في ذكرى اندلاع الثورة التحريرية الجزائرية الـ 66 …”نحن ثرنا فحياة أو ممات”  (الجزء الثاني والاخير)

في ذكرى اندلاع الثورة التحريرية الجزائرية الـ 66 …”نحن ثرنا فحياة أو ممات”  (الجزء الثاني والاخير)

بقلم: شـعبـان يـاسـيـن  – كاتب من الجزائرومدير متحف المجاهد لولاية قالمة |

الثورة الجزائرية قصة كفاح لشعب ثار وحقق الأمجاد، ولعلّ لهذا النصر العظيم ملامح مميزة، جعلت ثورة التحرير هي درّة ثورات القرن العشرين، رغم البشاعة التي تعرض لها الثوار على مدار سنوات الاحتلال والنار ، وهو ما عبر عنه المجاهد الذبيح الصاعد في مواجهة موت محقق “إنّني مبتهج بأن أكون أوّل من يصعد إلى المقصلة، فبنا أو بدوننا ستحيا الجزائر، ليس من عاداتنا أن نطلب بل من عاداتنا أن ننتزع، وسننتزع منكم حريتنا عاجلاً أم آجلاً”، هذه كانت كلمات الشهيد الجزائري “أحمد زبانة”، حيث تعتبر الثورة الجزائرية أحد أقسى وأعنف  ثورات القرن العشرين، وأكثرها دموية، وذلك بسبب ما ارتكبته فرنسا من مجازر وحشية وإبادة ممنهجة بحق الشعب الجزائري

فقد تدعمت صفوف جيش و جبهة التحرير الوطني بانضمام الطلبة والعمال، فقامت النقابة (الاتحاد العام للعمال الجزائريين) التي أُنشئت في فيفري1956 بعدة إضرابات وطنية مساندة للثورة التحريرية ، كما نظم الطلبة في جانفي 1956 نصف شهر تضامني ضد القهر والاضطهاد، وفي مؤتمر الاتحاد العام للطلبة المسلمين الجزائريين تمت المطالبة بالاستقلال، وفي 19 ماي دعا الاتحاد إلى إضراب عام غير محدود، وذلك بمقاطعة الدروس والامتحانات ودعوة الطلبة للالتحاق بصفوف جيش التحرير الوطني، ومن جهة أخرى ازدادت حدة المواجهات العسكرية سنة 1956، مثل عمليات الأخضرية بقيادة علي خوجة (فيفري،مارس)، وهو ماحدث في منطقة قسنطينة مع بداية الهجمات في منطقة وهران.

ابتداءً من مارس 1956 كان من الضروري إيجاد تنسيق شامل بين مختلف قيادات المناطق، وذلك من أجل وضع منهج استراتيجي موحد وقيادة سياسية وعسكرية وطنية، حيث تجسد هذا المنهج بإنشاء المنطقة الثانية ومنطقة الجزائر بقيادة زيغود يوسف وعبان رمضان، تم اجتماع قيادة الست مناطق باستثناء قائد المنطقة الأولى بن بوالعيد الذي استشهد في إحدى المعارك، وكذا غياب الممثلين المقيمين في الخارج، وعُرف هذا الاجتماع باسم مؤتمر الصومام (20أوت 1956) وفيه اتُخذت عدة قرارات مهمة، منها إنشاء لجنة التنسيق والتنفيذ، وكذا تقسيم المناطق التي أصبحت ولايات، وتنظيم عسكري دقيق، كما تم اعتماد مبادئ مهمة، أولوية السياسي على العسكري والقيادة الداخلية على القيادة الخارجية، ومن جهة أخرى تم تحديد الأهداف الآنية وهي: مواصلة العمل المسلح بكل شراسة والتزود بالأسلحة والتجنيد العام، هذه القرارات المهمة اعترف بها أغلبية المسؤولين، ومن ثم عُممت على الجميع. إن توحيد قيادة الثورة زاد من حدة المعارك والمواجهات، وإضراب الثمانية أيام (28جانفي إلى 4 فيفري1957) الذي مس الجزائر العاصمة وكبرى الولايات الجزائرية حتى الفرنسية منها، أظهر مدى إرادة المقاومة لدى العمال الجزائريين، وفي المدة نفسها شهدت الجزائر عدة عمليات بالقنابل، مما أشاع الرعب في أوساط المستوطنين الأوربيين بالجزائر.

ولقد استعمل الجيش الفرنسي أعنف الوسائل كالاعتقال وتحطيم المحلات التجارية والتعذيب والاغتيالات من أجل كسر وتعطيل الإضراب والوقوف في وجه الفدائيين، هذا ما سُمي بمعركة الجزائر، كان القمع الفرنسي وحشياً، مما أساء بصفة كبيرة مباشرة إلى الشرطة والجيش الفرنسيين لدى أوساط الرأي العام العالمي، إذ قتل الكثير من الجزائريين، وكذا سجل الآلاف من المفقودين والمعتقلين في السجون ومراكز الاعتقال، والتحق الكثير من الجزائريين بالجبال.

وفي الخارج فتحت فيدرالية جبهة التحرير بفرنسا جبهة ثانية، وحدد الهجوم بتاريخ 25أوت 1957، مهاجمة مراكز الشرطة، حرق مستودعات النفط ، تخريب معامل التكرير، وكانت حصيلة هذه المعركة التي دامت بضعة أسابيع تنفيذ 242هجوماً ضد 181هدفاً و56عملية تخريب نقلت الحرب إلى الأراضي الفرنسية.

وفي داخل البلاد تضاعف نشاط القتال في الجبال ومواقع أخرى، وعلى وجه الخصوص بالجنوب حيث فتحت في نهاية سنة 1957 جبهة صحراوية، وقد تعددت الصعوبات بالداخل: مناطق لاتعترف بسلطة اللجنة المركزية للتنسيق والتنفيذ، مواجهات بين المسؤولين، اعتراض بعض المجموعات من المناضلين والتحريض ضد المقاومة الذي كانت تشجعه فرنسا.

عملت اللجنة المركزية للتنسيق والتنفيذ على تحسين تنظيمها، وإنشاء قطاعات وزارية وتوزيع المهام على أعضائها، فاجتمع المجلس الوطني للثورة الجزائرية في شهر أوت 1957 ورفع عدد أعضائه إلى 54، وعدد اللجنة المركزية للتنفيذ إلى 9، وقام بتعديل بعض قرارات مؤتمر الصومام فلم يعد هناك أولوية السياسي على العسكري ولافرق بين مسؤولي الداخل والخارج، وفي أفريل 1958 وحدت لجنة التنسيق والتنفيذ القيادة العسكرية وجعلت على رأس الثورة حكومة مؤقتة للجمهورية الجزائرية برئاسة فرحات عباس (18سبتمبر 1958).

اعترف بالحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية الكثيرُ من الحكومات من بينها حكومات البلدان العربية، وسمح لها هذا الاعترف بشراء الأسلحة بسهولة أكبر وإنشاء قيادة للأركان، يترأسها هواري بومدين، والتغلب على المحاولات الداخلية التي هدفت لضرب استقرارها والتأكيد في أول تصريح لها أنها «مستعدة للتفاوض مع الحكومة الفرنسية».

في الداخل لم تتمكن الإجراءات التعسفية الفرنسية لتجميع وإدارة السكان عن طريق مايقرب من سبعمئة مكتب إداري خاص، وإنشاء مناطق محرمة والتظاهرات الفرنسية بتاريخ 13ماي 1958 والتصريحات الأولى ومحاولات المحادثات المحلية التي قام بها الجنرال دوغول من تخفيف وتيرة الحرب، فمقاومة المجاهدين على الرغم من الأوضاع الصعبة ماتزال ملتهبة، ومع أن الحواجز على طول الحدود التونسية والمغربية قللت من وصول الأسلحة، إلا أن المعارك التي وقعت (جانفي – ماي 1958) أظهرت قدرات الجيش الجزائري الذي قام بعدة هجمات ونجح في عمليات عبور عدة للحدود، وإيصال الأسلحة إلى مناطق المقاومة بالداخل، مع الخسائر الكبيرة في صفوفه.

في عام 1959، كلف دوغول الجنرال شال بأن يقضي على مقاومة مجاهدي الداخل، فكان مخطط شال بمختلف عملياته، ومنها تلك التي تمت ضد منطقتي القبائل والأوراس من أكثر المخططات وحشية، إذ جعل مقاومة المجاهدين وبقاءهم على قيد الحياة غير ممكن تقريباً، فقد تم نقل أكثر من مليون جزائري إلى المعسكرات وتم طرد آلاف اللاجئين من مساكنهم ووضعهم في مناطق مسالمة دون حساب آلاف الموتى، ومع كل هذا تواصلت العمليات العسكرية لجيش التحرير الوطني، ولم تطالب الحكومة المؤقتة بوقف إطلاق النار، تعززت الثورة بفضل جيش الحدود وتحسن تنظيم وزارة الحرب والاتصالات العامة، وكذلك بفضل النشاط الدبلوماسي للحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية.

سمحت مجموعات اللاجئين المتواجدة خارج الوطن بتشكيل قواعد سريعة الحركة وباقتناء السلاح والذخيرة، في جانفي 1960، تشكلت قيادة الأركان برئاسة هواري بومدين، وكانت تهدف إلى مواجهة الخطوط المكهربة للحدود، والهجوم على المراكز الفرنسية، وفتح ثغرات تسمح لوحدات صغيرة بالمرور عبرها، وتجميد العدو، مما تطلب إعادة تنظيم جيش الحدود على شكل فيالق وكتائب قتالية خفيفة مسلحة ببطاريات، وقد سمح تجنيد عدد كبير من اللاجئين بإنشاء عدة مراكز للتدريب، وفتح جبهات جديدة في أقصى الجنوب الشرقي مع ليبيا ومالي، وبذلك أصبح جيش الحدود جيشاً تقليدياً وعصرياً، مما اضطر القوات الفرنسية إلى التمركز على الحدود وبالتالي خُفف على ولايات الداخل.

تم إنشاء وزارة الحرب والاتصالات العامة من طرف «بوصوف» وكان مجال عملها متنوعاً، شمل التسليح والاستخبارات والربط والاتصال والأمن والبث الإذاعي وغيرها، هذه المجالات جعلت من مسؤولها شخصية قوية، وقامت الوزارة بشراء أسلحة من العراق وسورية والأردن ومصر وأيضاً من تشيكوسلوفاكيا (سابقاً) ويوغسلافيا (سابقاً)، وأنشأ قائدها ورشات لصناعة الأسلحة وتصليحها بالمغرب، واهتم كذلك بتكوين أطر في مختلف المجالات، وأصبحت الاستخبارات إحدى الأنشطة الأساسية لهذه الوزارة، وتتمثل في معرفة نوايا الحكومة الفرنسية وجيشها، ومتابعة الوضعية النفسية للمواطنين عن طريق الدعاية والإعلام، وتحضير الملفات لمفاوضات مقبلة.

أدت الصعوبات العسكرية إلى البحث عن مساعدات من قبل الدول الصديقة والشقيقة، ومع بعض التردد لدى الحكومتين التونسية والمغربية الحريصتين على استقلالهما وإمكانية الحصول على تنازلات أكثر من فرنسا فإن تونس والمغرب استقبلتا عدداً كبيراً من اللاجئين الجزائريين، ووقعتا عدة اتفاقات مع الحكومة المؤقتة عززت تضامن شعوب هذين البلدين مع الجزائر، لقد كانت مصر الدولة الأولى التي استقبلت لاجئين سياسيين وطنيين وبعد ذلك قادة جبهة التحرير الوطني، أنشأت الحكومة المؤقتة جواً من الثقة مع مختلف الدول العربية التي ساعدتها مادياً ومعنوياً على مستوى منظمة الأمم المتحدة، وانتقلت بعثات جزائرية إلى دول إفريقيا لربط تحالف مع الدول التي تناضل ضد الاستعمار الجديد.

كما توجهت وفود الجبهة إلى إندونيسيا وماليزيا وسري لانكا ووفود أخرى إلى الصين وإلى الاتحاد السوڤييتي (سابقاً) وكل هذه الوفود وجدت ترحاباً كبيراً من طرف حكومات هذه البلدان وشعوبها، كما أبرمت اتفاقيات مع تشيكوسلوفاكيا وبلغاريا ويوغسلافيا وعززت البعثات الإعلامية الحملات الدعائية الموجهة للرأي العام في أمريكا الجنوبية والولايات المتحدة والبلدان الأوربية، وكان للمظاهرات الشعبية في المدن الجزائرية في شهر ديسمبر1960 دور مهم في ترسيخ وتقوية جيش الحدود وتعزيز النشاطات المختلفة التي كانت تقوم بها وزارة التسليح، أضف إلى الجهود الدبلوماسية للحكومة المؤقتة، وهكذا قام الجزائريون في 10-11ديسمبر1960بمظاهرات كبيرة في مدينة الجزائر للرد على استفزازات المستوطنين الأوربيين (الأقدام السوداء) رافعين أعلاماً جزائرية ومرددين شعارات وطنية، وقامت مدن أخرى عبر التراب الجزائري بمثل هذه المظاهرات وكان لها صدى كبير في الجزائر وفي فرنسا وفي الأمم المتحدة التي التفتت إلى هذه الصيحات، ولأول مرة عبرت الأمم المتحدة عن مساندتها للقضية الجزائرية، كما جاءت مساندات أخرى من طرف عدد كبير من البلدان، وبهذا وعلى الرغم من القمع والصعوبات الأخرى، فإن الجماهير الشعبية جددت تأييدها للثورة الجزائرية.

إن المقاومة المستمرة للشعب الجزائري وصمود المجاهدين وإخفاق الحملات العسكرية الاستعمارية، وإخفاق جميع الإجراءات السياسية الفرنسية وتعاطف عدد كبير من البلدان مع الجزائر، كانت كلها العوامل الأساسية التي مهدت الطريق لإجراء مفاوضات بين الجزائر وفرنسا، ولقد كانت هذه المفاوضات شاقة وبطيئة.

ومع مجيء دوغول أصبحت هذه المفاوضات جدية بعد أن أخفق الأخير في تطبيق سياسته المسماة «سلم الشجعان» التي حاول بوساطتها الاتصال بالمسؤولين المحليين لجبهة التحرير الوطني، وكذلك بعد إخفاق «خطة شال» العسكرية أو مايسمى بخطة قسنطينة أو بالإفراج عن المساجين، وقد وافق دوغول على مبدأ تقرير المصير وتمت المصادقة عليه من طرف الشعب الفرنسي بواسطة الاستفتاء وعبر الرئيس بن خدة من جهته عن موافقته على إجراء المفاوضات في إطار الاستقلال، وانتهت المفاوضات بإبرام اتفاقية أفيان في 18مارس 1962 والتوقيع عليها من طرف كريم بلقاسم رئيس الوفد المفاوض، وفي اليوم التالي أعلن الرئيس بن خدة وقف القتال، وهكذا تمكن الجزائريون من نيل حقهم في تقرير مصيرهم السياسي وتأسيس دولة مستقلة، لقد نصت الاتفاقيات على الإجراءات التطبيقية لوقف القتال وعلى الضمانات لتقرير المصير وعلى خصوصيات الاستقلال يعني السيادة الكاملة في الداخل والخارج وفي جميع الميادين وخاصة الدفاع الوطني والشؤون الخارجية.

وقد عرفت الجزائر صعوبات في المرحلة الانتقالية مابين وقف القتال وتأسيس الحكومة الأولى للجزائر المستقلة (صراعات في اجتماعات المجلس الوطني، الثورة الجزائرية في طرابلس، وعمليات عنيفة مسلحة داخل الجزائر وعمليات اغتيال عدة قامت بها منظمة الجيش السري الفرنسية التي طبقت سياسة الأرض المحروقة وطلبت من جميع الأوربيين مغادرة الجزائر إلى فرنسا)، وفي 2جويلية 1962 أُجري الاستفتاء العام وكانت نتيجته الموافقة على استقلال الجزائر بأغلبية ساحقة.

وهكذا تحققت الأهداف التي كانت ترمي إليها ثورة الأول من نوفمبر، يعني تتويج كفاح الشعب وتحقيق آماله بجزائر مستقلة ذات سيادة كاملة على جميع التراب الجزائري، وكان هذا النصر بفضل صمود جيش التحرير الوطني وتضحيات الشعب الجزائري.

 

صور لبعض شهداء الثورة الجزائرية بولاية قالمة شرق الجزائر

 

صورة لفرحة الاستقلال بالجزائر .

 

 

 

 

 

 

شارك على :
المحور العربي © كل الحقوق محفوظة 2023