“في عهد السادات الغناء…بالأمر”: “أغنيات السلام المنسيّة” بعد 40 عام على “كامب ديفيد”

“في عهد السادات الغناء…بالأمر”: “أغنيات السلام المنسيّة”  بعد 40 عام على “كامب ديفيد”

أشعار وأغنيات كثيرة تستدعي ذكريات إسرائيل عن اتّفاقيتها للسلام مع مصر، التي وُقِّعت منذ أربعة عقود. من الأغاني العبريّة الأكثر ارتباطاً بهذا الحدث هي أغنية “يهيا توف” (ستتحسّن الأوضاع)، التي لحّنها وغنّاها ديفيد بروزا، وكتَب كلماتِها يهوناتان غيفين، مستلهِماً زيارة الرئيس المصري أنور السادات إلى القدس في تشرين الثاني/ نوفمبر 1977. تعبّر الأغنية عن شوق إسرائيليّين كثر في ذلك الوقت إلى التصالح مع الجار الجنوبيّ للبلاد (من خلال كلمات من قَبيل “وقلنا لنتفاهم ونحيا كإخوة”)، ولكنها تتذكّر المشكلة الفلسطينيّة التي لم تُحَلّ، وغطّت على العلاقات الثنائيّة (بين إسرائيل ومصر)، وساهمت على مدار سنوات في جعل السلام بينهما سلاماً بارداً (ثم قال “لنفعل ذلك؛ فقط اخرجوا من الأراضي”).

أشادَ أيضاً ميدان الشعر والموسيقى في مصر باللحظة التاريخيّة، فقد أنتجَت محطّات الإذاعة والتلفزيون المصريّة بين عامَي 1977 و1982 -منذ زيارة السادات حتّى انسحاب إسرائيل من شبه جزيرة سيناء- عشرات الأغاني التي تنوّه بفضائل السلام وتشيد بها. إضافةً إلى ذلك، أصدرت رابطة الشعراء المصريّين، في نهاية عام 1977، مجموعة خاصة عنوانها “أصدق الكلام عن رحلة السلام”، ضمّت 23 قصيدة شعبيّة، صاغ بعضها مسؤولون مصريّون رفيعو المستوى. ثمّ تم تغيير النشيد الوطنيّ المصريّ ليلائِم أجواء السلام الجديدة؛ إذ استُبدِلَ بنسخة 1960 التي تدعو إلى القتال “والله زمان يا سلاحي!” عام 1979، بنشيدٍ يتمركز حول الوطن المصريّ “بلادي، بلادي، بلادي؛ لكِ حبّي وفؤادي”.

كان الهدف من تلك الأشعار والأغاني هو دعم النظام المصريّ في جهوده لشرعنة السلام مع إسرائيل في نظر الرأي العام. ومثّلت مبادرة السادات ثورةً في سياسات بلاده بعد عقودٍ من الصراع و5 حروب، وكانت تلك المبادرة في حاجة إلى حملة علاقات عامّة واسعة النطاق، تقوم على مجموعة متنوّعة من الوسائل؛ بداية من وسائل الإعلام الجماهيريّ وكتابة مقالات تقتبس من الشريعة وصولاً إلى الأغاني والأشعار. وتميّزت الأغاني بقدرتها على إثارة المشاعر والمساهمة في غرس القيم والتصوّرات بين الناس، الذين من بينهم أمّيّون؛ أمّا نقطة ضعفها فتكمن في أنّ كثيرين في مصر استقبلوها بصفتها دعاية سياسيّة رخيصة، وليست أعمالاً فنّيّة أصيلة؛ ما قوّض فرصَ قبولِها لدى الرأي العام.

قالت صفية المهندس -التي ترأست الإذاعة المصريّة بين عامي 1975 و1982، وتُعرَف باسم “أمّ الإذاعيّين المصريّين”- إنّه مع التوجّه إلى توقيع معاهدة السلام مع إسرائيل في آذار/ مارس 1979 طُلِب منها إنتاج أغانٍ تساعد على تهيئة الرأي العام. تم تجنيد كبار كتّاب الأغاني والملحّنين والمغنّين في ذلك العصر من أجل هذه المهمّة “الوطنيّة”. أكّدت الأغاني والأشعار، مثل غيرها من وسائل الديبلوماسيّة العامّة، فكرة الوطنيّة المتجسّدة في السياسات الجديدة، وامتدحت شجاعة السادات، واحتفَت بعودة سيناء الوشيكة إلى السيادة المصريّة، وتمركزت حول آمال الازدهار المصريّ في عصرٍ من السلام. في الوقت ذاته، تجنّبت تلك الأغاني والأشعار التعبيرَ المباشر عن المصالحة أو الاعتراف أو طلب الصداقة من شريك السلام الذي ما زال يثير الجدل.

كان التحدّي الأبرز في تلك الأعمال هو تبرير قرار السادات في السعي إلى عقد اتّفاقيّة منفصلة مع إسرائيل، من دون الدول العربيّة الأخرى والفلسطينيّين، وفي خرقٍ واضح لموقف جامعة الدول العربيّة. صاغَت وزارة الإعلام المصريّة ثلاثةَ أهداف: تضمين مفهوم السلام في الوجدان العربيّ؛ وتوضيح كيف يخدم السلام المصالحَ العربيّة؛ وصدّ الهجوم العربيّ على الاتفاقيّة. وأشارت الأغاني إلى التزام السادات تحقيق الأهداف العربيّة والفلسطينيّة.

كتَب شاعرٌ ينشر باسم مستعار “الأطرش”، قصيدةً بعنوان “العجلة دايماً بين إيَدَيه”، أشارَ فيها إلى القلق الذي أبداه السادات تجاه إخوانه العرب: “قائدنا راح بنيّة يحارب العدوان / يرجّع كل حق ويكسر الأغلال / من غير ما ينسى حق سوريا أو عمّان / وفي كل خطبة مانسيش يركّز على فلسطين / وكمان القدس، أرض الحب ومعقل الأديان”.

في الوقت ذاته، شوّهت هذه الأعمال الإبداعيّة سمعةَ أولئك الذي رفضوا وعارضوا اتّفاقيّة السلام. وأدينت جبهة الممانعة العربيّة -بقيادة العراق وليبيا وسوريا ومنظّمة التحرير الفلسطينيّة- لإنكارها تضحيات مصر في الحروب التي خاضتها مع إسرائيل. فعلى سبيل المثال، أدان الشاعر الشعبيّ محمد عبد العزيز مالحة أولئك الذين يتربّحون من الصراع، فيما تعاني مصر وترزح في ظلّه.

كانت السمة السائدة في تلك الأشعار أنها تصف السلام مع إسرائيل بأنه خطوة تكميليّة لانتصار تشرين الأول/ أكتوبر. كانت مصر تعتبر حربَ 1973 مع إسرائيل -والتي تسمّى أحياناً “حرب يوم كيبور”- إنجازاً يمثّل خلفيّة مناسبة لتحقيق تسوية دببلوماسيّة مشرّفة لا تنمّ عن ضعفٍ أو انهزام، وإنّما تنتج عن موقف قوّة. استخدم مالحة هذه الرواية لصدّ انتقادات الأوساط الإسلاميّة عند دفاعه عن عقد اتّفاقية سلام مع معتدٍ مهزوم لُقِّن درساً؛ موظِّفاً الآية القرآنية “وإنْ جنَحُوا للسَّلمِ فاجنَحْ لَها”.

أطرَت أعمالٌ أخرى على السادات لقدراته القياديّة، وعبّرت عن الإعجاب ببطولته. ووُصِفَت زيارته القدس بأنها تعبير عن قدراته على إدهاش العدوّ في وقتٍ السلم كما في وقت الحرب، وبأنّها خطوة هجوميّة في جوهرها وإن لم تكن كذلك في وسائلها وأدواتها. ورأى الأمين العام لرابطة الشعراء المصريّين عبد الحميد العظيم في خطابِ السادات أثناء انعقاد الكنيست مكتملَ العدد “هجوماً جرئياً باسم السلام”، أظهر شجاعة السادات وترك الإسرائيليّين في “حيرةٍ وخسران”.

أشاد الشاعر إبراهيم الصافي إبراهيم عثمان بشجاعة السادات لوقوفه أمام الكنيست الإسرائيلي وتقديمه خيارين لأعضائه آنذاك: “إما أن نستعيد أراضينا، أو نعود إلى حمل أسلحتنا”. وشبهته المطربة فايدة كامل، التي اشتهرت بتأييدها الرئيس، في أغنية “يا سادات يا قائدنا” بالإله، وفي أغنية “أفراح السلام” (كلمات الشاعر: محمد الدسوقي الشهاوي)، وصفته بأنه “زعيم النور والحرية”.

ركزت الأغاني والقصائد التي ذاعت شعبيتها على جَني ثمار السلام المنشودة التي طال انتظارها: والتي تمثلت في تحرير سيناء، وإصلاح الاقتصاد المصري وتنميته، وتحقيق الثروة والرخاء. أضافت الاحتفالات التي رافقت انسحاب إسرائيل من سيناء إلى أغاني حرب 1973 أغنياتٍ جديدة، مثل “طالعين على أرض الفيروز” (سيناء) (التي تغنت بها ياسمين الخيام وأسامة رؤوف، من كلمات الشاعر: عبد السلام أمين، وألحان: محمد موجي). وفي لقطات الفيديو التي أنتجت لهذه الأغاني، تمكن رؤية العلم الإسرائيلي وهو يُنكس ويُرفع العلم المصري بدلاً منه.

جني ثمار السلام

وفيما اعتبرت أغاني تلك الحقبة تحريرَ سيناء أحد إنجازات حرب 1973، فإن الوعد بتنمية سيناء كان مرتبطاً بجني ثمار السلام. وتكريماً لتوقيع اتفاق السلام في حديقة البيت الأبيض في 26 آذار عام 1979، نشرت مجلة “أكتوبر” الأسبوعية، بوصفها من أهم الأبواق الإعلامية لنظام السادات، قصيدةً بعنوان “حمامة السلام” للشاعر كمال منصور. وقدم فيها رؤيا مفادها أنه “قد حل السلام، وسنجعل الصحراء تزدهر/ وستُبنى هناك حدائق ومدن/ وسنروي عطشها بكفاحنا وعرق جبيننا”.

“فن الدعاية”

أسفر انسحاب إسرائيل من سيناء عام 1982 عن تأليف واحدة من أكثر الأغاني شهرة عن السلام في تلك الحقبة، وهي واحدة من الأغاني القليلة التي لا تزال تعيش في الذاكرة المصرية حتى اليوم، وهي أغنية “مصر اليوم في عيد” (التي غنتها الفنانة الراحلة شادية، وكتبها عبد الوهاب محمد، ولحّنها جمال سلامة). وبحسب السفير الإسرائيلي في مصر آنذاك، موشيه ساسون، عكست تلك الأغنية الفرحة التي سادَت مصرَ في ذلك الوقت، فضلاً عن رغبة النظام في جعل تنمية البلاد وازدهارها في مقدمة الأولويات الوطنية.

فاضت تلك الأغاني بالتطلعات إلى السلام والوئام العالميَّين، لكنها تجنّبت بحذَر أيَّ إشارة إلى إسرائيل. وفي الأغنية التي ارتبطت بشدة بزيارة الرئيس المصري القدس، “تعيش يا سادات” (كلمات الشاعر كمال عمار)، يغني سيد مكاوي: “كان قلبي معاك طول ما انت هناك” من دون ذكر المكان الفعلي الذي ذهب إليه السادات. كما ركّزت الأغاني الأخرى، مثل أغنية “السلام لجميع البشر” (غناء سميرة سعيد، وكلمات محمد كمال بدر، وألحان حلمي أمين)، على بث رسائل تصالحية شاملة ومجردة.

إذا نظرنا إلى الماضي بعد مرور كل هذه السنوات، يبدو أن الأغاني والقصائد المصرية التي تحدثت عن السلام لم تترك أثراً كبيراً. إذ إن عامة الجمهور في البلاد اليوم ليسوا على دراية بمعظم هذه الأعمال الفنية. كما يُعزى استبعادُها الآن من سجل المؤلفات الموسيقية المُتعارف عليها إلى الحالة السياسية التي نشأت وازدهرت فيها هذه الأعمال في بادئ الأمر، ثم سرعان ما تلاشت ونُسيت. في عهد الرئيس حسني مبارك، الذي خلف السادات بعد اغتياله عام 1981، مُحِيت الأعمال التي أشادت بسلفه من “قائمة الأغاني”، واستبدلت بها أغنيات جديدة تحوي رسائلَ أكثرَ انسجاماً مع الأهداف والسياسات المتغيرة. وتحدثت أغاني السلام القليلة التي استمرت المؤسسة في الترويج لها عن عملية تحرير سيناء ثم عملية تحرير طابا، وقد أُنجزت كلتاهما في ظل حكم مبارك. ومنذ نيسان/ أبريل عام 1982، صار الاحتفال بيوم تحرير سيناء عطلة وطنية مصرية، ولكن زيارة السادات إلى القدس وتوقيع اتفاق السلام قبل 40 عاماً لا يُحتفَل بهما ولا تُبثّ الأغاني التي تتحدث عنهما. وفي الذكرى المئوية لميلاد السادات، التي احتفلت بها مصر في كانون الأول/ ديسمبر عام 2018 بالكثير من الإطناب، تصاعدت أصداء أغاني حرب أكتوبر 1973.

لم يَعُد لأغاني السلام حظوة أيضاً، نظراً لأنّ المستمعين، وكذلك بعض الفنانين، كانوا ينظرون إليها على أنها ضرب من ضروب “فن الدعاية”. نشر الدكتور زين نصار، أستاذ النقد الموسيقي في أكاديمية الفنون، مقالاً في صحيفة “المصري اليوم” عام 2007، فرَّق فيه بين أغاني السلام التي كانت بمثابة حملات دعائية اضطلعت بها المؤسسة، وأغاني الحرب التي أنتجها فنانون مصريون طواعيةً، من دون أن يأمرهم النظام بذلك. وفي مقال آخر، بعنوان “في عصر السادات، الغناء للرئيس وللسلام بالأمر!”، نُشر في آذار عام 2009، مقال جاء فيه أن أغاني السلام لم تحقق الغرض المطلوب منها، وأشار إلى أن أكثر أغاني السلام التي أذيعت في ذلك الوقت، كانت أغنية “بالسلام” التي غنتها أم كلثوم (من كلمات بيرم التونسي وألحان محمد الموجي) والتي سُجلت عام 1963 في عهد الرئيس جمال عبد الناصر.

ينقسم المصريون القلائل الذين ما زالوا يتذكرون أغاني السلام إلى مجموعتين رئيسيتين: يرى بعضهم أن تلك الإبداعات تحمل في طياتها حنيناً إلى الماضي، وتُمثل جزءاً من التراث الثقافي لمصر. بينما يراها البعضُ الآخر من منظورٍ نقدي، يصور تلك الأعمال التي مثلت صوتَ الحكومة باعتبارها وصمةَ عارٍ في تاريخ بلادهم – وهو أمر لا ينبغي أن يوجد في أعقاب ثورات الربيع العربي، التي تُمثل

 

حقبة ينبغي ألا توجَّه فيها حرية التعبير الفني من قِبَل السلطات العليا.

يُمثّل الفن الشعبي في أحيان كثيرة انعكاساً للمجتمع وتعبيراً عنه، ومن ثم، فإن تضاؤل أغنيات السلام المصرية يمكن أن يكشف لنا وضع العلاقة بين مصر وإسرائيل في عصرنا الحالي أيضاً. على رغم أن اتفاق السلام الذي أُبرم عام 1979 لا يزال صامداً حتى الآن، فإن كثيرين يرون أنه يعكس سلاماً بين الحكومات وليس بين الشعوب، وهو سلام لا يزال يفتقر إلى ثِقَل ثقافي حقيقي. وأصبحت محاولة تعزيز ذلك الجانب في السنوات المقبلة أمراً ضرورياً للغاية.

المصدر DARAJ

 

شارك على :
المحور العربي © كل الحقوق محفوظة 2023