لا تكمن المشكلة في قراءة التاريخ…

لا تكمن المشكلة في قراءة التاريخ…

بقلم : فوزي حساينية -كاتب جزائري|

 حدث في السنوات الماضية أنَّه كلما زار مسؤول إيراني الجزائر، أو تمَّ تنظيم نشاط ثقافي إيراني ببلادنا إلا وأمطرتنا فئة من الجزائريين  الذين أوغلوا في التخندق المذهبي بوابل من التحذيرات والتنديدات من خطر الروافض ! فالتعامل مع البوذيين والهندوس والوثنيين والمسيحيين أمر عادي أما التعامل مع الإيرانيين فخطر ساحق ماحق ! وفي هذا المقال رد على واحد من أُولئك الجزائريين الذين كلما ذُكِرَتْ إيران هرع إلى توظيف بُعبعْ التاريخ لتحذير الجزائريين من مغبة التعامل مع الإيرانيين..

يا أخي المحترم، المشكلة لا تكمن أبدا في قراءة التاريخ، المشكلة الأساسية والتحدي الرئيس هو كيف نقرأ وقائع التاريخ من خلال وضعها في سياقها الصحيح ؟ والمسألة في جوهرها أبعدُ وأكبرُ من أن تتلخص أو تنحصر في الصراع بين الشيعة والسنة، كما هي أطروحتك الأساسية والوحيدة، سأقرأ التاريخ كما طلبتَ مني بإلحاح أن أفعل مفترضاً بذلك أنني لست ممن يقرؤون التاريخ، لكنني إذا قرأتُ التاريخ فلن أفعل ذلك من هذا المنظور الضيق صراع السنة ضد الشيعة أو العكس، مناهج قراءة التاريخ وفهمه تطورت بشكل مذهل، ومن يُصِّرون على إبقاءِ أنفسهم بمعزلٍ عن هذه التطورات يظلمون أنفسهم ويحرمون عقولهم من الاستمتاع بواحدة من أهم منجزات العقل الحضاري المعاصر في فهم مسيرة الإنسان عبر دروب التاريخ.

وإنني أقترح عليك بدوري أن تقرأ التاريخ الأوروبي من زاوية الصراع بين الكاثوليك والبروتستانت مثلاً لتُدركَ حقيقة أن الصراع بين المذاهب داخل الدين الواحد ورغم ما يتضمنه من سلبيات، هو عنصر من ديناميكية المجتمعات وإثراء أديانها ونظرتها إلى الكون وإلى الآخرين، وأن الأمر لا يتطلب كل هذا الهوس المذهبي وتكفير الآخر وإخراجه من الملة لمجرد أنه يختلف معي في جوانب من الحقيقة التي نؤمن بها جميعا. فالإسلام دين عالمي ولا يمكن حصّْره في رؤية مذهبية واحدة تَحْكُمُ بالاستقامة والنجاة على قوم، وتحكم باللَّعنة والكفر والضلال على باقي الأقوام التي دخلت في دين الله أفواجا منذ النصف الأول من القرن الهجري الأول . 

التاريخ الإسلامي وغير الإسلامي مليء بالصراعات والاقتتال بين الطوائف والمذاهب، ودورنا هو أن ندرس ونفهم التاريخ لتوظيفه في بناء حاضرنا ومستقبلنا، لكن أين توجدُ الفائدة والمنفعة عندما نقرأ التاريخ على طريقتك، لنجد أن الخُلاصاتِ التي انتهيتَ إليها ، لا تزيد على إعادة مضغ ما تم مضغه عبر القرون:” الشيعة أخبث خلق الله، روافض كفرة، لعنة الله عليهم، زنادقة ..” هل تُسمي هذه الخلاصات واللعنات، قراءة للتاريخ !؟ ذكرتَ العراق، لكنك لم تذكر أن الذين مولوا الحرب على العراق هم من السنة وليس من الشيعة، وأن الذين فتحوا أراضيهم للجيوش الأجنبية ليسوا الشيعة بل السنة المجاورين للعراق ، ثمَّ هل تريد من الإيرانيين أن لا يهتموا بما يجري على حدودهم ؟ هل توجد دولة في العالم تستطيع أن تتجاهل مايحدث بجوارها وعلى حدودها ؟ والتاريخ له أدواره وتعقيداته ففي زمن الشاه كانت إيران أكبر قاعدة أمريكية في الشرق الأوسط، وكانت العلاقات مع إسرائيل أكثر من حميمية في الوقت الذي كان فيه العرب بوجه عام يتحملون عبء المواجهة ضد القوى الاستعمارية ، والكيان الصهيوني، وهانحن اليوم نشهد انقلابا للمشهد يكاد لولا بعض الاستثناءات أن يكون كاملا، فإيران اليوم خصم عنيد للولايات المتحدة والكيان الصهيوني في حين يتزعم بعض العرب وبحماسة غبية توشك أن تتحول إلى وَلهٍ صوفي حملات التطبيع مع آل صهيون الذي يستعد هذه الأيام ليقضم أجزاء أخرى من الضفة الغربية رغم توقيعه لما يسمى باتفاقيات السلام مع كلٍ من مصر والأردن.

 وبالنسبة لما ذكرته من سب عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، والصحابة الكرام، فأعلم أن من يفعل ذلك إنما يُسَّفِهُ نفسه قبل كل شيء، فما يُضِيرُ عائشة رضي الله عنها أن يقول القائلون عنها أقوالهم تلك، وهي زوج خاتم الأنبياء،أما الصحابة فهم جزء من تاريخ الإسلام من أحبهم فقد أغنى نفسه ومن لم يحبهم فلن يضرهم ذلك شيئا.

  ثم إن الحضارات والأمم تتصارع اليوم على السيادة في الأرض، وعلينا أن ننظر للعلاقات مع الجمهورية الإسلامية في إيران اليوم من منظور التفوق الشامل والكاسح للحضارة الغربية علينا،وليس من منظور الروافض والنواصب،إيران اليوم دولة قطعت أشواطا كبيرة في بناء مشروعها الحضاري على مختلف الأصعدة، فأكثر من إحدى عشر جامعة إيرانية دخلت التصنيف العالمي لأفضل الجامعات في العالم،فضلا عن الصناعات العسكرية، والتكنولوجيات النووية والدقيقة وغيرها من الأمور التي نحتاج إليها بشدة، ويمكن الحصول عليها من خلال التعاون والتآزر، وليس من خلال الرفض والنصب، لن أنس دعم إيران للمقاومة الفلسطينية، والمقاومة الوطنية اللبنانية، ولا يجب أن ننسى المكانة التي تتمتع بها اللغة العربية في إيران، انطلاقا من الدستور الإيراني الذي خصص المادة السادسة عشرة بأكملها للغة العربية،وفي الجامعات إلى وسائل الإعلام، يجب أن لا تكتفي بقراءة التاريخ بل يجب أن نقرأ التاريخ على ضوء الحاضر والمستقبل هذا هو الأهم والمطلوب، والباقي كله مضيعة للوقت.                                                       

وانَّـه مما يلفت النظر أنك قلق مــن وجود إيران في العراق ولكنك لست قلقا من وجود أمريكا وإسرائيل وكل أمم الأرض الأخرى في العراق أيضا،فإيران لديها حدود شاسعة وتداخل اثني وديني، وعلاقات تاريخية مع العراق، وهو مالا يمكن للغربيين إدعاءه ولأكون أكثر وضوحا وتدقيقا هنا فأنا لست من أنصار التدخل الإيراني في العراق، ولا التدخل التركي في ليبيا، أقول ذلك : ردا عليك وعلى أؤلئك الذين يطبلون اليوم للتدخل التركي في ليبيا وكأنه فتح عثماني جديد،أو أولئك السياسيين الذين فُرضوا فرضاً على العراق فجعلوا من هذا القطر العربي العريق تابعا وفريسة للصراعات الدولية والإقليمية بعد أن كان العراق سيدا مستقلاً، ذلك أن الوضع الصحيح الذي يجب أن يؤمن به المثقف العربي اليوم ويعمل انطلاقا منه هو الإيمان بضرورة بناء المشروع العربي الذي يعيد للإنسان العربي دوره ومكانته وقدرته على على التحاور مع قدره التاريخي، واستغلال “عبقرية المكان” التي منحته مكان المركز والقلب من جغرافيةِ العالم، المشروع العربي المنشود سيعيد للعروبة دورها، ويمنح الرجل العربي والمرأة العربية رسالتهما المُغيَّبة ودورهما المعطل، ويفتح أمام الطفل العربي أفاقا واعدة على أبواب المستقبل، ولن يكون الإنسان العربي يومها عدوا لإيران ولا عدوا لتركيا، ولكنه سيتحاور معهما من موقع الندية والمصالح المشتركة، وبموجب الانتماء إلى المجال الحضاري العربي الإسلامي المشترك، أما بالنسبة للقوى الأساسية في الحضارة الغربية، فلا يوجد أدنى شك في أن الإنسان العربي وهو يبني مشروعه الحضاري، ويعيد اكتشاف ذاته وقدراته، لاشك في أنه سيعيد النظر في العلاقات الراهنة المختلة كلية لصالح الغرب ومصالحه الضخمة السارية على حساب الوطن العربي وشعوبه المقهورة، كما أنه لن تكون ثمة إمكانية ليفتتح الآخرون قواعد عسكرية في المنطقة العربية غربيين كانوا أو غيرهم من قوى الشرق والغرب التي تتكالب كلها على خدمة مصالحها على حساب الجسد العربي المريض المنهك والممزق،وبالتأكيد ستكون هناك شراكات ومصالح مشتركة وتضامن إنساني لكن لن تكون هناك فرصة للهيمنة والاستغلال والتمدد المجاني في الجغرافيا العربية كما هو الوضع حاليا، ومن أكثر البديهيات وضوحا أن نكرر القول هنا على أنه لن تكون هناك أية فرصة للتصالح مع المشروع الصهيوني بمنطقه العدواني وفلسفته التوسعية التي قادت على مدار المائة سنة الماضية إلى تخريب العلاقات الإنسانية بين العرب واليهود الذين طالما وجدوا في الفضاء العربي الشاسع مجالا للعيش الكريم بعيدا عن سياسات الاضطهاد والعداء والتربص.                                

و في الأخير وتجنبا للإطالة ، دعني أذكِّركَ ياأخي بقوله تعالى في الآيتين 104 و105 من سورة الأنبياء: ( ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون، إن في هذا لبلاغاً لقوم عابدين )، السيادة في الأرض للصالحين الذين يحترمون النواميس الكونية، الصالحون، لم يقل السنة، أو الشيعة، لم يقل المسلمين أو غير المسلمين، الصالحون فقط، (إن في هذا لبلاغا لقوم عابدين ) يمكنك أن تعبد الله، لكن عبادتك لله سبحانه لا تجعلك بصورة آلية أفضل من الآخرين، ومتفوقا عليهم في السيادة والحضارة، بل عليك أن تعمل  بالمعنى الذي يقتضي التفاعل مع عظمة الحياة ومقتضيات النهوض برسالتك،هذا هو الطريق، وليس التمترس المذهبي أو الصوفي المُدجَّن.وإذن لندع الخلافات المذهبية جانبا،ولنضع في أذهاننا وتفكيرنا أن احترامنا لتعدد الحقائق التي يؤمن بها الآخرون، لن يضيرنا نحن الذين نؤمن وندعو إلى الحقيقة القرآنية المطلقة، والكتاب الكريم نفسه يحيطنا علما أن التعددية جزء من الواقع الإنساني ” وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَّا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ… ” ( 145 البقرة ) واحد من الحاخامات اليهود المؤيدين للسلام وكان صديقا للراحل ياسر عرفات، كان يقول: ” الحقيقة في السماء أما هنا على الأرض فتوجد حقائق ” وإذا الطريق واضح بيِّن ، لنحاول أن نصلح في الأرض انطلاقا من  الحقيقة التي نؤمن بها، ولنجعل من بين أهم مقتضيات سعينا للإصلاح في الأرض احترام الحقائق التي يؤمن بها الآخرون، وننزل بذلك عند قوله تعالى في الآية رقم 148من سورة البقرة :” وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا ۖ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ ۚ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ” فتعدد الوجهات ليس مانعا من الاستباق إلى الخيرات والإصلاح والتعاون المثمر، فيا أيها العربي كن عربيا.                       
.                                                                              

شارك على :
المحور العربي © كل الحقوق محفوظة 2023