لا مستقبل للدول القزمية بعد اليوم: نظريّة الاحتواء عند بريجنسكي…بقلم د. عقيل البكوش*

لا مستقبل للدول القزمية بعد اليوم: نظريّة الاحتواء عند بريجنسكي…بقلم د. عقيل البكوش*

مقدمة:

في ضوء الأحداث الجارية اليوم في أكرانيا، تكثر التساؤلات حول حقيقة ما يجري: هل هي “الإمبريالية” الروسية التي تريد أن تستعمر شعبا ضعيفا؟ هل هي الأحلام القومية للأكرانيين التي تريد الفكاك من هيمنة الروس؟ هل هي المؤامرات والدسائس الأمريكية والغربية التي تريد اضعاف روسيا ومن ثمة احتواءها؟

الحقيقة أنّ الاحتواء هو سياسة معروفة تتبعها الدول القوية لإخضاع الدول التي قد تؤدي مواجهتها عسكريا إلى خسائر جسيمة للدولة التي تعمل على الإخضاع.

من أجل ذلك رأينا أن نشرح نظرية بريجنسكي في الاحتواء من أجل تسيُّد العالم وقيادته.

نظرية بريجنسكي:

 لئن كانت مبادئ براون وكارتر وهيغ تُركِّزُ أساسا على ضرورة حماية مصالح الولايات المتحدة الأمريكية في العالم باستعمال القوّة الغاشمة، وهو ما حصل في يوغسلافيا وافغانستان والعراق، فإنّ أطروحة مستشار الأمن القومي في عهد الرئيس الأمريكي جيمي كارتر، زبيغينيو بريجنسكي، مازالت تصنع السياسات الأمريكية إلى جانب أطروحات هنري كيسنجر وصامويل هانتنغتون وبرنار لويس وفوكوياما، حتى يومنا هذا.

 وترى أطروحة بريجنسكي أنّ امتلاك عِدّة دول للسلاح النووي، يعني أنّ «نتيجة الصراع ستقرّر في نهاية المطاف بوسائل غير عسكرية، وبالتالي فإنّ الحيويّة السياسية والمرونة الايديولوجية والدينامية الاقتصادية والإغراء الثقافي، أصبحت كلّها الأبعاد الحاسمة»[1].

 يدعو بريجنسكي، إلى جانب الضغوط الاقتصادية والسياسية والعسكرية، إلى سياسة الاحتواء، لدرجة أنّه لا يرى مانعا من انضمام روسيا إلى الاتحاد الأوروبي وحتّى إلى الحلف الأطلسي، شريطة قيامها ب”تحديث” اجتماعي و”إصلاحات” ديمقراطية تؤدي إلى ما أسماه «الإندماج الفعلي بين النظام الأمني عبر الأطلسي (يقصد التحالف الأمريكي – الأوروبي المُجسّد بحلف الناتو) والنظام الأوراسي عبر القاري (يقصد بالأوراسي قارتي أوروبا وآسيا، وعبر القاري: بين القارات)»[2].

 إنّ انضمام روسيا إلى حلف الناتو، حسب بريجنسكي، رهين بتعزيز «روسيا مؤسساتها الديمقراطية الداخلية» وتحقيق «تقدّم ملموس في التطوير الإقتصادي المعتمد على السوق الحرّة»[3]. وقد بدأ استدراج روسيا بضمّها إلى مجموعة السبعة عام 1998 ليصبح إسمها مجموعة الثمانية رغم عدم استكمالها لشروط الانضمام. ثمّ وعلى هامش قمّة المجموعة لسنة 1999 تمّ توسيع المجموعة لتصبح مجموعة العشرين بضمّ كلّ من أستراليا والسعودية والهند وجنوب إفريقيا وتركيا والأرجنتين والبرازيل والمكسيك والصين وأندونيسيا وكوريا الجنوبية.

يدعو بريجنسكي، إذن، إلى سياسة أمريكية جديدة في العالم تحفظ مصالح الولايات المتّحدة الأمريكية وتضمن احتفاظها بقدرتها على قيادة العالم والتحكّم فيه «بوصفها القوّة العظمى الحقيقية الأولى والوحيدة والأخيرة»[4]، لا من خلال التلويح بالقوّة العسكرية فحسب، وإنّما أيضا من خلال هندسة نموذج سياسي واجتماعي وثقافي يستقطب دول العالم وشعوبه تكون الولايات المتحدة هي المتحكّمة في اشتغاله. فالولايات المتّحدة لا تعمل على السيطرة العسكرية فقط، وإنّما تعمل على هندسة التمثّلات الاجتماعية في العالم بأسره، من خلال الثقافة والفنّ والرياضة والإعلام ووسائل الاتصال وتكنولوجيات المعلومات، ومن خلال تغيير المخاييل وصناعة النماذج التي من بينها النموذج الديمقراطي الليبرالي. وذلك بإغواء الشباب ودغدغة رغباتهم الذاتية في «الحصول على الأقراص المدمجة، والافتتان بالأفلام والمسلسلات الأمريكية، والانجذاب إلى موسيقى الروك، وانتشار الألعاب الرقمية، وانتشار سراويل الجينز، وحتّى في تشرّب التقاليد المحلّية للثقافة الشعبية الأمريكية»[5].

 يقترح الاستراتيجي الأمريكي، البدء بالقارّة الأوراسية، بسبب القيمة الجيواستراتيجية لهذه القارّة، وأيضا بسبب المستجدّات السياسية (عند تأليف الكتاب) والمتمثّلة في انهيار الاتحاد السوفياتي وحلف وارسو بعد أن وقع في فخّ افغانستان الذي نصبته الولايات المتحدة بإحكام، ممّا يجعل هذه الأخيرة أمام فرصة حقيقية لاستدراج الدول المستقلّة عن السوفيات، أو الخارجة لتوّها من حماية حلف وارسو، إلى حظيرتها.

 نتيجة لذلك، انضمّت عديد الدول التي خرجت من مظلة الاتحاد السوفياتي وحلف وارسو، إلى حلف شمال الأطلسي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، ففي عام 1999 انضمّت دول التشيك والمجر وبولونيا، إلى الحلف، وفي 2004، التحقت به بلغاريا وأستونيا ولاتفيا وليتوانيا ورومانيا وسلوفاكيا وسلوفينيا، في حين التحقت بهذه الدول كل من كرواتيا وألبانيا سنة 2009 ثمّ الجبل الأسود سنة 2017.

 ومع ما يمكن أن تواجهه الولايات المتّحدة الأمريكية من مشاكل حقيقية، يُذكّر بريجنسكي أنّ قِطع الشطرنج الرئيسية في هذه القارّة هي فرنسا وألمانيا وروسيا والصين والهند، وأنّه على فرنسا وألمانيا أن تتخلّيا على حلم استعادة المجد الامبراطوري القديم وأن تتعاونا مع الولايات المتّحدة، لإحتواء هذه البلدان. وقد أكد في هذا السياق أنّ احتواء أوراسيا سيؤدي إلى احتواء العالم بأكمله، ملخّصا الهدف الجيواستراتيجي الرئيس لأمريكا في أوروبا بأنّه يتمثّل في «التّعزيز، عبر شراكة حقيقية فعلا عبر الأطلسي، لرأس الجسر الأمريكي في القارّة الأوراسية، بحيث يمكن لأوروبا الموسّعة أن تصبح نقطة انطلاق قابلة للحياة لنقل النظام الديمقراطي والتعاوني الدولي إلى أوراسيا»[6]، بغاية أن «يُحفّز المجتمع الأمريكي الميول الاجتماعية العالمية التي تُضعف السيادة الوطنية التقليدية. [و]تستطيع القوّة الأمريكية والقوى المُحرّكة الاجتماعية الأمريكية معًا الحضّ على الظهور التدريجي لمجتمع عالمي ذي مصلحة مشتركة. وإذا ما اصطدمتا أو أسيء استخدامهما، قد يجرّان العالم نحو الفوضى وإلى جعل أمريكا محاصرة»[7].

 يتّضح، ممّا سبق، أنّ الاستراتيجي الأمريكي يربط استمرار محافظة الولايات المتّحدة الأمريكية على قيادتها للعالم بقدرتها على إعادة هندسته بشكل يجعل مفهوم السيادة الوطنية مفهوما متجاوزا، ويجعل من انخراط المجتمعات الأخرى في نظام عالمي مشدود بخيوط المصالح الاقتصادية إلى المركز الأمريكي هدفا أمريكيا استراتيجيا، حيث يُعاد استنساخ تجربة تشبيك الاثنيات والقوميات داخل المجتمع الأمريكي ضمن مجال أوسع يشمل العالم بأسره.

 فمثلما تحوّلت الولايات المتحدة من مجتمع قومي ذي تركيبة اجتماعية متجانسة إلى حد كبير ومكوّنة من البروتستانت الانقلوسكسونيين إلى مجتمع متعدّد الاثنيات والثقافات المنصهرة في بوتقة المصلحة الامريكية العليا القائمة على المبادرة الفردية والمصالح المادية والحرية الاقتصادية، يطمح المشروع الأمريكي إلى إعادة انتاج هذه التجربة كونيّا. وقد ساهمت الثورة المعلوماتية وما أنتجته من تقارب بين المجتمعات والشعوب في الاسراع بتشييد الحلم الأمريكي في قيام مجتمع عالمي مشدود إلى بعضه البعض تجلس الولايات المتّحدة في قاطرة قيادته «بحيث أصبحت حدود الدّول خطوطا تُعيَّن على الخرائط أكثر من كونها حواجز حقيقية تعوق حركة التجارة الحرّة وحركة الرساميل المالية»[8].

في هذا المجتمع المزمع بناؤه أيْ المجتمع العالمي المُعوْلم والذي يلاحظ بيير بورديو بخصوصه أنّه «يمكن أن يؤدي مفهوم العولمة معنى التوحيد والإدماج السلمي. لكن ما نُغفِلُه هو أنّ الإدماج غالبا ما يكون شرطا للهيمنة»[9]. وأنّ ما نحن إزاءه، اليوم، على المستوى الدولي هو ذاته «ما حدث في عهود سابقة على المستوى القومي: توحيد السّوق، بالذات الأسواق المالية، وأيضا الثقافية، مع انهيار جميع أنواع الحواجز، الجمركية وغيرها، وأيضا تسارع التواصل المُفضّل من قِبل الأشكال الجديدة للتقنيات التواصلية، والتي تجعل من الهيمنة الكونية لبعض القوى الاقتصادية والمالية أمرا ممكنا»[10]. ويلاحظ بورديو أن ما يبدو وجاهة لفكرة العولمة يأتي من الدعاية لها باعتبارها الفكرة الوحيدة الممكنة «لأنها ثمرة عمل منهجي متّصل، بدأ منذ سنة 1930 من خلال مجموعات ومؤسسات التفكير .[11]«Think Tanks

لم ينس بريجنسكي تأكيد أن المصلحة القومية الأمريكية تقتضي احتواء كل الدول والمجتمعات التي يمكن أن تشكّل خطرا أو تهديدا على بلاده بما في ذلك المجتمعات ذات الثقافة الدينية مثل الدول الاسلامية، إذ «من مصلحة الأمن القومي الأمريكي أن يرى المؤمنون بالإسلام أنفسهم جزءا من المجتمع العالمي الناشئ كما هو الحال بالنسبة إلى المناطق غير الإسلامية الأخرى من العالم الأكثر ازدهارا وديمقراطية حاليا»[12].

خاتمة: لا مستقبل للدول القزمية بعد اليوم:

  في الحالة الأكرانية، ليست أكرانيا سوى ساحة لحرب باردة بدأت مع نهاية الحرب العالمية الثانية واستمرت حتى نهاية الثمانينيات حيث سجلت الولايات المتحدة الأمريكية انتصارها الأكبر بتفكّك الاتحاد السوفياتي وحلف وارسو إبّان حكم غورباتشوف وخلفه بوريس يلتسين، وصولا إلى إشعال فتيل ما عُرف بالثورة البرتقالية في أكرانيا سنة 2004.

بدأت المعادلات تتغير مع تولي فلاديمير بوتين الحكم إذ أعاد النفخ في رماد الحرب الباردة معيدا بناء ترسانته العسكرية دافعا نحو مزيد التصنيع الحربي مكونا جيشا إلكترونيا داهم الولايات المتحدة في عقر دارها إبان الانتخابات الرئاسية الأمريكية التي تنافس فيها دونالد ترامب مع هيلاري كلينتون وانتصر لترامب.

وقع الشعب الأكراني، إذن، تحت أقدام الفيلة: فإمّا أن يطحنه الفيل الروسي بجيشه القوي الرابض على الحدود وبعملائه في أكرانيا، أو أن يطحنه الفيل الأمريكي بعملائه الذين يحكمون اليوم.

تلك أقدار الشعوب الضعيفة والدول القزمية: أن تُداس تحت الأقدام أو أن تخضع ذليلة لهذه القوة أو تلك. فليس أمام هذه الدول القزمية، ومنها دولنا العربية، سوى أن تندمج راغبة أو كارهة ضمن تجمعات كبرى قادرة على كسر أقدام الفيلة الطامعة في كلإ هذه الشعوب، غير أن هذا أيضا يقتضي تضحيات وضحايا.

وفي هذا الخضم نتساءل: ألم يحن الوقت بعد للعرب أن يغيروا وجه التاريخ بأن يلغوا دولهم القزمية ويبنوا دولتهم الكبرى القادرة القوية متجنبين مصير العصف المأكول تحت أقدام القادرين؟

 

* (باحث في علم الاجتماع)

المراجع:

[1]  بريجنسكي (زبيغنيو)، رقعة الشطرنج الكبرى: السيطرة الأمريكية وما يترتّب عنها جيوسياسيا، مركز الدراسات العسكرية، ط 2، سوريا، 1999، ص 11.

[2]  نفسه، ص 83.

[3]  نفسه، ص 115.

[4]  نفسه، ص 205.

[5]  بريجنسكي (زبيغنيو)، الإختيار: السيطرة على العالم أم قيادة العالم، ترجمة عمر الأيوبي، دار الكتاب العربي، بيروت، لبنان، 2004، ص 203 – 204.

[6]  بريجنسكي (زبيغنيو)، رقعة الشطرنج الكبرى: السيطرة الأمريكية وما يترتّب عنها جيوسياسيا، مصدر سابق، ص 83.

[7]  بريجنسكي (زبيغنيو)، الإختيار: السيطرة على العالم أم قيادة العالم، مصدر سابق، ص 8.

[8]  نفسه، ص 161.

[9] Bourdieu (Pierre), « Mondialisation et domination: de la finance à la culture », sur le lien:  https://www.cairn.info/revue-cites-2012-3-page-129.htm

[10] Ibid.

[11] Ibid.

[12]  بريجنسكي (زبيغنيو)، الإختيار: السيطرة على العالم أم قيادة العالم، مصدر سابق، ص 72.

شارك على :
المحور العربي © كل الحقوق محفوظة 2023