وغيرهم من  من الشهداء الابرار والمجاهدين الاخيار .

من خلال هذا العرض المختصر لتاريخ قالمة المعاصر والمليء بالبطولات والتضحيات تأتي فكرة أن قالمة كانت من بين الولايات الاولى التي أنشيء بها متحف للمجاهد سنة 1996 ملحق بالمتحف الوطني للمجاهد  كما أسلفت، ليلحق سنة 2010 بالمتحف الجهوي للمجاهد بولاية سكيكدة تنفيذا للمرسوم رقم 08/170 المؤرخ في 11 جوان 2008 يتضمن انشاء متاحف جهوية للمجاهد وتنظيمها وسيرها الى غاية صدور مرسوم تنفيذي سنة 2017 تحت رقم 17/203 مؤرخ في 22 جوان 2017 يعدل ويتمم المرسوم السابق وأصبح مذاك متحفا ولائيا للمجاهد .

تتمثل مهمة المتحف وأهدافه فضلا عن الهدف العام والاسمى و هو صون و اثراء الذاكرة الوطنية  فيما يأتي :

– جمع وجرد  الوثائق والشهادات والاشياء والاعمال والاثار المرتبطة بفترة المقاومة الشعبية والحركة الوطنية و الثورة التحريرية وعرضها على الجمهور .

– حفظ وترميم كل ما يجمعه المتحف وفق مقاييس علمية لصيانتها وأمنها .

– جمع المراجع وتبادل المعلومات العلمية والتقنية المرتبطة بأهدافها .

– المساهمة في كتابة وتوثيق تاريخ الولاية .

– جعل المتحف مكانا يستقطب جميع الفئات وغرس الروح والوعي الوطني لدى االشباب باعداد الانشطة المختلفة كالندوات التاريخية والثقافية والنقاشات العامة والمسابقات الفكرية والمحاضرات والملتقيات والايام الدراسية المرتبطة بأهدافه .

– تنظيم معارض وعروض لاشرطة سمعية بصرية  داخل وخارج المتحف موجهة للجمهور بمختلف فئاته ومستوياته وعبر تراب الولاية وبالخصوص مناطق الظل .

– المساهمة في تسجيل الشهادات الحية المرتبطة بموضوع انشائها لا سيما شهادات المجاهدين وصانعي الملحمة النوفمبرية .

– وضع المكتبة التاريخية تحت تصرف الطلبة والباحثين وعموم القراء ممن تستهويهم المطالعة وحب البحث .

– المساهمة في الحركة الاقتصادية للولاية من خلال الترويج للسياحة التاريخية التي تزخر بها الولاية.

– نشر المعلومات عن طريق المطبوعات والمجلات والكتيبات والمطويات والوسائط الالكترونية المختلفة .

هذه على وجه العموم أهم وظائف وأهداف متحف المجاهد لولاية قالمة أما عن اللقى والوثائق والشهادات التاريخية التي نجح المتحف في جمعها طوال السنوات الماضية ومدى أهمية هذه اللقى في كتابة تاريخ  الثورة فسيكون موضوع المقال القادم انشاء الله.

 

شارك على :
المحور العربي © كل الحقوق محفوظة 2023