كتب د. الهذيلي منصر: ايران في ذكرى ثورتها

كتب د. الهذيلي منصر: ايران في ذكرى ثورتها
تحتفل ايران هذه الأيام بذكرى ثورتها وهي ثورة لم تتوقّف الى يوم النّاس هذا عن الفعل والتّأثير الأستراتيجين اقليميّا ودوليّا. هي أيضا لم تتوقّف عن اثارة الجدل وفرض أسئلة حارقة. إنّ مناطات ثورة ايران من النّوع الذي لا يُحسم خلال سنوات وعقود لهذا فهي لم تغادر بعد طور التفاعل وكلّ يوم في ايران منذ فيفري 79 مخاض جديد. بعض المخاضات بصوت عال ما يثير انتباه المحيطين وبعضها وربّما جلّها صامت ولا يحدّ صمتها من قيمتها وأثرها.
لا بأس من التذكير بأنّ هذه الثورة كانت لحظة تفجّرها ثورة مُستحيلة لخصوصيّة مفرداتها ولفرادة زعامتها ممثّلة في الأمام الخميني رحمه الله. كان رجلا قديما، قديم لسان وقديم مظهر وهندام. كان ذلك اللّامنتظر بحساب العقل والسّياق ولكنّه كان يشبه ذلك المُنتظر بالحساب العقدي الشيعي والبطل الملحمي بالحساب الثقافي الايراني القديم والموغل. شكّل ظهور الرّجل وتماهي جمهور ايراني واسع معه محطّة غريبة في تاريخ ايران ومنها في تاريخ العالم. أذكر تماما أنّ أعتى مراكز البحث والدراسات في الغرب عموما وأمريكا خصوصا أشهرا وأسابيع قليلة قبل عودة الخميني من باريس لم تتوقّع نجاحا للرّجل.
التوقّع متفرّع عن العقلنة ولا يتحرّك العقل الّا بمقدّمات ولهذه الأخيرة قاهريّة لا تذعن ولا تُصدّ. هذا يعني أنّ الخميني بكلّ المنطق والعقل وبكلّ المقارنات والقياسات لا يمرّ ولا يجب أن يمرّ ولكن لا يزال ما خطّه يفعل ويؤثر. تقديري الخاص، أعتقد، وأحسب نفسي من المتابعين للشأن الإيراني ومن السًائلين بإلحاح عن مخاضات ايران وهي خليط من مخاطر ووعود، أنّ ما وقع في ايران لم يكن ليقع في غيرها لقوّة الثقافة فيها وتشبّث الجذور بأرضها. هذا يعني، على الأقلّ كما أفهم، أنّ ما كان في ايران حدث ثقافي بتشكّل سياسي وأنّه، جوهرا، ردّة فعل جمعية ثقافية على ضروب من الإلحاق اصطدمت بهوية الإيرانيين العميقة ومن الحيف اختزال هذه الهويّة في العنوانين المبرّزين غربيا (الدين أو الإسلام) وعربيا واسلاميا (التشيّع). الثقافة الإيرانية حقل واسع بروافد عديدة والمثقف الإيراني خلاصة فريدة قد لا نجد له شبيها في كلّ المجتمعات الإنسانية. هو حالة خاصّة وملتقى فلسفة ودين وجمال وحلم ومخيال غيب ومعجزة. لوحة ليس الدين كلّها ولا هو سرّ تناسقها وتكاملها بالضرورة.
ما يجعلني أحترز كثيرا عن تعريف ما وقع في ايران بأنه ثورة دينية واسلامية على الأقلّ عندما تعتمد المقاربة على المقارنة بشعارات سياسية اسلامية رأينا بعض ثمارها خلال السنوات الماضية. أنا أميل الى التقييم والقول بأنّها ثورة ثقافية معنويّة مع التنويه بأنّه وعلى نطاق واسع لم يفهم الإيرانيون علاقة الدين بالثقافة علاقة تنابذ وصدام. الدين هناك كان مثقفنا بأقدار محترمة جدا ومنذ زمن طويل. كذلك لم تتنصّل الثقافة عندهم من رافدها الديني وهو رافد لم يبدأ بالإسلام بل إنّ سرّ ارتباط الإيرانيين بالاسلام ونبوغهم في علومه وسبقهم الى اثراء المدونة الاسلامية، هذا السرّ في العلاقة بالبنية الذهنية للايرانيين وغير صحيح أنّهم أذعنوا صاغرين الى سيوف عرب فاتحين.
شعراء ايران المبجلون الي يومنا الحاضر، وهؤلاء تحيط بهم هالة قادسة لا تتوفر لبودلير الفرنسي وشكسبير الأنجليزي، شعراء متفنون ومفكرون وعرفاء متدينون. مولوي وحافظ أنبياء غير مُعلنين في ايران لا يخبو نورهم ويحضرون على الدوام في كلّ حياة الايرانيين الرمزية وهؤلاء خطّوا بأبجدية الفرس ما هو ثقفنة ورمزنة للقرآن العربي رؤية وأملا ومفاهيما. التحدّي هنا بالنسبة لايران وثورتها. المعبّر الأصيل عن عبقرية ايران العميقة هو الشاعر لا المتديّن الحوزوي اذا كانت كلّ قيمته في حوزويّته أي ارتباطه بالمؤسسة الدينية الحوزويّة. ذلك انّ العبقرية ممّا لا يتمأسس واذا تمأسس قد يخرب ويضمحلّ. المأسسة في ايران اليوم مضاعفة. هي مأسسة سياسية سلطانية (تيار الثورة يحكم ويدير ويستمد شرعيته من الاسلام) وهي مأسسة ثقافية معرفية (للحوزة نفوذ كبير). لا يقلّ هذا التحدّي الداخلي أهمّية من التحدّي الخارجي فلإيران أعداء كثر وسياساتها تهدّد بجدّية مشاريع الهيمنة الغربية والصهيونية زيادة على مؤامرات جيرانها الإقليميين خصوصا منهم عرب الخليج.
رغم ضخامة استهداف الخارج لإيران فإنّ الأخطار الداخلية أمضى بل إنّ الخارج يائس من استهداف ايران مباشرة وأصبح معتمدا بالكلّية تقريبا على الوسائل الداخلية وعلى الضغط من الداخل بالتضييق والحصار الماليين والإقتصاديين وبما يسمّى الحروب الناعمة ويقصد بها الحروب الثقافية والرّمزية. هناك شباب في ايران لم يلحق أحداث الثورة ولم تبلغه حماستها ولم يشارك في سنوات تمحيصها على أكثر من جبهة. طبيعي أن يكون بين هذا الشباب عزوف وزهد وطبيعي أن تؤثر فيه معدلات البطالة بسياق ركود. اذا زدنا على هذا تطور وسائط الإتصال وضخامة المادة الغربية المادية والاستهلاكية فالمحصّلة المنتظرة مستويات يجب أن تكون استهانة من الهشاشة المعنوية تعاني منها اليوم كلّ الأجيال الشابة عبر العالم ولكن هذه المعاناة في ايران أخطر لأنّ هناك استهداف مقصود وخطط موجّهة لنسف المعنويات التي قامت عليها ثورة ايران.
أحسب أنّ هناك كياسة وحكمة بين المسؤولين الإيرانيين الكبار وهذا ما يمنع اصطدام الثورة وجيلها بالأجيال الشابة. وفي كلّ الأحوال فلا حلّ في التصادم والإصطدام ولا حلّ بقمع وتضييق وإنّما بالإشتغال على المعنويات الى جانب ايجاد ما يلزم من حلول للأزمة الإجتماعية وتراجع مقدرة الطبقة الوسطى على مواجهة الأعباء وآثار الحصار. هناك ورشتان ضخمتان يفرضهما السّياق على الإيرانيين: ورشة اجتماعية وورشة ثقافية والورشتان مترابطتان. اذا نجح الإيرانيون في التقدّم والإصلاح هنا وهناك تتثبت الثورة وشعاراتها ورؤاها أكثر ويتجدّد ألقها عبر الأجيال الشابة. اذا لم يحالف التوفيق هنا وهناك يُخشى حقّا على ايران وثورتها.
للحوزة في ايران اسهام في بلورة خطاب ووسائل ووسائط الثقافة ولكن الحوزة، ورغم ما قد تجتهد فيه من تحيين وابداع وتجديد، مؤسسة محافظة بطيئة بمفردات دين وأخلاق ولا أحسب أنّها قادرة اليوم بمفردها على تلبية الحاجات المتزايدة لشباب سريع الحركة وواسع التطلع وتحيط به المؤثرات. تحتاج هذه المؤسسة ترجمة مفردات الدين الى مفردات ثقافة وفنون وجمال وتحتاج مرورا من الحرف الى الصورة والصوت ذلك أنّ أبجدية العالم تتغير وما عاد للمقروء ما غنمه في السابق من جمهور. هناك في ايران، ومنذ القديم، عناصر وازنة وتقاليد تجعل هذا التحوّل ممكنا وهو الآن ملحّ وحيوي. هناك أساسا العرفان الذي خرّج للايرانيين والانسانية مولوي والعطّار وسينائي وحافظ وجامي وهو مدرسة عظيمة برعت في الوصل وحدّت من غلواء الفقه والفقهاء وأتقنت النظر الى الخلق بعين الرّحمة وأبدعت التّأليف بين حقول تبدو لكثيرين متصارعة متنابذة وليس أقدر على ثقفنة الإسلام من العرفان فمن دونه يتحول الدين بأعين شباب يافع منفتح على عالم فاتن تجربة قاسية.
يجد الشيعة كما السنّة أنفسهم أمام ذات الامتحان وهو المرور في العلاقة بالدين، فهما وحضورا بين النّاس وتنظيم مجتمع، الى المعنويّة. هي عند السنة تصوف وهي عند الشيعة عرفان. انّ نجاح ايران وثورتها مسائل على غاية من الأولوية والأهمّية وواهم من يعتقد أنّ هذا النجاح عندما يثبت ويتحقّق يقف عند حدود ايران. انّ المجتمعات المتدينة تسقط سقوطا مدويّا اذا لا قدّر الله فشل الإيرانيون. سينضب المعين المحدد لهوية هذه المجتمعات وتكون لمقولة نهاية التاريخ بعض صدقية. سيقول مسلمون كثر أنّ الاسلام صار مستحيلا. تماما كما قال منذ قرون جمهور واسع من المسيحيين أنّ المسيحية خرافة قديمة.
شارك على :

المحور العربي © كل الحقوق محفوظة 2023