كيف ستحافظ مصر على أمنها المائي بين لا مبالاة السودان وتلاعب أثيوبيا؟؟

د.اسامه اسماعيل |

اختار وزير الخارجية الجديد مايك بومبيو زيارة الشرق الأوسط الأسبوع الماضي وذلك بعد ساعات قليلة من تعيينه، ولم يتوقف في مصر. لكن الشرق الأوسط الذي تهدف إدارة ترامب إلى استقراره، لن يتحقق إذا انخرطت مصر في حرب مع جيرانها الجنوبيين. فمنذ سنوات، تواجه مصر والسودان وإثيوبيا مشكلة إقليمية تحتاج إلى وسيط دولي. لا سيّما في الوقت الذي شرعت فيه الجهات الإقليمية (تركيا) في استخدام هذا الصراع لممارسة الضغوطات على مصر، عن طريق إقامة مواقع تجارية وعسكرية على سواحل السودان وجيبوتي المجاورتين. وإن غياب الولايات المتحدة لن يسهّل فوز الجهات الأخرى مثل روسيا بمعركة دولية أخرى لتوسيع وجودها وقوتها في الشرق الأوسط في إفريقيا فحسب، بل سيؤثر أيضًا على التجارة الدولية بشكل كبير، وستجد الولايات المتحدة نفسها وسط حرب بين حلفائها. لذا، يجب استخدام النجاح الذي حققته الولايات المتحدة في الوساطة التي قامت بها بهدف جمع قادة كوريا الشمالية والجنوبية قبل أن نستيقظ على خبر قصف مصر لإثيوبيا.

هل يمكن للنظام المصري تحمل أزمة مياه؟

في نيسان/أبريل 2013، طلبت حركة تحمل اسم “التمرد” من المصريين التوقيع على استمارات لإنهاء حكم الرئيس محمد مرسي. ومن بين الأسباب العديدة، كانت معاناة المصريين اليومية بسبب الافتقار إلى الخدمات الحكومية ولا سيّما الأمن والكهرباء، والظلمة التي حلّت على المستشفيات والمدارس والمصانع والمنازل. ولم تكد تمر ثلاثة أشهر حتى أصبحت الحركة تتبوأ الدور الرائد في إنهاء حكم الإخوان المسلمين. وقد كان من الصعب جدًا توقع خروج المصريين إلى الشوارع للتظاهر ولا سيّما مع احتمال أن تقوم الحركات الإسلامية السياسية بأعمال العنف. ومع ذلك، نزل المتظاهرون إلى الشارع، وتبعتهم الدبابات وسقط حكم الجماعة

لا يمكن مقارنة أزمة المياه بأي أزمات أخرى واجهت المجتمع المصري خلال حكم الإخوان. فإن أصغر أزمة مياه في مصر لا تشكّل مصدرًا لعدم استقرار خطير في أكبر دولة في الشرق الأوسط فحسب، بل تشكّل حركة اجتماعية وحشية لا يمكن لأي نظام، مهما كان قويًا أو عدوانيًا، أن يوقفها.

انعدام الثقة في المفاوضات 

لم تسفر سبع سنوات من المفاوضات الشاقة بين مصر وإثيوبيا والسودان عن اتفاق. أو حتى تقارب وجهات نظر الدول الثلاث. ويبدو كأن الصمت الذي كان ميزة المفاوضين قد انكسر ولاحت مظاهر القلق في كافة أرجاء القاهرة.

لقد بدأت مفاوضات الجولة الثامنة عشرة قبل سبع سنوات، وكانت مصر مسؤولة وصبورة، وكانت إثيوبيا تتّسم بالغموض والمماطلة، أمّا السودان فقد تأرجحت بين استخدام السد الإثيوبي كأداة للضغط على مصر أو الإذعان لوجهة نظر جارتها الشمالية. في الآونة الأخيرة، خاصة وان تلك التوترات قد بدأت في زعزعة استقرار القاهرة.

بدأت الأحداث في عام 2001 عندما أعلنت الحكومة الإثيوبية “الاستراتيجية الوطنية المياه” لاستغلال مياه أنهارها الدولية. فدخلت مصر وإثيوبيا المفاوضات حتى عام 2008 واتفقتا على شكل وتفاصيل السد، لكن إثيوبيا لم تبدأ بالبناء حتى نيسان/أبريل 2011 مستفيدة من اندلاع الثورة والوضع الداخلي لمصر. في أيار/مايو 2011، اجتمع رئيس وزراء مصر ونظيره الإثيوبي لبدء المفاوضات مجددا بغية التوصل إلى اتفاق. وقد وافقت مصر وإثيوبيا والسودان على تشكيل لجنة من الخبراء الدوليين بالإضافة إلى خبراء محليين لدراسة هيكل السدّ وأمانه والآثار المحتملة التي قد تترتب عنه. وخلصت اللجنة (التي كان من المفترض أن تنهي عملها في غضون ستة أشهر، إلاّ أنها استغرقت عامًا ونصف) إلى أن السد تشوبه مشاكل متنوعة في هيكله وأمانه. وواصلت إثيوبيا البناء بدون دليل على التزامها بتوصية اللجنة.

ثم دخلت إثيوبيا الجولة الثانية من المفاوضات بشرط جديد، وهو “تشكيل لجنة من الخبراء المحليين، على أن تكون توصياتها غير ملزمة، ولكن ينبغي احترامها”. جعلت أثيوبيا مسؤوليات اللجنة تقتصر على السعة التخزينية للسد ووافقت مصر. في عام 2015، دخلت الدول الثلاث في مرحلة جيدة للتفاوض من خلال التوقيع على اتفاق “إعلان المبادئ” في خرطوم الذي اتفقوا فيه للمرة الأولى على أن تقوم إثيوبيا بتنفيذ توصيات لجنة الخبراء الدولية والاعتماد على الدراسات الخاصة باللجنة الثانية كخطوط إرشادية وقواعد للملء الأول والتشغيل السنوي للسد. وجاء تقرير اللجنة الثانية (بعد 16 شهرًا بدلاً من 3 أشهر)، وكالعادة، قبلت مصر بالتوصية غير أن إثيوبيا رفضتها.

وفى كانون الثاني/يناير 2018، اقترحت مصر إشراك البنك الدولي كوسيط لحل النزاع حول القضايا الفنية. ولكن، رفض كل من إثيوبيا والسودان تدخل البنك الدولي. ثم أرجأت البلدان الثلاثة الاجتماع بسبب الصراع الداخلي في إثيوبيا واجتمعت في نيسان/أبريل في السودان. انتهى الاجتماع بدون التوصل إلى اتفاق. وألقت إثيوبيا اللوم على مصر، وفعلت مصر الشيء ذاته. دعت مصر السودان وإثيوبيا لعقد اجتماع آخر قبل نهاية الشهر المحدد، لكن تجاهل كلا من إثيوبيا والسودان دعوة مصر ولم يستجيبا للدعوة بالقبول أو الرفض.

مصر أمام خيار واحد في حال عدم التوصل إلى اتفاق

بالرغم من تأكيد أديس أبابا على أنّ السد لن يضرّ بمصر، إلا أنّ معظم الدراسات تشير إلى عكس ذلك. فقد أكّدت وزارة المياه المصرية على أنّ “خسارة مليار متر مكعّب من المياه ستؤثر بمليون شخص وتؤدي إلى خسارة 200 ألف هكتار من الأراضي الزراعية سنويًا”. وبالإضافة إلى ذلك، أثبتت دراسة أجرتها الجمعية الجيولوجية الأمريكية أنّ مصر ستعاني نقصًا بمعدّل 25% من حصّتها السنوية إذا امتلأ السد خلال فترة زمنية مدتها 5 إلى 7 سنوات. وأشارت الدراسة نفسها إلى وجود “خطر كبير يحدق بالدلتا المصرية” بسبب نقص المياه المحتملة، ذلك أنّ الدلتا يعلو في الأصل مترًا واحدًا عن سطح البحر. وذكر تقرير آخر أنّ ملء السد خلال ثلاث سنوات من شأنه أن “يدمّر 51% من الأراضي الزراعية في مصر”، في حين أنّ إثيوبيا “ستخسر 17% من الأراضي الزراعية” إذا امتلأ السد خلال ست سنوات. ولكن، لم تغيّر هذه الوقائع استراتيجية إثيوبيا بفرض سياسة الأمر الواقع.

يشار إلى أنّ القاهرة التي اعتادت إهمال استخدام مياهها وهدر هذه المياه بشكل كبير. فقام البرلمان المصري بتعديل قانون الزراعة ومنح وزير الزراعة الحق في “حظر زراعة بعض المحاصيل في مناطق معيّنة” وفرض عقوبات بالسجن والغرامات على المخالفين. وعلاوة على ذلك، خفّضت الحكومة معدّل زراعة الأرز إلى النصف مقارنة بالعام الماضي، وبدأت الشرطة المصرية بتوقيف المزارعين المخالفين للقانون وفرض غرامات عليهم. كما بدأ النظام المصري بتوسيع بناء محطات التحلية والإعلان عن بناء أكبر محطة لتحلية مياه البحر في العالم. وعلى الرغم من أنّ هذه السياسات ستؤدي إلى الاستخدام السليم والفعّال للمياه في بلد يعاني أصلًا نقصًا في المياه، إلا أنّ تأثيرها سيكون ضعيفًا ولن يعوض الأضرار التي قد تنجم في حال عدم التوصّل إلى اتفاق بين مصر وإثيوبيا.

وعلى الرغم من أنّ العقيدة الأساسية للنظام المصري تتمثّل في عدم الانخراط في الحروب الخارجية، إلا أنّ أزمة المياه قد تغيّر عقيدة النظام. وقد علّق السيسي بنفسه على إمكانية اندلاع الحرب مع إثيوبيا قائلًا: “إنّ الشعوب تستحقّ المال الذي قد ننفقه على الحروب”. ولكنّه أضاف في مناسبات عدّة أنّ نسبة مصر من المياه “هي مسألة حياة أو موت بالنسبة إلى المصريين” و”خطّ أحمر”. وأضاف أنّ حكومته “لن تقبل المساس بحصّتها من مياه النيل”. ومؤخراً، أعلنت جامعة الدول العربية أنها لن تقبل تقليل حصة مصر من نسبة المياه المخصصة لها.

وورد كلام السيسي في عدة تقارير أشارت إلى أنّ الحكومة المصرية أرسلت قوّات إلى قاعدة عسكرية في إريتريا. وفي شهر كانون الثاني/يناير، أعلن مطار جوبا في جنوب السودان عن إغلاق المطار بالكامل، وفتح أبوابه فقط لطائرة عسكرية مصرية تقوم بمناورات. ليس خيار ضرب السد بالجديد، فقد طلب مبارك من النظام السوداني استخدام أراضيه لضرب السد في حال عدم التوصل إلى اتفاق مع إثيوبيا. تجدر الإشارة إلى أنّ أرض مصر عُرفت منذ هيرودوتس باسم “هبة النيل”، جعلت الحكّام يدركون أنّ المصريين يتحمّلون أيّ شيء إلا نقص المياه.

لماذا يجب على الولايات المتحدة الانخراط والتوسّط بين الدول الثلاث؟

علاوة على أنّ عزلة الولايات المتحدة أعطت مساحة أكبر لجهات فاعلة أخرى (تركيا وإيران وروسيا) لاكتساب السلطة في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، فإنّ منع حرب محتملة بين حلفاء الولايات المتحدة هو دور يجب على الولايات المتحدة أن تؤديه لضمان استعادة السلام والنظام في أحد أكثر الأماكن تقلبًا في العالم. ولا يعني صراع آخر في الشرق الأوسط الجريح سوى زيادة المساحة للإرهاب وتوسّع نطاق الاضطرابات في القرن الإفريقي. وباتت المفاوضات الآن في مرحلة يشكّل فيها الانخراط الأمريكي ضرورة لمنع نشوب حرب.

أزمة المياه بين عدم الاستقرار الداخلي لمصر أو الحرب مع إثيوبيا

في عام 1969، تم إنتاج فيلم مصري بعنوان “شيء من الخوف”. تدور أحداث الفيلم حول رجل قوي يحكم قرية مصرية بالخوف وبقبضة من حديد، ويقتل فورًا من يشعر بأنّه يعارض قراراته. فقد استولى على أرضهم ومالهم وكرامتهم وعاشت القرية تحت سيطرته بدون تذمّر. ولكنّ الأمر الوحيد الذي دفع القرية إلى التحرّك كان الفتاة التي قرّرت مواجهته عندما أغلق منافذ المياه. حثّت المياه الفتاة التي حثّت بدورها القرية.  بعد مضى نصف قرن من الزمن، هناك ضرورة لتجنب هذا السيناريو المرير، الذي تفاقم بشكل كبير على المستويين الوطني والإقليمي، ولا شك أن الولايات المتحدة لديها مصلحة عاجلة في الارتقاء إلى مستوى الحدث.

 

شارك على :
المحور العربي © كل الحقوق محفوظة 2023