لماذا يجب أن نَتَفَهَّم النجاح الإيراني؟…بقلم د. عادل بن خليفة بِالكَحْلة

لماذا يجب أن نَتَفَهَّم النجاح الإيراني؟…بقلم د. عادل بن خليفة بِالكَحْلة

لماذا «الجمهورية الإيرانية»؟

ليس من حق الباحث العربي أن يتناول بالبحث «الجمهورية الاسلامية في إيران»، فذلك تحظره الولايات المتحدة الأمريكية والإمبريالية الغربية، والأكاديمية الرجعية- العربية، والسلفية الجهادية، والإسلام العربي التقليدي، والتشيع التقليدي. فهي إمَّا «شيطان» ينبغي تجنبه (إمبرياليًّا وسلفيًّا) أو «مقدَّس» لا ينبغي تشخيصه.

على عكس ذلك، يحرّضنا محمد حسنين هيكل على تفهم هذه الجمهورية، لأن وُجودها في فبراير 1979، فَكَّ حصارًا إيرانيًّا رهيبًا على العالَم العربي متحالفا مع الوجود الصهيوني والإمبريالية التي أسسته، بعد أن كان الحصار الجِواريّ  ثلاثيا (إثيوبيا وتركيا الأطلسية وإيران الشاهنشاهية)، وقد كان الضلع الأخطر في نظره الاستراتيجي هو الضلع الإيراني.

يرى هيكل أن في تقييمنا للجار الإيراني «ينبغي أن نوازن بين الإيجابي والسلبي فيه»[1]، ويضيف:«لا تهمني الطاقة النووية فيه، وإنما يهمني كيف طوَّر تعليمه ليصل إليها»[2]. ويرى أننا في تقييمنا يجب أن نراعي مصلحتنا القومية العربية، متجنبين أحكام القيمة:« ما يهمني أن لا ينقلب ميزان القوى في الصراع العربي- الإسرائيلي(…) وحفظ التوازنات الكبرى بالمنطقة»[3]. ويتساءل في قلق: « إذا كانت إيران أقرب لتل أبيب منها إلى العرب ستكون الكارثة علينا. فإذا سقط نظام الثورة الإسلامية، أخشى أن يقوم نظام يشبه نظام الشاه في تحالفه مع إسرائيل»[4].

لقد أنجزنا حراكًا ثوريا سلميًّا عام 2011، تماما كالإيرانيين عام 1978 – 1979، ولكنه لم يؤدّ إلى نظام يحفظ مصالح الطبقات الشعبية، ولم يؤدّ إلى مزيد سيادة الدولة، بل أدّى عكسيًّا إلى مزيد تقلص السيادة ومزيد البطالة والفقر والتبعية… فكيف يمكن أن نعاني من التدهور الاقتصادي في حين أننا لسنا في حصار أمريكي – غربي كالإيرانيين؟! وكيف نعاني من تدهور الانتاج المعرفي والتقاني والنظام التعليمي على عكس الإيرانيين، في حين أننا محطَّ «دعم» الخليجيين وصندوق النقد الدولي والدول الغربية ؟!

هنا لزاما علينا أن نحاول فهم الحالة الإيرانية، لا لاستنساخها، فذلك مستحيل، ولكنْ من أجل أن نفتح أعيننا على تجارب النجاح التنموي والسيادي في العالم حتى ننحت منوال نجاحنا من إمكانياتنا الذاتية… ومن تلك التجارب: التجربة السويدية والفينزولية– البوليفارية، والجنوب- إفريقية، والماليزية والإيرانية…

سيكون بحثنا بحثًا في الإبـِسْتِميَّة. وهي الأرضية الضِّمنية التي تقوم عليها المعرفة وأفعال الحياة ووسائل الخطاب في عصر معيّن1.

2- مثال للقراءة المتفهمة لتجربة الجمهورية الإيرانية: ميشال فوكو:

في مايو 1978 طلب الناشر الإيطالي ريزولي من ميشال فوكو مساهمةً منتظمة في جريدة «كورييرا دي لاسيرا»، فاقترح فوكو تكوين فريق « من المثقفين المحققين يذهبون إلى حيث تولد الأحداث- التي هي الأفكار- وتموت»[5]، ملتزما بأن يكون صاحب التحقيق الأول. وقد بدأ بقراءة هنري كُرْبان، الذي كان يشتغل بالمعهد الفرنسي بطهران مكتشفًا هناك الفلسفة والعرفان الإيرَانيَّيْن. طبْعًا، شقّ من العرب لم يُبَالِ بالحدث، وآخرون كرهوه ولكنهم لم يتعاملوا معه موضوعيًّا أو شوَّهوه دون معرفة، بينما حرَّمت السلطة الاقتراب منه[6]…وكان محمد حسنين هيكل، تقريبًا، الاستثناء العربي الوحيد في هذه القاعدة.

زار فوكو إيران، مرتيْن، في ذلك العام، 1978، الأولى من 16 سبتمبر إلى 24 منه، والثانية من 9 نوفمبر إلى 15 منه.

الرجل الذي ركّز مشروعه البحثي منذ مطلع شبابه في سِوَاق السلطة في كثير من الحقول وفي محاصرة الثقافة البورجوازية لليومي، ليدرس في ضوء تجربته المعرفية «مفتاح الحركة الشعبية»[7]، واستراتيجيات السلطة في مواجهتها. قدِم إلى طهران، محمَّلا بسؤال مركزي:« ما الشكل السياسي الذي بمقدوره أن يوفق مستقبلا بين إيران الأعماق وتحديثها الضروري؟!»[8]. اتصل بالمعارضين سرًّا، وبالعسكريين المؤيدين للشاه والمعارضين، وبالمثقفين المتدينين وغير المتدينين.

أ- إبستيمية الثورة الإيرانية:

اكتشف الشاه أن تحديثه «تقليد قديم»، فكان عليه استعمال القهر لفرض تحديث مرفوض من الأكثرية. ولذلك أنتج «سلسلة من الإخفاقات المحرقة»[9]. كان إحياء القومية الآرية القائمة على نقاوة العرق يعني استراتيجية استئصال للوعي الوطني- التشيعي؛ وبذلك تمثل الناس آل بهلوي بماهم «سلطة احتلال»[10].

اشتركت كل المعارَضات في الثورة السلمية: « وأنا أعرف أكثر من طالب من طلاّب اليسار، حسب مقولاتنا- كتب بالأحرف العريضة على اللافتة التي دوَّن عليها مطالبه والتي يمدّ بها ذراعيه عبارة “الحكم الإسلامي!”. طبعًا، لم تكن لهذا المطلب دلالِة سلفية أو إخوانية، بل اكتشف فيها فوكو حدَاثة خصوصية.

لم يكن هناك دينٌ «أفيونًا للشعوب»، في تقصيه الميداني. فماركس نفسه يرى وجود «الدين» بماهو «روح عَالَم لا روح له».

لقد اكتشف فوكو أن التشيعية ليست «معارضة سلبية»، ولا تخضع لمجاراة من حين لآخر:« إنه بشكل اليوم، كما كان بشكله مراتٍ عدةً في الماضي. إنه الصورة التي يأخذها النضال السياسي عندما يعبّئ فئات الشعب. فهو يصنع قوة من آلاف الحالات من الغضب والحقد والفقر واليأس. وهو يصنع بذلك قوة، لأنه شكل من أشكال التعبير، ونمط من أنماط العلاقات الاجتماعية، وتنظيم بَدْئي مَرِن ومقبول على نطاق واسع، ونمط من أنماط الوجود المشترك، وطريق في التحدث والاستماع، وشيء يجعل الآخرين يستمعون إلينا، وأنْ نُريد إرادتهم كما يريدون هُم إرادتنا في الآن نفسه»1، «إنه إسلام من صميم الشعب، لم يتوقف عبر القرون عن إعطاء قوة لا يمكن اختزالها في كل ما يمكنه أن يتعارض مع سلطة الدولة»2. وتلك التواصلية لا يَملكها الإسلام السلفي لأنه متوحّد3 داخل ذاته، مفروض على أهالي المحلّة، من الخارج (كحالة حِسْبة الرقَّة وحِسْبة إدلب أثناء الحرب العالمية على سوريا منذ عام 2011).

يشخص ميشال فوكو هذه الإسلامية التشيعية، بدْءًا بالمؤسسة الدينية. فليس فيها تراتب، كالمؤسسة الدينية الكاثوليكية، مثلا، إذ «رجال الدين فيها مستقلون عن بعضهم البعض». وهناك «تبعية (ولو مالية) لهم تجاه أولئك الذين يسمعونهم (…) ولكن في مقابل ذلك يجب أن تمارس دور الهادى والمرشد للحفاظ على نفوذها»4. فحين تخلى الكاشاني عن الثورة، ألغى الناس ولاءهم له وشعبيَّته5.

فإبِسْتِمِيّة «الحكم الإسلامي» في هذا المنظور، ليست ماضوية وإنما هي في اكتشاف فوكو مستقبليّة، «تقدمية» بمعنى ما وإبداعية6 لأنها مرتبطة بالنقطة المهدوية. فالأمر مسألة بحث، وبعيد في اكتشافه، عن نظام سياسي تكون فيه المؤسسة الدينية قائدة ومؤطّـِرة، إطلاقًا وبنيويًّا7. وقد شرح له المراجع الدينيون « أنه يتعين أن يقوم خبراء مدنيون ورجال دين، وعلماء ومؤمنون بأعمال طويلة لتسليط الضوء على سائر المسائل المطروحة (…)»، كتأكيد الإسلام حقًّ العمل وحق التملك وصيانة الحرّيات والمساواة بين الطبقات وبين الجنسين8.

إنّه مشروع سياسي يسمح في نظره بإمكانية الرّبعة9 لدى الجماهير: « حدث زلزال منذ عشر سنوات في مدينةَ فردوس، وكان يتعين إعادة إعمار المدينة بأسرها. وبما أن المشروع الذي تمّت الموافقة عليه لم يكن يرضي معظم الفلاحين وصغار الصنّاع التقليديين، فقد قاموا بالانفصال وذهبوا تحت قيادة أحد رجال الدين ليؤسسوا مدينتهم بعيدًا – شيئا ما – عن ذلك المكان. وكانوا قد جمّعوا الأموال من سائر أرجاء المنطقة وقرّروا بشكل جماعِي إنشاء مستوطنات واستصلاح قنوات لجرّ المياه وإنشاء تعاونيات، وأطلقوا على مدينتهم إسم «الإسلامية» . وكان الزلزال مناسبة لإقامة بُنَى دينية لا تمثل مكان لغرس روح المقاومة فحسب، بل قاعدة للتأسيس السياسي أيضا. هذا هو ما يُشار إليه عندما يتم الحديث عن الحكم الإسلامي»[11].

في الآن نفسه، يكتشف فوكو أن هذا النظام السياسي سيُضفِي بُعْدًا روحيًّا على الحياة السياسية، فلا تكون عائقا أمام الروحانية، بل «يُصبح وعاءَها الذي يحْتضنها وفرصتها وخميرتها»[12].

لا يُخفي ميشال فوكو إعجابه بهذا «الحكم الإسلامي» :« ما أعجبني بما هو إرادة سياسية. وقد أعجبني في جهده الرامي إلى تأسيس بُنًى اجتماعية ودينية لا ينفصل بعضها عن بعض، استجابةً لبعض المشكلات الراهنة. وقد أعجبني أيضا في محاولته فتْحَ بُعدٍ روحي في السياسة »[13].

ب- طبيعة الثورة : «ثورة سِلمية» وفريدة:

يتساءل ميشال فوكو: « هل تسقط الحكومات دائما بسهولة عندما تنزل الشعوب إلى الشوارع؟».

طيلة القرن العشرين كان يتعيّن لإسقاط نظام معين « وجود أسلحة وقيادة للجيش وتنظيم وإعدادٌ . ولكن ما يجري في إيران له من الأسباب ما يجعله يزعزع المراقبين اليوم فلا يمكنهم أن يجدوه في الصين، ولا في كوبا، ولا في فيتنام، وإنما في موجة بشرية غفيرة دون جهاز عسكري، ودون قائد [بالمظاهرات]، ودون حزب. كما أنهم لن يجدوا فيها حركات سنة 1968. فأولئك الرجال والنساء والذين يتظاهرون وهم يحملون الرايات الصغيرة و الورود، لهم هدف سياسي مباشر. إنهم يهجمون على الشاه وعلى نظامه، منهمكين هذه الأيام في الإطاحة به»[14] ضِمْن سيرورة أرِنة لا تنقطع.

كتب ذلك في الخامس من نوفمبر 1978، متوقعًا عدم إمكانية قهرها، رغم أنها أمام نظام من أقوى الجيوش في العالم، وله «أكثر الأجهزة الأمنية إثارة للرعب»[15].

أخمدَ تمردُ مجتمع بأسره إمكانية الحرب الأهلية التي أرادتها الاستخبارات الشاهنشاهية والأمريكية، «بأيْدٍ خالية من كل سلاح»[16]، بل بسلاح الورود يُهدى للعسكريين والشرطة تمدّدت الثورة من المظاهرات إلى الإضراب العام دون تشتت ولا صراع داخلي بين تغريبيّين ومتدّينين، بين ماركسيين وغير ماركسيين؛ « وكان بإمكان تحرير أكثر من ألف سجين سياسي أن يولّد صراعا بين المعارضين القدامى والمعارضين الجدد؛ وفي الأخير كان في مقدور إضراب عمال النفط أن يزعج راحة بورجوازية في البازار من جهة، وأن يعزّز موجة من المطالب المهنية المَحْضَة(…) بَيْد أن شيئا من ذلك لم يحدث» كما أراد النظام القائم[17]. بالعكس، أمدّ عمّال النفط الثورة «بسلاح اقتصادي عجيب». وانضم إليهم عمال مصانع الفولاذ والأليمنيوم والنقل الجماعي والخطوط الجوية والإدارات الوزارية وحتى الجمارك والضرائب.

المفارقة الثالثة أن غياب الأهداف ذات المدى البعيد، لم تكن عامل ضعف، بل بالعكس، زاد  مطلب الثورة صلابة، إذ «كلما كانت إرادة شعب ما بسيطة تعقدت مهمة رجال السياسة»[18]. ولقد وضع قائد الثورة النظام على حافة السقوط عندما طالب شعبه بـ«استفتاء شعبي» على نوع النظام الذي يريده، ذلك الذي لا يمكن أن تفكر فيه حِسْبَتا الرقة وإدلبْ السلفيتان ولا « مؤتمر أصدقاء سوريا» الإخواني[19].

وبذلك يعترف فوكو أمام هذه الثورة :« إننا في وضع لا يسمح لنا بتقديم النصح للإيرانيين»[20]. وهو يردّ على قارئة إيرانية مقيمة بباريس تأسفت في جريدة « لونوفال أبْسِرْفاتور» لنوع قراءته لهذه الثورة، بأن رسالتها احتوت أمريْن «لا يُغتفران» في نظره: « الخلط بين جميع جوانب الإسلام وأشكاله وإمكاناته في ازدراء واحد من أجل رفضها دفعة واحدة» و « اتهام كل غربي بأنه لا يهتم بالإسلام إلا بسبب احتقار المسلمين»، مؤكدًّا أنه يجب «  أن لا نبدأ بالكراهية» تجاه الإسلام وأن نتعامل معه بشيء من الذكاء[21].

كان الفضاء العام: المساجد وأحياء البازار، والجامعات، والمساحات، والشوارع، وخاصة المقابر، «يشتعل» بلغة فوكو، بالشعارات وخطب رجال الدين تحت تأثير الأشرطة المسموعة للقائد. ولما جاء الزمان المقدّس (شهر محرّم، «شهر الاستشهاد لدى هذا الشعب») كان «الاشتعال» أكثر «وهْجًا».

وظهرت قيادات للفضاء العام، من الطبقات الشعبية (وأشهرهم: محمد طيّب حاج رضائي) ومن الطلبة الجامعيين (معصومة ابتكار، محمود نجاد…)، لم يدوّن فوكو أسماءهم، لأسباب أمنية، ومن سوء الحظ أنه لم يَدْرس ظاهرتهم، بالأقل. لكنه باعتبار بنيويّته، لم يتفطن إلى أن هذه الثورة ما كانت لتكون لولا المراكمة الثورية التاريخية، فلقد كانت هناك تجربة ثورية:  من ثورة التبغ عام 1891 (من أجل السيادة الاقتصادية[22] للدولة فحسب بسلاح المقاومة المدنية ومقاطعة استهلاك التبغ بفتوى دينية)، إلى الثورة الدستورية عام 1906 ( ليرتقي الوعي الثورة إلى الملكية الدستورية وتشريك الشعب ورجال الدين الثوريين في السلطة، بقيادة أوّل مجدد ديني في الفقه السياسي: محمد حسين النائيني)، إلى الثورة الاجتماعية – الاقتصادية التي كادت تتحول إلى ثورة الوعي الجمهوري: ثورة مصدَّق- الكاشاني من عام 1949 حتى الانقلاب الأمريكي عام 1953. تركت التجربة الثورية الأخيرة مرارة عظيمة وحقدا ثوريًّا على الولايات المتحدة الأمريكية، لأن التجربة كادت تنتصر رغم انقسام الثوريين (تراجع الكاشاني وبعض التسلطية مِنْ مصدّق، وتلك كانت إحدى نقاط ضعفها). كانت تجربة الثورة الكبرى (1978-1979) تعني تتويج تلك المراكمة الثورية، وتجاوز نقاط ضعفها، والوصول بها إلى اللحظة الجمهورية ذات آلرعاية العُقَلائية: «الجمهورية الإسلامية».

ت- قيادة «فريدة» حسب فوكو:

يصف فوكو شخصية روح الله الموسوي بأنها «شبه أسطورية»[23]، ذات «تيار سحري»[24]، « فلا يوجد أي رئيس دولة، ولا أي زعيم سياسي، حتى لو كان مدعومًا بجميع وسائل الإعلام في بلده، يمكنه اليوم أن يفاخر بأنه محل للتعلق بهذه الدرجة من الشخصية والحِدَّة[25]. وذلك يعود في نظره إلى عوامل ثلاثة:

« أنه ليس هنا»، فهو في المنفى ولا يريد العودة إلاَّ بعد رحيل الدكتاتور.

أنه قليل التوجيهات، أي ذو أهداف محدَّدة.

أنه «ليس رجلا سياسيا». فليس له حزب، وليست له حكومة تتبعه. « إنه نقطة تحديد لإرادة مشتركة»، مضادة للدكتاتورية والتبعية.

إنّ سعي القائد لأن يكون ممثلا لـ «الإرادة المشتركة» بـِصِدْقـِيّة، جعله يُخرج فكرة الإرادة المشتركة من «أسطورة سياسية»- بتعبير فوكو، إلى واقع نادر في التاريخ.

-*-*-

لذلك أصبح معنى الثورة في هذه الثورة الكبرى في نظر فوكو: « طريقة للنهوض والإنقاذ»، « ثورة رجال عُزَّل يريدون أن يرفعوا العبء العجيب (..) ثِقل نظام العالَم بأسره»[26]. ويضيف فوكو: « …ربما تكون هذه أوّل ثورة كبرى ضد الأنظمة الكونية، وأحدث أشكال الثورة الحديثة وأكثرها جنونا»[27]. فلقد أصبح الشعب «يريد شيئا كلّيًّا»[28]. وبذلك لم يَعُدْ فوكو بـِنيويًّا، بل أصبح جدليًّا- هيغليّا، لأوّل مرة في حياته الفكرية، تحْت منطق الأحداث- الأفكار الجديدة.

لم يكن هناك «كلل أو ملل» في المظاهرات، حسب ملاحظة فوكو، « وكان فيها «صلة بين الأعمال المشتركة والطقس الديني والحق العام»[29]. فكان الدين في هذه الثورة، بالمقارنة مع نمط العيش المفروض على الشعب منذ عقود، «بمثابة الوعد والضمان للحصول على ما به يغيرون ذاتيّتهم تغييرًا جذريًّا»[30]. فبهذا الإسلام التشيعي يَصْدق كلام ماركس: « الدين روح العالَم الذي لا روح له» فلا يكون «أفيونا»[31].

3- مثال للقراءة المتفهمة لتجربة الجمهورية الإيرانية: حسب محمد حسنين هيكل:

يؤكد هيكل أن مقومات الدولة بالمنطقة أكمل مع مصر وإيران و تركيا فقط، » والباقي دول هامشي»[32]. ولكنه يردف: »إن التحدي الوحيد للولايات المتحدة في المنطقة هو إيران»[33]، فهي »صاحبة صمود أسطوري في وجه الحصار»[34].وهو يؤكد أن »التناقض الإيراني- الأمريكي لن ينتهي، فإما أن تغيّر الولايات المتحدة النظام أو أن تسقطه»[35]

في زمن الشاه، »كانت كمية العلاقات بين إسرائيل وإيران كبيرة جدا(..) وما كان أحد من قادة العالم العربي يفتح فمه أمامه، بل الجميع ترتعد فرائصهم منه، ويلبّون مطالبه[36]

فلما كان عام 1979، انقلب العالم العربي على إيران، رغم أن النظام الجديد اقترب منه لدواع  كثيرة »منها القدس و منها الإسلام« .

لقد كان هيكل عضوا في الوفد العربي المفاوض لبريطانيا عشية استقلال الخليج، وقد كان الملك فيصل السعودي عضوا فيه أيضا. وكان رأي الوفد أن »تكون البحرين دولة عربية رغم أنها ذات أكثرية شيعية بحوالي 70 بالمائة، وأن حكمها من عائلة سنية. وبحثنا عن معادلة توازن مع إيران الإمبرطورية. فرأى الجميع، وخاصة الملك فيصل، أن تكون الجزر لإيران حتى يَرْضى الشاه[37].

يرى هيكل أن في تقييمنا للجار الإيراني » ينبغي أن نوازن  بين الإيجابي  والسلبي  فيه[38]. و يرى أن فيه عدة ميزات، وأن أهمها تطوير التعليم : »لا تهمني الطاقة النووية فيه، و لكن يهمني كيف طوّر تعليمه ليصل إليها(….). لما قابلت الخُميني في باريس قلت له: (كيف  يمكن لرجال الدين إذ يحكمون أن يستوعبوا العلوم الحديثة؟)، فرد علي ردّا مقنعًا: ( وماذا يعرف الضباط الذين يحكمون العالم العربي !؟)»[39].ففي رجال الدين الإيرانييّن » حداثيّة ما«[40].

و هو ليس متأكدًا من أنه نظام استبدادي، ولا قمعي للأقليات، بل ما يصلني من أصدقائي المعارضين عكس ذلك[41]. ولقد كانت نزعة حسنين هيكل العَدْلية وميلاده من عائلة فقيرة في الحسين بالقاهرة مهيئي الاستعداد لتفهم الإيديولوجيا التشيعية، أما نزعته السيادية فقد هيأته لتأئيد الدول الحريصة على سياديتها، ككوبا وفينزويلا البوليفارية والجمهورية الإيرانية.

لكن في تقييمنا للنظام الإيراني، يجب أن نهتم بما أهم من الإيجابي والسلبي في نظره، فيجب أن نراعي مصلحتنا القومية العربية، متجنبين أحكام القيمة، إذ يقول : »ما يهمني أن لا ينقلب ميزان القوى في الصراع العربي الإسرائيلي»[42] و »حفظ التوازنات الكبرى بالمنطقة«[43].

إنه يتساءل في قلق: »إذا كانت إيران أقرب لتل أبيب منها إلى العرب ستكون الكارثة علينا. فإذا سقط نظام الثورة الإسلامية، أخشى أن يقوم نظام يشبه نظام الشاه في تحالفه مع إسرائيل[44]. إنه يصرح أن »إحساس المسؤولين الإيرانيين بأنهم طالما توجهوا إلى العالم العربي مُهينين أنفسهم في سبيل علاقة طبيعية ، ولكن العالم العربي صدّهم[45]. وهو يؤكد أن هذا  الصدّ يصبُّ في صالح الحـس القومـي الإيراني » المنشد إلى الأنظمة الإمبرطورية القديمة بما هي لديه منبع الحضارات الأرية«[46]أي أصل الغرب المعاصر، ويحذر من أن هناك يهودًا إيرانيين قد يصبحون صهاينة  ومتحالفين مع إسرائيل إذا سقط نظام الثورة الإسلامية. و هنالك » سيكون تحول إستراتيجي رهيب لا نستطيع مواجهته«[47].

ومن المؤكد لديه أن الأزهر، والرئيس مرسي، كانا مخطئين استراتيجيًّا في سوء معاملتهما للإيرانيين، ويقول : »لقد أضعنا إيران طويلاً لصالح علاقتنا بالولايات المتحدة الأمريكية«[48]، بينما هي »دولة كبيرة تملك مقومات كبيرة لا يستهان بها،  وتتمتع بتماسك حضاري وإنساني، واجتمعت فيها عوامل سياسية وشخصية وأمنية.و ولذلك أدعو للانفتاح عليها«[49]. وهو يستغرب من أن شيخ الأزهر يصافح » خطأً«  رئيس الحكومة الإسرائيلي، ويعتبر مرسي، الرئيسُ الإخوانيُّ، نظيـرَهُ الإسرائيلـيَّ »  صديقا عظيمًا« ، بينما يواصلام القطيعة مع الجمهورية الإيرانية. و قد أفتى مفتى مصر عام 1963 بجريمة إعلان الإمام الثورة على الشاه، وقد سجل هيكل ذلك في مقابلته له بباريس.

و هو يشير إلى مساعدتها العسكرية والإستراتيجية للمقاومة الفلسطينية ، إذ أن طائرات »  أبابيل «  تعود لأصل إيراني لعام 1986، وعَبْر حزب الله استعملتها حماس مع إسرائيل عام 2014.

خاتمــــة:

مثلما كان انخراط اليونان في المسيحية مفيدًا لاستمرار الثقافة المسيحية وتطورها، كان انخراط إيران في الثقافة الإسلامية أحد ضمانات استمرارها وتطورها الرئيسية. يرى هيغل أن «الفُرْس1 هم أوّل شعب تاريخيّ، وفارس أوّل امبراطورية زالت»2. ويؤكد أن مبدأ التطوّر بدأ بتاريخ إيران، وهو بذلك يكون «البداية الحقيقية لتاريخ العالم، لأن الاهتمام العام بالرّوح في التاريخ  هو بلوغ المحايثة عير المتناهية للذاتية، ووصول  النقيض المطلق إلى التوافق والانسجام الكامل»3، وساهم سقوط الامبراطورية نهائيًّا في جعل المثقف في تاريخ إيران الإسلامية أهم من السياسي…

وقد اكتشف هيغل مبدأ العرفانية الإيرانية، إذ أن « طهارة النور ونقاءَهُ لدى الفرس تعلُو انفصال الطوائف»4.

وهذا «النور» «يستطيع الكل، على قدم المساواة الاقتراب منه»5. وبه تكون «قيمة الإنسان لذاته»6.

وقد أدى البحث الهيغلي في فلسفة التاريخ إلى أن الهيمنة الفارسية «لم تكن قطّ ظالمة أو جائرة، سواءًا في الأمور الدينية أو الدنيوية. فلم تكن للفُرس، طِبقا لما يقوله هيرودوت، أوثان أو أصنام، بل إنهم كانوا في الواقع يسخرون من التشبيهات البشرية التي تُنسب للآلهة؛ لكنهم تسامحوا مع كل الأديان، رغم أننا قد نجد حالات فردية من الغضب والحنق ضد الوثنية، فقد دمّروا المعابد اليونانية وحطموا تماثيل آلهتها»1. وإذا بقيت الصين والهند مُديمة «للوجود الطبيعي» في نظر هيغل، فإن إيران خضعت لأول مرة في تاريخ العالم لقانون التطوّر والثورة، ليكون أهلها أقوياء لأنفسهم.2

لسنا في حاجة للتأكيد أننا نقف أمام نجاح إيراني واستيعاب إيراني خصوصي للحداثة والديمقراطية والثورة والعدالة الاجتماعية، واقتدار ناجع على مواجهة تحديات الحصار الاقتصادي وضرورات الاستقلال. كما أن إيران الثورية والمنفصلة عن الإمبريالية والصهيونية تمثل فرصة تاريخية ثمينة للعالم العربي من أجل حِلفٍ عالمي ضد الصهيونية، والتثاقف التّقاني والعلمي والمراجعة الدّينية والتديّنية والتبادل الإبداعي لتجاوز التبعية الاقتصادية والثقافية والعسكرية والحِمائية الغربية التي تصل حَدّ العصبية العنصرية-الاستعمارية أحيانا.

وإنّ رفض اكتشاف إيران الثورية (وغيرها من التجارب الناجحة) بتِعلات أَنُومِيّة- تَوحّـُديّة، سَواءًا كانت بهُوَامِ تديّني3 أو هُوَام عِلـْمانيّ أو لضغوط ثقافية أو سياسية أو اقتصادية إمبريالية، سيساهم في تفاقم الأزمة العربية، والإجهاز النهائي على فرصة الحراك العربي الذي انطلق في يناير 2011…

يقول الثوريّان أحمد فؤاد نجم وإمام عيسى:

آه يا خَيْ!

آه يا خي اه ياخي! كنا نملا الدنيا ضي

بس اه لو كنا زي

الف اه واه ياخي

كنا جبنا الشمس من برج الاسد

واديناها للعيال غزل البنات

يطبعوها ع الهدوم والكراسات

يشبكوها ورد بشعور البنات

ينظموها  عقد من شر الحسد

يضوي نوره  لما يضوي

كل حاره وكل حي

بس اه لو كنا زي

الف اه  واه ياخي

كنا المظلوم اذا هاجم  جري

كنا لو كان الخميني عمّنا

والمعارضة يد واحدة عندنا

دسنا شاهنا وامريكانه بنعلنا

وابتدينا الثورة من اوسع طريق

كان تمانتعشر يناير ف الشوارع لسه حي

بس اه لو كنا زي

الف اه  واه ياخي

***

عادل بن خليفة بالْكَحلة -أستاذ تعليم عالٍ، باحث أنثروبولوجي، الجامعة التونسية

………………..

[1] . من لقائه مع لَميس حديدي في سي بي سي، على اليوتيوب، 07/04/2015

[2] ـ مرجع سابق.

[3] ـ مرجع سابق

[4] ـ مرجع سابق

ـ يمكن الاستئناس هنا بـ: فُوكو (ميشال)، نظام الخطاب، ترجمة: محمد سبيلا، دار التنوير، بيروت، 2007، ص 77.

[5] . وِلْد عبد المالك(البكّاي) [ناقلا]، فوكو صحافيًّا، دار جداول، بيروت، 2012، ص7.

[6] . فوكو محرّم بالعالم العربي. رفض أحَدُ مقَّرري قسم علم الاجتماع بتونس مشروع دكتوراه طالب فلسطيني في سلفية فلسطين، لا لشيء إلا لأنه متمحور حول مفاهيم ميشال فوكو!!

[7] . وِلْد عبد المالك(البكّاي) [ناقلا]، فوكو صحافيًّا، دار جداول، بيروت، 2012، ص 16.

[8] . م. س، ص 31.

[9] . م. س، ص 31.

[10] . م. س، ص 36

1 ـ م . س، ص 43.

2 ـ م. س، ص 43.

3 ـ التوحّد ثقافيا وإيديولوجيّا هو انكفاء يقوم على هُوَام عدم وجود الآخر أو ضرورة عدمه، فيُنتج اضطراب تفاعل وصعوبات تواصل ونزعة قتْلية.

4 ـ م. س، ص 48.

5 ـ م. س، ص 42.

6 ـ م. س، ص 49

7 ـ م. س، ص 49.

8- م. س، ص 36

9 – الرّبعة: Autonomy

[11] . م. س، ص 50

[12] . م. س، ص 50

[13] . م. س، ص 52.

[14] . م. س، ص 65.

[15] . م. س، ص 66.

[16] . م. س، ص 66.

[17] . م. س، ص 66.

[18] . م. س، ص 67.

[19] . أحد جامعيّي الإخوان المسلمين ومثقفيهم الأشهر بتونس قال لي في بداية عام 2011، بغرور أن « الثورة» التونسية أفضل من الثورة الإيرانية، لأنها في رَأيه «أقل دمًا» و «أرقى ديمقراطية»… لم يكن في ذلك يصدر عن دراسة مقارنة ولا عن فلسفة حضارة ولا علم اجتماع ثورات!

[20] . م. س، ص 69.

[21] . م. س، ص 77.

[22] . …لأول مرة في تاريخ العالم الإسلامي الحديث تُبدَع إيران المقاومة المدنية، وكانت ذات شكلٍ اقتصاديّ، قبل اكتشاف غانْدي لها.هنا يبادر الفقيه، ولا يكون تابعًا للدولة (كما حَدث للفقيه التونسي في العصر الحسيني إذ كان مشرعنا لما اعتبرته الدولة «إصلاحات»). وهنا يكون مبرّر الفتوى اقتصاديا وسياديًّا وحداثيًّا، لا مبرّرًا دُغمائيا. شاركت النساء في مظاهرات ثورة التبغ، وذلك سَبْق إيراني أيضا، وقد عمّت المقاومة المدنية حتى خدم القصر. انظر: المجدوب (طلال)، إيران من الثورة الدستورية إلى الثورة الاسلامية، دار ابن رشد، بيروت، 1980 (ص 106).

[23] . م. س، ص 89.

[24] . م. س، ص 47

[25] . م. س، ص 90.

[26] . م. س، ص 90.

[27] . م. س، ص 90.

[28] . م. س، ص 91.

[29] . م. س، ص 133.

[30] . م. س، ص 135.

[31] . م. س، ص 135

[32] . م. س.

[33] . م. س.

[34] . م. س.

[35] . من لقائه مع لميس حديدي، على اليوتيوب 7/4/2015.

[36] . م. س.

[37] . م. س .

[38] . م . س.

[39] . م. س.

[40] . م. س.

[41] . م. س

[42] . م. س

[43] . م. س

[44] . م. س

[45] . م. س

[46] . م. س

[47] . م. س

[48] . من لقائه مع لميس حديدي ، 3/4/2015 على سي بي سي.

[49] . من لقائه مع لميس حديدي،1/4/2013 على سي بي سي

1 – «الفُرْس» في الاستعمال الهيغلي يشمل شعوبًا عدة مثل الشعب الكرْدي، إذ يعتبرهم ضمن الحوض اللساني- الثقافي والحِموي الواحد

2 – هيغل، محاضرات في فلسفة التاريخ، الجزء الثاني؛ العالم الشرقي، ترجمة إ. عبد الفتاح إمام، دار التنوير، بيروت، 1984، ص 144-147

3 – م . س.

4 – م . س.

5 – م . س.

6 – م . س.

1 – م . س.

2 – م . س.

3 – رفض رموز الاسلام السياسي في تونس السياحة الإيرانية بتونس تَحت فويبا  تشيعيّة للتونسيين (كأن الثراء التعددي التونسي: المالكي- الحنفي- الإباضي- الصوفي هشّ لا قيمة له)، ولأن السائح الإيراني « لن يشرب خمرًا» و«لا يستهلك كثيرًا»، فلن نستفيد منه اقتصاديا (حسب زعيم تيار المحبّة). وهكذا أصبح الإسلامي يُدافع عن «شُرْب الخمر» في سياق رفضه الغرائزي لإيران الثورية (بينما تركيا الإخوانية تستفيد من السياحة الإيرانية وليست لها هذه الفوبيا).

شارك على :
المحور العربي © كل الحقوق محفوظة 2023