في تونس محاربة الفساد أولى من إتّباع الأوهام…بقلم محمد الرصافي المقداد

في تونس محاربة الفساد أولى من إتّباع الأوهام…بقلم محمد الرصافي المقداد

 

بقطع النظر عما أسفر عليه الإضراب العام بالبلاد، من نجاح تام، أو نجاح نسبي، أو فشل، فذلك في نظري مزايدة من أيّ طرف كان، وادّعاء بلا دليل – والنسب التي ذكرت هي من باب الدعاية فقط – وإن الذي يجب أن يؤخذ بعين الإعتبار وبتعقل كبير، النظر فيما إذا كان توقيته مناسبا؟ وهل حقق نتائجه التي يتوقّعها الدّعاة إليه، وقد اختلفت غايات أنسِجَتِه الدافعة إليه،  من إتحاد شغل، وجبهة لأحزاب معارضة تعلقت به، ليكون وسيلة ضغط على الرئيس وحكومته، وفرصة سانحة أتيحت لهم جميعا، ليعبّروا من خلالها على مدى شعبيّتهم في مواجهة قرارات الدولة، التي وصفوها بالحركة الإنقلابية؟

ولعل المتابع للشأن الداخلي للبلاد، وما تمخض عن حركة الرئيس قيس سعيد، التي أعلنها يوم 25 جويلية، بقطع النظر عن اختلاف الآراء بشأنها، هل هي إصلاحية حقيقة أم انقلابية؟ يدرك جيدا أن الوضع السياسي في البلاد بعد عشرية الثورة، يجب أن تقع مراجعته كاملا، والنظر فيه بتعقل ورويّة، من أجل الخروج بحل ينقذ البلاد من عبثية، بدت ظاهرة على نظام حكم برلماني جديد، أثبت بالأدلة الملموسة فشله الذريع، زاد من تعميق الشعور الشعبي المتزايد، بأنه لم يخرج من كون البلاد ضحيّة نظام حكم جديد، تتحرك مكوناته في شكل تحالفات وتفاهمات حزبية ضيّقة الآفاق، قد قدّمت مصالحها الذّاتية على مصالح البلاد، ولم يقدم البرلمان للشعب سوى التهريج والفوضى، وقد سئم الشعب تلك الجلسات وما حصل فيها، ولم تعقب فيه مشاهدها سوى الألم والحزن، على وضع سياسي خطير وصلته تونس، عن طريق برلمانيين أداروا ظهورهم للوطن، ليمضوا جلساتهم في مشاهد سخيفة، نتج عنها تعطيل مصالح البلاد.

ما يجب أن يدرِكه شعبنا اليوم قبل فوات الأوان، أنّ بلادنا قد مرّت بستينية سابقة حكمها رئيسان فاسدان، الأول عميل خبيث لفرنسا بكامل اثباتاته التي أُخْفِيتْ عنّا، ومع ذلك سَوَّق نفسه للشعب على أنّه المجاهد الأكبر، وفي المقابل وجّه إهانة إلى المقاومين الشرفاء بتلقيبهم (فلاقة)، تماما كما لقبهم بها الإستعمار الفرنسي، وأعجب ممن كان يعتبره عميلا ودكتاتوريا ظالما غشوما، متعدّيا حتى على الإسلام ونبيّه الأكرم(ص)، كيف استرجع موقفه في هذه العشرية التعيسة، ليعتبره زعيما لحركة وطنية، هو بنفسه من صفى زعماءها، وتخلّص منهم بمساعدة الإستعمار الفرنسي.

إذا نحن أما جبل عظيم من الفساد الشامل جاثم على مقدّرات البلاد، تراكم طوال عشرات سنين أعقبت استقلالا صوريّا- بقينا فيه تحت كلكل فرنسا الإستعمارية- انطلت حيلته على أجيالنا السابقة، زاده الطين بلّة العشرية الأخيرة التي مررنا بها، وكُنّا نأمل أن تُطوى صفحاته المتراكمة بعضها فوق بعض، ولا يزال تأثيرها قائما بما أسفرت عليه من نتائج سيئة، مع المتراكم الجديد الذي خلّفته العشرية الأخيرة، لتبقى بلادنا في نفس المستنقع الآسن، وكنّا نأمل ما بعد 14/1/2011 إصلاح ما افسده عملاء فرنسا وتُبّعهم، إذ ليس بعد الثورة وانتصارها، سوى طيّ صفحات الفساد ومحاسبة الفاسدين، مهما بلغوا في عتوّهم مبلغ التحصّن به، وليس العكس، ببقاء دار لقمان على حالها، يرتع فيها الفاسدون كما يحلو لهم.

وجاءنا رئيس اخترناه بيقين إيمانا منّا بنظافته ووطنيّته – من حسن حظّنا – على رجل أقلّ ما يقال فيه أنه ما فيوزي وقد لقّب بذلك، وهو جدير به لقبا لخّص شخصيته وأعماله الماكرة، ناهيك أن من تحالف معه من الإسلاميين، ممثلين في حركة النهضة، كان من قبل يصفه بالفاسد، وهذا دليل على أن هذه الحركة تنكرت لنضالها، وخرجت عن مبادئها التي قامت من أجلها، لتخبط خبط عشواء، من أجل أن تبقى عناصرها حاكمة في السلطة، ولا يهم ما سيسفر ذلك من نتائج ولو كانت عكسية، وهو ما دعا شرفاءها على تقديم استقالاتهم وإعلان انسحابهم منها.

وإن لم تُسعِف جائحة كوفيد 19 هذا الرئيس، الذي لم يكن محظوظا في خيارات من سيساعده على تحمّل مسؤولية الأمانة في محاربة الفساد، فخذلوه وعملوا على الإنقلاب عليه، آخرهم رئيس الحكومة (المشيشي)، مما أفقده الثقة في من سيعاضده في التصدّي للفاسدين وكشف مخططاتهم، وأنس أخيرا في امرأة كانت محل ثقته التي انعدمت في غيرها من الرجال، وهذا ما أرجّحه من موقف اتخذه الرئيس، بشأن إصلاحاته الدستورية والإجرائية، فليس المصلح كالمفسد، ولا الطيّب كالخبيث، وسياسيو الغنيمة والانتهاز، قد اجتمعوا على استخلاص الفائدة لأنفسهم على حساب البلاد.

تحالف جبهة معارضة الرئيس، زادتها حماقة الهيئة الإدارية للإتحاد العام التونسي للشغل، بإعلان إضراب عام يوم الخميس 16/6/2022، يبدو أنه لم يكن شاملا وناحجا، بنسبة عالية كما صرح بذلك الامين العام للإتحاد – ولست أدري من اين جاء بها بمثل الدقة التي تحدث بها 96.22%- فهناك نسبة معتبرة امتنعت عن الاستجابة، وسجلت حضورها في مواطن شغلها، رافضة إملاءات بدت لها سياسية صرفة لا علاقة لها بالمطالب الاجتماعية، والعجب كل العجب في اضراب الخطوط الجوية التونسية تلك النّاقلة التي سجلت أعلى نسبة خسارة وما سيستتبعه من خسائر إضافية أخرى، ستتكبّدها من جرّاء هذا الاضراب، مما يزيد من أزمتها المالية الخانقة، دون مراعاة ظروفها الحرجة، وهذا من عمى الأنفس وفقدان الوازع الوطني في مكونها الإطاري.

ولولا هوى الأنفس المريضة، وتوق بعضها إلى تنسّم كرسي الرئاسة، بدلا عن الرئيس الحالي، وهم لا يملكون شعبية تؤهلهم لذلك، لقرأت إجراءات الرئيس قيس قراءة واقعية متأنّية، ملتمسة له الأعذار، بدلا من مهاجمته بإصرار واستماتة، ووصفه بالانقلابي والعائد بالبلاد إلى دكتاتورية جديدة، ومن هنا أدعو من أفرط به الحال في تجنّيه على الرئيس أن يلتمس له العذر فيما اتخذه من قرارات، إن كان وطنيا وتهمّه بلاده في أعسر فترات عمرها، فليست محاربة الفساد مسألة سهلة بعدما تمكن الفساد من جميع مرافقها، ولا يمكن لمن تورّط في لوبياته أن يبقى مكتوف الأيدي، بل سيواجه اجراءات قيس سعيد بكل ما لديه من قوة ودهاء، لتأليب الشعب عليه، وحيل المفسدين في الأرض، وفي مقدمتهم عديد القضاة الذين مسكوا عليهم ملفات فساد عديدة، تراوحت بين التستّر على الإهابيين والفاسدين، والإرتشاء والإستثراء الغير مشروع، وإن عجبت فاعجب من هؤلاء الذين يدّعون الثورية والنزاهة، كيف يدافعون عن قضاة متورطين بملفاتهم، معتبرين قرارات الرئيس الصادرة بحقهم، مساسا من استقلالية القضاء، ومحاولة لتدجينه، لكن لمصلحة من؟

اتحاد الفساد لضرب مشروع الرئيس قيس، سيجابهه أحرار وشرفاء هذا الشعب، بكل ما أوتوا من قوة منطق ووعي، ولن يسمحوا لمحاولاته البائسة، بالنفاذ في عزمه الراسخ على مواصلة محاربة الفساد، حتى ينقشع عن البلاد والعباد، وهذا ما نأمل فهمه من كل وطني غيور، على سلامة دولته من الخضوع للخارج، والمساومة على مسار يجب أن يسلك منذ البداية، وليس بعد عشر سنوات عجاف مرّت من عمر بلادنا العزيزة.

شارك على :
المحور العربي © كل الحقوق محفوظة 2023