فيلو ـ كورونا..حسنات استعادة القدرة على الهلع!…بقلم إدريس هاني

فيلو ـ كورونا..حسنات استعادة القدرة على الهلع!…بقلم إدريس هاني

يقوم الفيروس بدوره على أكمل وجه.. الطبيعة قائمة على الموازنة.. لكنّه الإنسان، ولأنّه يمتلك خاصية التّخارج النوعي، فهو من يخرق النّظام، الرغبات في الإنسان لا حدود لها. الفيروس يفعل ما هو من شأنيته، كما سائر الكائنات، بينما الإنسان لا يفعل ما هو من شأنيته، فيطغى.. فينتشر الوباء.
الفيروس تكمن قوته في ضعفه كما يكمن ضعفه في قوته، أن تعزله خارج الجسد والخلية هو سبب كاف لانقراضه، غير أنّ الفيروس- وهذا سؤال سياسي- لا يمكن أن يستيقظ بغتة في سياق جيو- سياسي استثنائي، لسنا في زمن الأساطير، ولا أحسب أنّ للفيروس حسابات سياسية أيضاً. نحن نتحدّث عن حدود جغرافيّة للفيروس، بينما طبيعة وتكوين وأسلوب انتشار الفيروس أمر يقتضي أن يصيب العالم على قدر سواء.
ثمّة رسالة وصلت، وربما القرائن مازالت تسلك مسلك الفرضية باستحياء، أنّ حرباً جرثومية قادمة، وأنّ العالم يعيش أولى تجارب التدمير الشامل، فهل سنشهد سباقاً للتسلح الجرثومي؟
هذه قصة أخرى، وكان لا بدّ من الإغضاء عن السلاح النووي لأنّه غير مجد ومكلف جداً.. مخطئ من يعتقد أنّ السباق النووي سينتهي بتوازن الرعب.. وغداً ستسمعون أنّ اللّقاح خرج إلى الوجود من هناك لإيقاف التجربة واستعادة الصورة النمطية الضرورية «للقوة الناعمة ورسالتها الإنقاذية الخيرة».
لكن ما يَهمّ في هذه المقالة هو الحديث عن ذلك الجانب الأخطر، إنّها حالة الدهشة التي افتقدها العالم، حتى إنّه افتقد حاسة الهلع، بل حتى الحروب أنس بها وكادت تصبح من عوائد الزّمان، لكنه مع «كورونا المستجد» استعاد قدرته على الهلع، واكتشف الكثير من جيوب ضعفه أمام فيروس غير قادر على أن يصنع بمفرده غذاءه من دون أن يحشر أنفه في خلايانا، بل سيكتشف الإنسان كم هو ضعيف مقابل خفّاش يتعايش مع كورونا، فهل فتش الخبراء عن لقاح لهذا الوباء من داخل الخفافيش نفسها، فنصحح نظرتنا عن هذا الطائر الليلي حامل الأوبئة والأسرار؟
حين يفتقد الإنسان حاسة الهلع يطغى، وطغيانه مظهر من مظاهر ضعفه، فلقد تجاسر الإنسان على كلّ شيء، حتى إنه تجاسر على الإيدز، لكنه يعاني اليوم هلعاً منقطع النظير، وستكون حاجة الإنسان إلى هذا الهلع قمينة (أي جديرة) بأن تعدّل سلوكه وتفتح ملكاته على أسئلة أنطولوجية، لأنّ التساؤلات الكبرى تقدحها الحروب والأزمنة المأسوية والطاعون والوباء، الوجه الآخر الذي يَفرض تنسيب الشرور وتدبير الموقف من العالم.
ستساعدنا أزمنتنا المأسوية على تعديل السّؤال، وستمنحنا القدرة الكافية على المصالحة مع اللاّ مفكّر فيه وتدفعنا أكثر في اتجاه الانخراط في سؤال الإمكان. يضعنا تاريخ الهلع أمام منعطفات فلسفية كبرى، وهو يرسم نهايات لحقب وأنماط من التفكير، فما الذي يرمز إليه كورونا المستجد؟
من شأن هذا الفيروس الذي اجتاح مناطق عدة من العالم أن يشكل نهاية مرحلة زهو الـ(Homo oeconomicus) نهاية تاريخ أيديولوجيا الاستهلاك بمدلوله السوسيو- هوسي الذي ساهم في ضمور السؤال الأنطولوجي من حياة البشر. سيلعب الهلع دور المحفّز، بل سينتهي إلى تقويض الرّفاهية والدخول في عالم الهاربين من ظلالهم، فلقد انتهى كورونا بعزل العالم، وسيعيدنا هذا إلى أنماط العزل التي تسبب فيها الطاعون في قرون خلت، حضارات انقرضت، وستنتهي أنماط الاستهلاك الجديدة بنشأة ما ليس متوقّعاً من الجراثيم المُعدّلة والتي ستمنحها البيئة الاستهلاكية للإنسان قدرة فائقة على التكيّف والتحدّي، ومن ناحية أخرى، سيضعنا الاستهلاك وأنماطه أمام ثأر الطبيعة.
الهلع وحده قادر على محق العدمية، والرفع من الشعور بالمسؤولية تجاه العالم، بل التذكير بمنسيّ الأسئلة التي تجاهلتها أنماط الاستهلاك لإنسان جعلته من شقاوة الاستهلاك المفرط للاّمعنى المادي والرمزي خفّاشاً هارباً من شمس السؤال الوجودي. هذا الكائن الذي فعل كل شيء ليجعل من حضارته مغامرة في قعر الظلام، سيجد نفسه يتقارع مع الخفافيش التي اخترق مجال وظيفتها، لم يأت «كورونا المستجد» من الحيوان/الخفّاش، بل من الإنسان/الخفاش الذي نازعها اختصاصها.
وعليه، فالوصفة هنا تتجاوز اللّقاح، فالجسد البشري يملك هو الآخر من ناحية «حيوانيته» الكثير من فرص التكيف والتّحدّي، لكن أيديولوجيا وأنماط حياته تضعفه، وسيبقى اللقاح الأساس هنا: ماذا عن السّؤال الذي يُخرج الإحساس بالوجود من حالة التجاهل، كما يُخرج الإنسان من الارتهان لمقاييس الكائن القياسي، متى بالأحرى يكتشف الإنسان الخيط الرفيع لإنسانيته المفقودة وسط صخب الأنماط حيث كلّ شيء فقد معناه حتى أصبحت مشكلتنا الكونية هي رفع تحدّي الخفافيش وما تنطوي عليه من فيروسات وازنة.

*كاتب من المغرب

 

 

شارك على :
المحور العربي © كل الحقوق محفوظة 2023