كتب هذيلي منصر: الخميني في ذكرى رحيله، زمن الحصاد

منذ بداية الاحداث في ايران وحضورها منذ أخر السنوات السبعين مناطا إعلاميا يوميا كان إهتمامي ككثير من شباب جيلي بالثورة وعنوانها الأبرز ممثّلا في الامام الخميني. كان في البداية اهتماما عاطفيا وكان التركيز على حدث الثورة بسنّ كنّا نفرح بكلّ ثورة بل نتحرّق شوقا إلى كلّ جديد يقلب الاوضاع وهكذا مزاج شباب يعيش الثورة فيزيولوجيا صورة فورة دمه وتوقه إلى الجديد.

بعد ذلك صار المرء يقارب ويفهم ويسأل ويتوقّع. كانت المفردات بين سياسية وفكرية ودينية. خلال ما يقرب من العشرين سنة الماضية تغيّرت عندي المفردات وأنا أفكّر في ايران وشخصية الخميني. خلال هذه الفترة انفتحت تفكيرا على التصوّف وكان لي اطّلاع محترم على التصوّف. إطّلاع لم يكن ليحوّلني صوفيا ولكنّه فعل في منهج تفكيري وتعرّفي على الاسلام وهندسته. هذا الإطّلاع قادني رويدا رويدا إلى البحث في العرفان. لم أنفق كثيرا من الوقت لفهم أنّ البعد الأبرز في شخصية مرشد ثورة ايران الأوّل هو بعد العرفان.

الخميني كان أستاذ وشيخ عرفان بل إنّه بشهادة عارفين عاشروه وجالسوه علامة فارقة في هذا الحقل أو المضمار. ليس العرفان مذهبا ولا هو دينا ولا يعني هذا أنّ العرفان خصيم مذهب ودين. العرفان منهج يقوم على تمرين المذهب والدين لا على نظرية المذهب والدين. هناك علم بالدين قد تحصّله بالكتب والمحاضرات والمدوّنات. ولكن العلم بالدين غير المعرفة بالدين. المعرفة بالدين تعني ذوقا له وتخلّلا به وشرط ذلك حميمية وجدانية ومخاضات باطنية عميقة. العرفان مشتقّ المعرفة بهذا المعنى ولا يعني هذا أنّ العارف لا يبلغ علوم الدين. لا. هو يبلغها بمستويات قياسية إذا أراد ولكنّه لا يخلط بين علم وعرفان.

التجربة العرفانية تضمن إذا استمرّت وامتدّت تغييرا عميقا وكيفيا. هناك نظام ادراك مواز كامن في كلّ انسان يتحرّر بالسلوك العرفاني أو الصوفي. سمع آخر وابصار آخر وربط آخر للظواهر وتأليف بين الأحداث آخر. هناك بلوغ سعيد لمستوى آخر من النور يسمح بتشكّل عين أخرى. قد يرى العرفاني خيرا حيث ترى سيئا وقد يرى أملا وبشارة حيث ترى أنت ألما وانسداد أفق. يصبح العرفاء ساعة تحقّقهم في مقامات روحية عالية قادرين على بثّ طاقة عاتية وعلى التأثير في من حولهم تأثيرا هو أشبه بالسّحري.

عندما يعود المرء إلى خطب الخميني في مسجد جمران سنوات الثورة الأولى ويرقب التأثير الضخم الذي كان له على ايرانيين من أوساط اجتماعية ومستويات ثقافية متباعدة يفهم أنّ سرّ الرجل قلبي. تفجّرت بداخله روحانية هائلة وفجّرت ما حوله. البث والتلقي في سياق هذا الرّجل ليس فكريا وليس سياسيا ولا حتّى دينيا بالنّظر إلى ما تطوّر نحوه سياق الدّين. كان يحدّث في الحسين مثلا ولكن لم يكن حديث ذكرى ووقوف على طلل مجد. لا. كان ينقلُ إلى الحسينية بنسب معجزة في كثير من الاحيان. لو كان الخميني مما يفسّر بالسياسة لذهب كما ذهب كثيرون. عرفانيته هي مناطه ومحور حركته وإلى هذا المناط تحضر السياسة عنده تجلّيا.

كان يقول منتصف الستينينيات أنّه ومن معه سيعلّمون العالم أنّ قوانين الروح أقوى من قوانين المادّة. هل هكذا مشروع يعرّف سياسيا؟ لا. هو مشروع عرفاني فالسّالك يقضي كلّ عمره ليفهم ويرى أنّ قوانين الرّوح قاهرة وأنّ حجُب المادّة وهم وسحر. قد يمرّ مشروع روحنة العالم بالسّياسة ولكنّه لا يقف عندها. وقد ينجح هذا المشروع وقد يفشل ولكن من المفيد أن نتعرّف على هذا المشروع في جوهريته التي قصدها الخميني. وقد يكون المشروع الايراني قد شذّ عن هذه الجوهرية بنسب تزيد وتنقص ولكنّ البحث هنا في الرؤية الخمينية. كان الرّجل وهو في قلّة يحدّث المحيطين به عن تغيير العالم وما لبث أن سمّى سيدة العالم شيطانا هو الاكبر بين الشياطين. زاد ووصف اسرائيل بغدة سرطان وتحدّث عن زوالها الحتمي. يقين كهذا لا يأتي من فكر ولا يأتي من عقل. وحده القلب يذهب إلى هكذا حدّ وعقل العارف قلبه وفكره قلبه ويده قلبه وعينه قلبه وقدمه قلبه. هيّ كلّية قلبية إذا تمتّنت ومحّصها الزمن حوّلت الذات تحوّلا بعيدا.

لمّا توفّرت لي فرصة زيارة ايران والتعرّف إلى ايرانيين من أوساط مختلفة وفي بيئات متعدّدة أدركت أنّ الروح الخمينية فعلت بشكل ناجع وجلي في شرائح ايرانية واسعة. صحيح ليس كلّ ايراني خمينيا ولكن للخمينية هناك قاعدة شعبية واسعة يصعب زلزلتها وزعزعتها. وما فهمته أكثر أنّ البنية الذهنية العميقة لإيران كانت طالبة ولا تزال لرجل بمواصفات الخميني. هناك باطنية في الموسيقى الايرانية كما في الرسوم والهندسة والزخرفات وهناك سمت ايراني ترجمته صمت وتأمّل وسكون حركة وهدوء وهذا يلمس في شوارع ايران الواسعة من دون أن تكون صاخبة.

عبقرية القوم باطنية لم تتحوّل رغم القرون. جاء الاسلام فتلوّن بها وكان مذهب سنة بإيران فتلوّن المذهب بها ثمّ كان تحوّل إلى التشيّع وبقيت الذائقة الطاغية باطنية. لهذا فإنّ الخميني، الذي قد يبدو لمن هو خارج ايران فلتة استثناء وحدثا غريبا معجزا، ليس سوى تعبيرا عن شخصية ايرانية عميقة وجامعة بمستويات عالية. للرّجل مزاياه ولا شكّ ولكن خصوصية بيئته الاجتماعية والتاريخية والثقافية تفسّر الكثير. من الصّعب جدا رؤية ظاهرة مشابهة تتبلور وتأخذ مداها في العراق رغم أنّ العراق أقدم تشيّعا. في الفضاء السني تبلور ظاهرة شبيهة ليس ممكنا إلا عبر التصوّف ولكن بمستويات أدنى. كان الشاه نسفا قاسيا لشخصية الايراني العميقة وحضر الخميني حضوره المظفّر لأنه كان صدى وصورة تلك الشخصية.

ليس هينا ما أنجزه الرّجل وقدر عليه وليست هيّنة الدينامية السياسية والثقافية والحضارية التي أطلقها. يمكن القول ببساطة أنّ ايران فرضت على أعتى العقول سطوة اللامتوقّع أو المفاجئ. أطلق فرنسيون على الخميني وجماعته بداية الاحداث تسمية “مجانين الله”. الان صارت حاجة ملحّة إلى العبقرية والذكاء لفهم ما يأتي المجانين. فتوح ايران ستزيد خلال الفترة القادمة وسيزيد معها الاهتمام بالخميني والخمينية. في مستوى الفكر والفلسفة والدين سيكون إهتمام ضخم بالعرفان.

بعد أشهر قليلة ستكون ايران بقلب حرب تخرج منها منتصرة حتميّا أو أنّ اليأس من إسقاط نظامها سيرتدّ تبجيلا محسوما لدورها وحضورها في المنطقة. عندها تكون ثورة ايران قد بلغت الأربعين أو الأشدّ. قال الخميني وكرّر أنّ ايران منتصرة حتما. هو قال وكثير صدّقوه. عندما يكون يقين قول وإلقاء سمع وتصديق يكون فعل في التاريخ عظيم. وفي العامّ فإنّ المرء ينظر في الحصاد فإذا هو هابه وأكبره تذكّر البذر والزارعين.

شارك على :
المحور العربي © كل الحقوق محفوظة 2023