كتب د. الهذيلي منصر…”راو باطل يا حمّة باطل”

 

كأنني سمعت الأستاذ حمّة الهمامي يقول أنّ قيس سعيّد اعتمد في ما اتّخذ من اجراء على الجيش لا على الشعب. الواقع أنّ الجيش لم يكن ليسند قيس سعيّد لولا دراسته المشهد والتطورات وملاحظته أنّ شعبية قيس سعيّد قياسية وأنّ البلد بمفترق حاسم وخطير. جيشنا ليس مغامرا وهو أقرب الى الحيطة والتوجس. علاش هذه الشعبية؟ هذا سؤال مفيد أمّا القفز على هذه الشعبية لتصوير ما كان وكأنّه انقلاب مسلّح لا فائدة منه.

ايه هو المفروض الشعب يمنح ثقته وينتظر كل الخير من حمّة والشابي والفنوشي والمرزوقي. يعني من جماعة خمسين عام نضال وكفاح موش نكرة لم يؤسس حزبا ولم تعرف عنه عنتريات. هكذا المفروض حقّا في براديغم سياسة مرّ وانقضى ويعسر على راضعي لبانه دفنه. وجود قيس سعيّد في المكان الذي هو فيه الآن وتقدّمه الى مسؤولية مضاعفة بمفترق كالذي نحن فيه دليل واضح جليّ على أنّنا نطرق براديغما جديدا. طبعا المناط ليس قيس سعيّد ولكن البراديغم الذي يجلّيه ويعبّر عنه. على فكرة، ما وقع بين 17 و 14 لا يفهم الا بمفردات البراديغم الجديد. ذلك الذي وقع تعاملت معه وتصرّفت فيه عقول وفية لما نشأت عليه من براديغم أو برمجية فبدت مغتربة عاجزة هيّنة. لذلك رحّل الناس هذه العقول يوم 25 جويلية.

رحّلوها لا بما اتّخذ قيس سعيد من قرار ولكن بتظاهرات لم أشارك فيها شخصيّا ولكن تفكّرت فيها عميقا وتدبّرت خطورتها وتأسيسيّتها. علاقتي بما يشهد البلد اشكالية جدّا. أشعر أننا بمنطقة تقلبات مجتمعية ونفسية قاسية وحتمية. اقول تقلبات تلطيفا والواقع أنها عاصفة هوجاء. العاصفة قدر. لا البحار يطلبها ولا هو يعلم عنها كيف وأين ومتى. قد يجتهد لمقارعتها ولكن لن تتوقف الّا اذا سكنت تيّارات الماء والهواء. حضرت متدخلا في جمعيات ومقار حزبية لأقول أنّنا بمفترق تأسيسي ولم يكن لقولي وقع وهذا مفهوم فقد كنت أحدّث كهولا وشيوخا. الشباب المعني بالتأسيس لا يحضر اجتماعات الأحزاب ولا تروق له حوارات السياسة. هذا الشباب لم يحضر حجرة سقراط.

نزيدكم زيادة: قيس سعيد محطّة وكفى وأرجّح أنها ستكون قصيرة. جاية اللّطخة الكبيرة بعد أشهر أو سنوات قليلة. هو ليس مؤسّسا. فقط أتى به تيّار تأسيس وأتى به ليصفع كلّ الذين لم يحصل لهم وعي بحيوية وضرورة التّأسيس. اللّطخة الكبيرة أمامنا بحسابات كثيرة وليست خلفنا مع الأسف. نحن مجتمع ما عاد قابلا للإستمرار بهندسة تنظّمه القديمة. هذا كلّ الأمر وليس الأمر سهلا فهما وليس يسيرا تجربة. اذا كان صراع بين قديم وجديد فهو هنا تحديدا: براديغم قديم وبراديغم جديد. ليس المرور من تجمع الى نهضة مرورا من قديم الى جديد فكلّ الطبقة السياسية التونسية بكلّ تنظيراتها واجتهاداتها من قديم متهالك. بصفة عامة كلّ واحد منّا يريد أن تكون حالات وعيه وخياراته في الحياة مصادفةً للحالات الواسعة، حالات المجتمع الذي يكون فيه وحالات العالم الذي يسكن فيه. كلّ واحد منّا نقطة تحرص أن تتشكّل حولها دائرة الوجود.

ممكن يسأل سائل: طيب وما هو هذا الجديد وما الذي سيؤسس وما هي خاصيات البراديغم الناسف لسابق؟ من أين لي أن أعلم أو أن أعرف؟ الشيء الوحيد الذي أنا على يقين منه هو أننا منذ اخر 2010 غادرنا البلد الذي عرفناه والمجتمع الذي انتمينا عقودا اليه. غادرنا ضفة الى ضفة. لن نعود الى ضفة غادرنا وبيننا وبين ضفة نصلها يوما عواصف ورعود. موقفي في السياسة مرتبط بهذه الرؤية. أنا ضدّ كلّ تعبيرات القديم: ما أنا بمصرخه وما هو بمصرخي. اكرام الميت دفنه حتّى وان كان عزيزا علينا ومنّا أقرب قريب. ولكنني لا أتورّط كثيرا ضدّ الجديد ولا معه لا خوفا منه ولا طمعا فيه وإنما وعيا بأنه متحوّل متقلب لا يسكن. قيس سعيد مثلا، قد يكون في بدايته بشرى جديد ويتحوّل سريعا فيكون أثر قديم برغبة منه أو مُكرها. المسألة كما أنظر فيها تتجاوزه كثيرا وليس الّا تفصيلا صغيرا مهما كبُر.

عاد يا حمّة يا باهي الله غالب عليّ وعليك. خليك بقدرك وانسحب. هذا زمن عليك لا لك. أحسب أيضا أنه زمن عليّ لا ليّ ولكن ممكن الفرق بيني وبين سي حمّة أنّني أفكّر في الموت كثيرا وأقتنع يوما بعد يوم أنّ الموت قانون عظيم. والله أفكر في الموت أكثر من تفكيري في السياسة وإن كنت من بعيد أبدو من المسيًسين. سي حمة لم تترك له السياسة وقتا ليتفكّر الموت. لو تفكّره لكان سياسيا عظيما. احرص على الموت يا حمّة فكل الباقي باطل. راو باطل يا حمة باطل.

شارك على :
المحور العربي © كل الحقوق محفوظة 2023