كتب د. منصر هذيلي: “ماكيفيل اذ يرتّل القرآن”!!

انتهى الإسلام السياسي خارج تونس دراماتيكيا، كثير من الرّصاص والدّماء. سينتهي في تونس أمثوليا وأقصد أنّ نهايته تكون “أمثولة”. بعد هذه النهاية تكون من تونس حجّة بليغة خلاصتها أنّه غير قابل للإستمرار وغير قابل للحياة لأنّه يقوم، جوهرا، على نقيض ما تقوم عليه الدّولة أو على ما يُفترض أن تقوم عليه الدولة. قد لا تكون الدولة كما جرّبناها عربيا خلال العقود الماضية أفضل ما يحتاجه اجتماعنا وقد نرسم بالفكر والنظرية والحلم ألف دولة ودولة وتكون كلّها أفضل من دولة هي واقعة ولكن ما هو بديل الإسلام السياسي؟
لا أسأل عن بديل تصوّروه أو كتبوا فيه أو نظّروا له. أسأل عن البديل كما تحرّكوا به واقعا ونزّلوا منه ميدانا. أسأل عن خياراتهم وسياساتهم واصطفافاتهم وتحالفاتهم. الواقع أنّهم لم يغادروا الكارثة. واحدٌ مثلي يسأل بصدق أسئلة حزينة: أوّلها، كيف لجماعة سياسية أن تتحوّل بسرعة البرق من أمل بعين جمهور واسع إلى ألم جمعي؟ ثاني الأسئلة: كيف تسمح جماعة لنفسها وهي بهذا الهوان العملي، فارغة بالحساب السياسي، بأن تبدّد كلّ هذه الطاقة من محرقة الى محرقة وأن تتقدّم للقيادة والريادة المجتمعية وهي دون الذين عارضتهم وتصدّت لهم اتهاما بظلم الناس وهم ظلمة ولا شكّ وتضييع الحقوق وقد ضيّعوا حقوقا ولا شكّ؟ ثالث الأسئلة: كيف تكون جماعة سياسة في الحكم سنة بعد سنة ولا تتعلّم ممّا ترتكبه من أخطاء ليتحسّن الأداء بما يمنع عنها قدرا مخيفا صار محتوما؟ رابع الأسئلة وأخطرها: كيف لمن هو متّصل بالإسلام، مرجعيّة أو مقصديّة، أن يكون في سوء مركّب كهذا؟
علاقتي بالإسلاميين مدّة ثلاثين سنة كانت علاقة انتظار. كنت أنتظر منهم للناس وللسياسة وإحياء المجتمع وللإسلام الكثير الكثير. كنت أبني انتظاري هذا على عدة أمور. الأمر الأول أنهم يشكّلون كتلة ملتزمة متراصة الى حدّ معقول ومقارنة بغيرهم. الأمر الثاني أنّ تقييمي للأنظمة التي عارضها الإسلاميون وغيرهم أنها أنظمة فاسدة لا تستجيب لأحلام وآمال جمهور واسع. الأمر الثالث الإرتباط بالإسلام. طبعا تغيّرت والحمد لله أنني تغيّرت وكيف لا أتغيّر؟ ما عادت العلاقة بهم علاقة بأفكار وما عاد النظر فيهم نظرا في شعارات. هم منذ فترة في الميدان: يختارون ويقررون ويوجهون ويتحالفون. هم الآن واقع بعد فكرة وحسّ بعد معنى. هناك مقاييس صارمة وعادلة في كلّ شيء ولكلّ شيء لا علاقة لها بإيديولوجيا وعصبيات ولا علاقة لها بأحلام وانتظارات. هناك من يعادي بالفكر وباللون الحزبي وبالمفردات وبالتوجهات. الواحد اذا اعتمد على مثل هذا يمكن أن يظلم ويبخس الناس أشياءهم. الإعتماد على ما يكون من المرء وبالتجربة وقد سنحت أخيرا الفرصة لتقييم الإسلاميين وهؤلاء اعتمدوا السرّية فترة طويلة وتحججوا بالظلم المسلّط عليهم وبالحملات التي استهدفتهم. السؤال بشأنهم ونحن نتابع ما هم فيه منذ 2011: هل ينفعون أم هل يضرّون.
خلال السنتين من 2011 الى 2013 كنت مترددا جدا بشأنهم. طبيعي فالوضع انتقالي وهم يرممون جماعتهم ويعودون من المنافي ويخرجون من العزلة ولكن وبداية من صائفة 2013 بدأت الرؤية تتّضح في اتّجاه ادراك أن لا خير منهم يأتي للناس. هم أصلا لا يفكرون مجرد التفكير في خير يأتي منهم للناس وكلّ تفكيرهم في خير يأتي لهم من الناس أو يأتيهم بالناس. في بنية تفكيرهم: جماعة لا مجتمع والأخوة لا مواطنيهم. صحيح بن علي طحن مواطنين وظلم مواطنين وكذلك فعل بورقيبة وكذلك فعل على مدى عقود حكام عرب ولكن هؤلاء فعلوا ما فعلوا تعدّيا وظلما من دون تأسيس لذلك على اعتقاد. المشكلة مع الاسلاميين أنهم يؤسسون بالاعتقاد لظلم يزيد وينقص حسب درجة ما يبلغونه من سلطة وينالونه من تمكين. أقصد بالإعتقاد تصنيفهم للناس بين اخوة وغير اخوة. الدولة لا تقوم على اخوة وغير اخوة وإنما على مواطنة ومواطنين. عندما يتعلق الأمر ببلد كتونس فكلّ التونسيين اخوة اذا كان القصد اخوة ايمان ودين فهم مسلمون بالوراثة أو بالثقافة او بالعادة والإنتماء أو بالحماسة. ماذا فعل الاسلاميون؟ سيّجوا جماعة باسم الدين وحصروا الاسلام فيها وانتقلوا بهذه الهندسة الى السياسة والآن الى الحكم وادارة شؤون الناس. لا يغرنّكم تلوين المفردات ولا الرقص بالمواقف والتصريحات: هكذا هم جوهرا ونفسية وذهنية وهكذا كانت صناعتهم أو برمجتهم الأولى.
صحيح السيسي ديكتاتور وقاتل ولكن، وهذه شهادة لله، لو تمكّن بديع مرشد الإخوان لقتل من المصريين أضعاف ما قتل السيسي ولحسب الإسلاميون المصريون دماء غير الإخوة أكثر السوائل شبها بالماء بل أقلّ من الماء لأنها كافرة نجسة. عنف السيسي عنف قوة وسياسة، عنف الأسلاميين اذا قدروا عنف قوة وسياسة وعقيدة ولقد قتلت العقائد، وهي التى كانت للحياة والإحياء، أضعاف ما قتلت السياسة والقوة مجتمعتين. عودوا الى خطابات بديع المصري على منصّة رابعة قبل المجزرة واربطوا بين الكلمات وما تفتح عليه وما تبشّر به. شهدنا مأساة سوريا وتابعنا عشرات المذابح: ذبح النظام وذبحت الجماعات. لم تكن من الإسلاميين، شرقا وغربا، الا ادانات النظام وهو مدان ولا شكّ ولكن ماذا لو سقط بشار وتمكّنت الجماعات؟ داعش أو النصرة فلا فرق؟ كيف كان كلّ ذلك التماهي مع جماعات الذبح في سوريا والعراق وليبيا بين اسلاميين تونسيين قالوا أنهم ينتقلون من اسلامية الى ديمقراطية؟ مشكلة كبرى بل هي كارثة.
كل سلوك الاسلاميين داخل تونس وخارج تونس ربطا بالملفات العابرة ارتبط بالعقدي (الأخوة) لا بالسياسي (المطلب الديمقراطي). عندما أكون ديمقراطيا حقا فلا بشار يلزمني ولا الجولاني يلزمني، لا السيسي يمثلني ولا بديع يشرفني. وعليه فالديمقراطية على ألسنة الاسلاميين كذبة كبرى يناورون بها ويزدوجون لقضاء الحاجات. عمقا يريدون السلطة ويسعون فيها. اذا تمكنوا من ذلك بالديمقراطية يذبحونها بعد حين ولا مشكل عندهم اذا بلغوا ذات السلطة بانقلاب وقد رسموا الخطط لألف انقلاب وانقلاب أو اذا بلغوها عبر تحالفات وشراكات عابرة لحدود الوطن وكان من هذا خلال السنوات الماضية وتبيّن أنّ المعوّل عليهم لا يقولون بشراكة وتشريك وإنّما يوظّفون ويكلّفون بمهمات محدودة في الزمان والمكان. حلم شعوبنا ديمقراطي اذ القيميّة الديمقراطية، لارتباطها بالحرية مثلا وحلما، تبقى أرقى ما بلغه الفكر السياسي ولكن القول بأنّ الاسلاميين العرب قد يقودوننا الى الديمقراطية ضرب من الدجل. يمنعهم اعتقادهم من الإضطلاع بهذا الدور وليس المقصود بالاعتقاد هنا هو الاسلام حاشاه.
المقصود تأليف عجيب غريب وتركيب أرى أنه من نفخ أبالسة شياطين. ماكيفيل يرتّل القرآن، هكذا الاسلاميون. انظروا ماذا يفعلون في تونس بالثورة والديمقراطية، انظروا من يحالفون، انظروا كيف يرشون، انظروا كيف يحمون اللصوص، انظروا كيف يندسون ويوظفون ما تقع عليه أيديهم، انظروا كيف يبتزون ويقايضون. قاسم مشترك وحيد لكلّ هذا الفعال: الجماعة ومصلحتها ومن يرى الأمور هكذا لا يقدس، جوهرا، الّا نفسه. لا يقدس الله ولا يستطيع ولا يقدس حقًا ولا يقدس فكرة. قلت بداية أنّ نهاية الإسلام السياسي في تونس ستكون أمثولة لأنّ الانهاء لن يكون بجنرال عسكر ولا بوفاق سياسة ولا بتدخل خارج. سينتهون من فرط وعي الناس بأنهم ضرر لا نفع يرجى منهم ومن فرط غضبهم. بأماكن عديدة غيّبت القوة الغاشمة الاسلاميين. هنا سيغيّبهم يأس الناس منهم وقبل أن يكون ذلك يقفز اسلاميون كثر من السفينة لتستقرّ الجماعة على حقيقتها المخفية: شيخ بدائرة ولاء قبيح عماده مصالح رخيصة وفكر مدمّر بائس.
لن تقترن غضبة الناس على الاسلاميين بغضبة على اسلام فكثير من الغاضبين يؤصّلون بالاسلام الذي يعرّف خدمة الناس سيادة، يؤصلون غضبهم على الاسلاميين بدين الله القويم.

شارك على :
المحور العربي © كل الحقوق محفوظة 2023