كتب د. الهذيلي منصر: في الإنقلاب، المعنى والدّرس والرّسالة (نصّ طويل قد ينفع)

كتب د. الهذيلي منصر: في الإنقلاب، المعنى والدّرس والرّسالة (نصّ طويل قد ينفع)

يجب أن يسبق انقلاب في الخُلق والمنطق والذوق لنقسّم التونسيين بين مقاومين للإنقلاب ومناصرين له. قبل ذلك يجب أن ننجز انقلابا على الذاكرة. اذا اكتمل هذا التّقسيم وتمّ وصار مُعتمدا على نطاق واسع فأنا من مناصري الإنقلاب وأعلن كامل البراءة من مقاوميه وأحرص كلّ الحرص أن يكون تصنيفي هكذا اليوم وغدا وعند الوقوف أمام الله. لا أصرّح هكذا خوفا ولا طمعا، أصرّح هكذا حرصا على بقية من خُلق وذوق ومنطق وحرصا على الذاكرة باب وعي وشرط نقد وتجاوز. لا أرى نفسي بالمرّة في صفّ الذين يعلو صوتهم مقاومة للإنقلاب. عرفناهم وجرّبناهم بل إنني أعرف بعضهم معرفة شخصية والخلاصة الله يربّح ولا أتصوّر أنّ هؤلاء وبعد أسابيع قليلة دخلوا غار التّوبة وخرجوا بوحي قرآن. في النهاية الناس معادن. مانيش ذهب ولكن مانيش قصدير مصدّد.

قلت “اذا اكتمل هذا التّقسيم للتونسيين وتمّ” ولا أراه يكتمل ويتمّ ولست أرى الأمور بعين من يقود البلاد الى أجواء الفسطاطين لأنّه يحسب أنّه هكذا يستفيد. يحسب فقط وإلّا فالواقع أنّه لا يستفيد من ذلك. تونس كثرة خيّرة وقلّة جشعة نهمة لا دين لا ملّة وهكذا الفسطاطان. البلاد مشات في طريق خطأ منذ 14 جانفي وحتّى 25 جويلية. هل يعني أنّها تمشي في طريق صحّ منذ 25 جويلية. الصحّ الوحيد في 25 جويلية أنّه ثبّت الخطأ السّابق وعرّفه كذلك وجذّر في النفوس والعقول على نطاق واسع أنّ ما كان لا يستقيم ولا يمكن أن يتواصل وهذا في ذاته جيّد ومفيد ويدفع الى الانطلاق في اتّجاه جديد. الأمور هكذا نظريّا فقط ولكن بحساب الميدان الأمور بالغة التّعقيد. عندما أكون في الخطأ وأكون مستفيدا منه ماذا أصنع؟ تضطرّني مصلحتي على إعادة تعريف الخطأ والصّواب وأدخل في الفتوى والتزيين والتّلبيس.

 اذا نكون اعلامي مثلا ونقبض من دفاعي على الخطأ خمسة الاف دينار شهريا ونكون في الأصل موظّف على قدّ الحال، عندما أكون في وضع كهذا كيف أسلك في موضوع الخطأ والصحّ؟ نستغفر ونتوب وننقد ما أنا فيه؟ لا، نزيد على قدّام وندخل الدّاحس وهونا الشاهد على ذلك متاع الضمير وغيره كثير. اذا نكون في حزب ونعطيه من وقتي وجهدي وأربط طموحي الذاتي بالحزب ومستقبله وأراهن كلّ الرّهان عليه ويقولون لي أنّ حزبي فشل ولم يتحرّك في غير الخطأ، حينها ماذا أفعل؟ ألعن نفسي وحزبي والسّياسة؟ لا والله. يلزم لذلك صدق وجرأة وطهارة ضمير والبحث عن ذلك في السّياسة وبين السّياسيين ضرب من الجنون. كيف كيف ستأخذني العزّة بنفسي وندخل داحس الدّاحس. كيف كيف عندما أكون صاحب مال ونكون حصّلت جلّه من تبزنيس مع متحزبين في الموقع والسّلطة هل أذعن وأعترف وآخذ نفسي الى المحكمة ليقول القضاء فيّ قول عدل؟ لا وهذا من المستحيل. سأنكر وأتهرّب واذا استطعت سأفرّ بما تيسّر من مال من البلد. يمكن أن أعدّد الأمثلة الى ما لا نهاية فهي بلا حصر.

عندما يكون وضع سياسي ومجتمعي فإنّه لا يقوم الّا بربط مصالح ضخمة بين ماديّة ومعنويّة. هذه المصالح هي التي ستتكفّل بالدّفاع عن ذلك الوضع ولن تسأل بسيط سؤال عنه إن كان صحّ وإن كان خطأ. الأمور بسيطة: حيث تكون مصلحتي فذلك الصحّ وحيث تضيع مصلحتي فذلك الخطأ. طبعا الأمور لا تقال هكذا عارية مكشوفة. يلزم تزييت ميكانيك الدّجل، يلزم خطاب وحجاج واخراج وماركيتنغ يعمل الكيف. ويلزم في الإعلام ناس تطنطن مليح بين حقوق وشرعية ودستور وقانون وعالم حرّ وتتفوّح الحكاية بالفقر الوشيك والحصار القادم وغضب الشركاء الى آخر ذلك. وما زلنا ما شفنا شيء لأنو كيفما في تونس ثمة مستفيدين محلّيين من الوضع القائم ثمّة مستفيدين خارج تونس وهؤلاء تعوّدوا على اتفاقات تحت الطّاولة تأتي بمن يحكمون، في تونس وفي غير تونس، وتحدّد السياسات والمناهج. هنا أيضا تحكم المصلحة وتقرّر. وليس من الصّعب لمن يحلل الوضع التونسي الآن ويستشرف فهم أنّ هناك حلفا موضوعيا يقوم أو سيقوم بين المتضرّرين في الداخل والخارج. ممكن الداخل يسبق ولكن الخارج لن يتخلّف. في كلّ الأحوال تعريف الخطأ والصحّ ليس بالأمر الهيّن ولا يصبح هيّنا الّا اذا كان الإعتماد على ثابت المصلحة واتخاذها مقدمة ومنهجا ومسلّمة. اذا دخلنا من باب حقّ ومنطق وعدل وذوق نتيه تيها عظيما.

أعتقد أنّ الإنقلاب الأعظم هو هنا : هو في جعل القوّة، والمصلحة قوّة، تتربّع ملكة على الضمير بما يغيّب الحقّ تماما، حتّى الحقّ بمعناه الأول البسيط والفطري. أعتقد أنّ هذا المفترق هو مفترق الإنسان الأول والأخير والدائم، مفترقه الوجودي الذي من أجله خلق وخلقت السماوات والأرض والباقي تفاصيل. كلّ واحد منّا وحيث يكون ومهما اختلف اختصاصه عن اختصاصات الآخرين يمرّ بشتّى الإمتحانات وكلها تأخذ الى ذات المفترق: في علم، في سياسة، في ادارة، في دين. هذه أشكال لمسرحة المفترق الذي يبقى جوهرا هو هو ويبقى الإختيار هو هو وهو بين أن تفتنك القوّة عن الحقّ وبين أن تبقي للحقّ فيك نصيب. لا يعني شيئا أن يكون لك دين ولا يعني شيئا أن يكون لك مذهب ولا يعني شيئا أن تؤدّي فروضا ولا يعني شيئا أن تكون على قدر من الثقافة وأن تكون لك أفكار. هويّتك يحدّدها المفترق وبعده تكون امّا كافرا للحقّ أي مغطّيا له مغرورا بالقوّة أو مظهرا للحقّ غير آبه بالقوّة ولو تضرّرت من ذلك.

هل كنّا قبل 25 جويلية في الحقّ؟ لا والله كنّا في باطل عظيم ومن دافعوا عنه فراعنة باطل وإن كان جلّهم نفذ الى السياسة بحديث تدعمه ايات وأحاديث عن الحقّ والباطل. ذلك أنّ حساب المفردات غير حساب المفترقات الممحّصة والفاتحة على الفرز. صرت أقوم الى الصّلاة منذ فترة بكسل غريب. أفهم لماذا. صرت أسأل اذا لم تتحوّل الصلاة في سياق كالذي نحن فيه وفي الطور الإنساني الذي صرنا اليه باب بلاء وهي التي كانت لمنع كلّ بلاء. أسأل لأنني أرى وأعاين أنها لا تشفع لأصحابها. يسقط مصلّون ومتدينون كثر في المفترق ويثبتون أنّهم عبّاد قوّة ولا علاقة بحقّ. يتبعون مصالحهم وهل الشيطان الّا مصلحة؟

أرى كثيرين منهم بعد 25 جويلية يعيدون التفصيل في الحقّ والباطل. الحاصل حيث أكون فثمّة الحقّ وحيث لا أكون فثمّة الباطل. مصيبة يدفع التدين ثمنها باهضا. يوم 25 جويلية ضمنّا حقّا واحدا وعرّفناه بأنه كذلك على نطاق واسع اجتماعيا وشعبيا: ما كان قبله باطل، لا هو انتقال ديمقراطي ولا هو ثورة ولا هو تحقيق اهداف ثورة ولا هو ديمقراطية الحدّ الأدنى ولا هو صراع قديمة وجديدة. باطل وكفى. هكذا بالتشخيص البارد الذي نعجز عنه عندما تدخل المصلحة الذاتية والجمعية على الخطّ. بقي أنّ تشخيص الخطأ وإن كان يمكن أن يفتح على حقّ لا يفتح عليه ضرورة. لحظة 25 جويلية تفتح على ما فتحت عليه لحظة 17 ديسمبر. من كان يتوقّع أنّ تطور الأحداث بعد 17 ديسمبر سيأتينا بما تجمّد من برلمان ومن كان يتوقع أن يكون لنا ذلك المشيشي وذلك الحزام ببركات 17 ديسمبر؟ من قال أنّ سي نبيل سيصبح مانديلا؟ من قال أنّ قيس سعيد وقد أتت به مفردات 17 ديسمبر سيقترح المشيشي رئيس حكومة؟ كلّ ذلك كان وأقبح منه كان وان لم نحط بهذا القبيح علما بعدُ.

كذلك الآن فنحن بعد 25 جويلية في النسبي. لا قيس سعيد زعيم فذّ ولا ما يبشّر به سيخرجنا من الضيق ضرورة. قد وقد ولكن فرق بين من ينتقد الرّجل لأنّه مسكون ب 24 جويلية فكلّ مصالحه هناك وبين من ينقده لهفا على 25 جويلية وما يمكن أن يفتح عليه من نافع مفيد باعتبار اليوم فاصلا. هي علاش النهضة تبتعد عن الصورة وتدفع بوجوه من خارجها أو من دائرتها الأوسع، تدفع بها وتدفع لها طبعا؟ لأنها تعي تماما بأنّ 24 جويلية سقط بالضربة القاضية أمام 25 جويلية وأنّه لا يذكّر أحد الناس ب 24 جويلية كما تذكّر النهضة. قيس سعيّد يشخّص أزمتنا جيدا وبشجاعة يفتقدها خصومه بشكل واضح وجليّ. ليست ازمتنا أزمة سلطة من يمسكها. هي أزمة أوسع وأبعد فهي أزمة انتظام مجتمع وتوزيع ثروة وحضور الناس الى قرار بلدهم. ومفردات قيس سعيّد ليست مفردات سياسة وعندما يعرّف الخطأ والصواب فبخلفية أخرى غير خلفية السياسة المنتشية بالقوة والمتورطة في المصلحة والمتنكرة للحقّ وللحقوق. هذا هو المطلوب تماما لتونس كما أنّ المطلوب للسياسة مفردات غير المفردات الرائجة الشائعة فهذه الأخيرة بلغت الحدّ في الإهتراء. ما الذي تعنيه واقعا كلمة كالديمقراطية مثلا؟ نظريا هي تعني أشياء جميلة جدا ولكن ما الذي تعنيه للتونسيين بعد عشر سنوات من الانتقال الديمقراطية؟ لا تعني غير فهلوة وتعالم لصوص فسدة. هذا المعنى هو الذي يتثبّت لأنّه المعنى المترسّخ بعد تجربة وتمحيص. ولأنّ الأمر كذلك فالناس لا يعرّفون قيس سعيد بالمستبدّ لأنه واقعا خصم لصوص فسدة لا خصم ديمقراطيين. قد يكتشفون يوما أنه مستبد ولكن يجب وقت لذلك ويجب أن يصدر عنه ما يعني تماما وما يعاين استبدادا وهذه المعاينة ليست أمانة اللصوص الفسدة وطابورهم من دجالين مسترزقين.

قلت أن قيس سعيد يحسن التشخيص ولكن هذا القول لا يعني أنّه يحسن الدّواء. لا. قد وقد مرّة أخرى. مسار الشفاء يحتاج تشخيص العلة ولا يقف عنده. كيف سيسلك؟ كيف سيقنع، ما هي وسائله وما هي أولوياته وما هي الآثار الجانبية لما سيقترح من دواء داخلا وخارجا؟ كلّ هذا من المجهول. المشكلة أو هي واحدة من المشاكل في رتابة الرّجل والسياق متحرّك لا يستقرّ. يقارع ظرفا متشنجا بكثير من السّكون. يذكّرني هذا بالكاميرا الخفية والزلزال. ظاهر هناك خلل في التواصل لا أعتقد أنه من قلة ناصحين والأغلب أنه مرتبط بتركيبة شخصيته وبمزاجه الذي يجمع بين هدوء وانفعال حدّيين. لا يريد لتونس أن تكون تلميذا أمام أستاذ يحاسبها ويسند لها الأعداد ولكن نهجه في التواصل يثبّته أستاذا ويضع الآخرين في وضع التلاميذ. هذه مفارقة وسلوك كهذا لا يضمن له حوله الا خائفين وطامعين. بهذا النهج لن يحصّل قبولا واسعا لأفكاره وتنقيحاته وعليه أن ينتبه كلّ الإنتباه.

مع كلّ هذا واذا نظرنا في صراعه مع خصومه المسيّسين والمتحزّبين فإن كفّة الرّجل راجحة وبشكل جليّ. ليس أدلّ على هذا مما يعتمدون من وسائل تكشف ضعف خصومه وتهافتهم وقلّة حيلتهم. صاك بودن وصبّاتها وسيف الدين مخلوف وعامر عياد واذا حبّو يقويو الدوزة قناة نسمة وجوهر بن مبارك وبعض تهريج أمام المسرح. هو في المقابل يواجه وسيواجه أكثر بالملفات وبينها ما هو خطير جدا ومذهب لصدقية ووجاهة كثيرين. كتب أحد مستشاري الغنوشي والأخير سبب بلاء عظيم ما خلاصته أنّ النهضة تنجح في مواجهة قيس سعيد. يحسب وحدو وهكذا تقضي مصلحته. هي النهضة نجحت فقط في استعداء قيس سعيّد وهذا فشلها الكبير لأنّ هذا النجاح هو الذي سنقول عنه بعد حين أنّه تسبّب في دمار النهضة. قائد هذا الفشل النجاح لا يزال متربعا ويستفيد من خدمات مستشارين متملّقين.

يقول القائل: أين مصلحتي وقد ذكرت المصالح وبأسها؟ مصلحتي الخاصة والخاصة جدا أنني بعد تقاعدي القريب أبني لي بيتا ريفيا وتكون لي شويهات ودجاجات وكثير من الكتب ومسجّل لبعض الموسيقى. لا يعني لي قيس سعيد ولا خصومه شيئا بحساب المصلحة والطموح. ومن يقترح عليّ مسؤولية وموقعا ومنصبا ولو تعلق الأمر بمدرسة ابتدائية وليس ذلك بالقليل يسمع مني ما يكره بحول الله. ما يدفعني الى بعض تدوين في السياسة حنق على طابور من المسترزقين لو أردت لكنت أنا من يحدّد مقابل أتعابهم ولكن الوالد رحمه الله داعيلي بالخير ودرسه لي أنّ الكسب لا أن أربح وإنما أن لا أخسر. لا أخسر الفطرة ولا أخسر القلب السليم. البلاد هذي يحكمها قيس أو يحكمها الغنوشي ما تفرقش برشة بالحساب الذي يعنيني قبل كلّ حساب. هذا مفترق وجودي حسابه بالذوق والمنطق والأخلاق. لا أحرص على أن أحسب مع هذا وذاك ولكن اذا لم يكن من هذا الحساب بدّ فأن أحسب مع قيس خير لي أن أحسب مع خصومه وخصوصا اذا تعلق الأمر بالغنوشي.

هذا الحرص يشبه جوهريا حرصا عبرت عنه مرات: أنا مع الحوثيين وخصم لآل سعود ومع المقاومين شرقا وغربا ضدٌّ للطامعين في شراكة أطلسيين وأمريكيين. لن يكون في ساحات التاريخ الا ما كتب الله وقدّر ولكن وأمام الله يكون موقفك. ذات يوم ذبح الحسين وحكم يزيد.

شارك على :
المحور العربي © كل الحقوق محفوظة 2023