مأزق عربى فى الصراع الإسرائيلى ـ الإيراني: بقلم د. محمد السعيد إدريس

لم تكن جبهات المواجهة بين إسرائيل وإيران مفتوحة ومتشابكة مثلما هى اليوم.. الجبهة السورية والجبهة اللبنانية وجبهة القدرات النووية الإيرانية، وأخيراً، وربما الأهم الجبهة الفلسطينية التى تستحوذ الآن على جل الاهتمام بسبب ما حدث أمس وما يحدث اليوم من أحداث ومواجهات بين الشعب الفلسطينى ومنظماته وبين قوات الاحتلال الإسرائيلية استطاعت تعكير صفو احتفالات تل أبيب وواشنطن بالعيد السبعينى لتأسيس الكيان الصهيونى فى فلسطين وبنقل السفارة الأمريكية إلى القدس وأن تربك أى فرص لفرض ما يسمى بـ «صفقة القرن»، كما استطاعت أن تفشل كل ما ظل يخطط له بنيامين نيتانياهو على مدى السنوات التسع الماضية، منها ثمانية أعوام هى حكم الرئيس الأمريكى السابق باراك أوباما، من أجل تصفية كل أثر للقضية الفلسطينية وفرض ملف «الخطر الإيراني» كملف أوحد يجب أن يشغل كل الاهتمامات الإقليمية والدولية.

وإذا كان أوباما قد نجح فى إفشال طموحات نيتانياهو الخاصة بالقضية الفلسطينية، رغم كل ما قدمه من دعم ومساعدة عسكرية ومالية لإسرائيل تفوق ما قدمه كل رئيس أمريكى سبقه، فإن أوباما بحماسه للتوقيع على اتفاق دولى لضبط القدرات النووية الإيرانية وبرفضه الاستجابة لمطالب دول عربية خليجية بالدخول فى تحالف عسكرى معها شبيه بحلف شمال الأطلسى (الناتو) لمواجهة ما تعتبره هذه الدول «خطرًا إيرانيًّا»، وبتأكيده أن إيران ليست هى الخطر على أمن واستقرار هذه الدول، فإنه قدم لإسرائيل، ربما عن غير قصد، أهم نجاحاتها السياسية منذ اغتصابها فلسطين المتمثلة فى التحول الخطير الذى حدث فى مواقف بعض الدول العربية من إسرائيل، والتعامل معها ليس كعدو، بل كشريك.

فقد اعتبرت دول خليجية أن تردد أوباما فى القبول بالتحالف معها ضد إيران وبدعمه للاتفاق النووى الإيرانى تخليًّا عن الالتزامات التاريخية الأمريكية بالدفاع عن أمن وسلامة هذه الدول، الأمر الذى دفعها للبحث عن حليف أو صديق «موثوق به» ويشاركها العداء لإيران، فوجدت ضالتها فى إسرائيل، أخذاً بقاعدة «عدو عدوى صديقي»، ومن ثم بدأت مرحلة جديدة فى علاقات إسرائيل العربية، وأصبح «الخطر الإيراني» أهم معالمها.

لكن ما حدث أمس الأول من ممارسات إجرامية صهيونية وانتهاكات غير مسبوقة قام بها آلاف المستوطنين الذين تحميهم قوات الاحتلال فى ساحات المسجد الأقصى ضمن احتفالات نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، وما حدث أمس ويحدث اليوم من تصعيد خطير فى قطاع غزة وباقى مدن الضفة الغربية ضمن فعاليات «مسيرة العودة الكبري» والدماء التى أريقت والشهداء الذين يتساقطون والتى بدأت مع إحياء الشعب الفلسطينى ذكرى «يوم الأرض» فى الثلاثين من مارس الماضي، من شأنه، فى حال، تصعيده والوصول به إلى أخطر ما تخشاه إسرائيل، أى إنضاج انتفاضة شعبية فلسطينية جديدة تعم الأرض الفلسطينية شبيهة بالانتفاضة الأولي، أن يربك كل الحسابات الإسرائيلية، وأن يعيد إلى الأذهان حقيقة أن إسرائيل كيان غاصب وعنصرى ومحتل وليس ضحية للتهديد الإيراني، ومن شأنه أن يعيد فرض «حق العودة» مجدداً إلى الذاكرة الإنسانية من خلال مشاهد العبور الجماعى للسياج الفاصل التى قام بها الشباب الفلسطينى أمس على مرأى ومسمع من كل العالم.

هذه المشاهد، إذا نجحت فى إنضاج انتفاضة شعبية فلسطينية جديدة ستخلق واقعاً جديداً «لن يعود بالإمكان وقفه، لا بواسطة القناصة، ولا بواسطة قذائف الدبابات، ولا بواسطة القصف من الجو، وحتى لا بواسطة الفيتو الأمريكى الدائم فى مجلس الأمن» على حد تعبير مايا رونرفيلد فى صحيفة «هاآرتس» الإسرائيلية. هذا الواقع الجديد، فى حال حدوثه، يمكن أن يعيد فرض «الملف الفلسطيني» كأولوية إقليمية ودولية، على حساب «الملف الإيراني»، وسيعيد الاصطفاف الدولى مجدداً دعماً للقضية الفلسطينية وحقوق الشعب الفلسطينى عندها ستكون نجاحات بنيامين نيتانياهو فى التحالف مع أطراف عربية أمام اختيار صعب، خصوصاً فى ظل الحرص الإيرانى على ضبط النفس على الاستفزازات الإسرائيلية فى سوريا، وفى ظل النجاحات الانتخابية لحزب الله فى لبنان التى مكنته هو وحلفاءه من تحقيق ما عجز عن تحقيقه فى انتخابات العامين 2005 و2009 وحصوله مع حلفائه، على 70 مقعداً فى المجلس المؤلف من 128 مقعداً، أى على «أغلبية النصف +1»، ما يعنيه هذا الفوز من «شرعية شعبية ووطنية» للحزب داخل لبنان، وهى كلها مكاسب تصب فى مصلحة إيران، تدعمها إستراتيجية إيران فى احتواء سلبيات الانسحاب الأمريكى من الاتفاق النووي.

فقد اعتمدت إيران «إستراتيجية ضبط النفس» إزاء الاستفزاز الأمريكي، وتراجعت، على لسان رئيسها حسن روحانى عن خيار الانسحاب بالمثل من الاتفاق النووي، وصدَّرت الأزمة إلى الدول الأوروبية الثلاث الموقعة على الاتفاق النووى (فرنسا وبريطانيا وألمانيا) وإلى الشريكين الروسى والصينى قبلهما، ووضعت هذه الدول الخمس وجهاً لوجه مع الولايات المتحدة، وأكدت أن موقفها من الاتفاق، أى البقاء فيه أو الانسحاب منه، يتوقف على مدى دفاع الدول الخمس الأخرى الموقعة على الاتفاق والالتزام به، وعلى مدى التزامها بالمطالب والشروط الإيرانية.

هذه الإستراتيجية الإيرانية نجحت فى إحداث وقيعة بين الشركاء الأوروبيين والولايات المتحدة تأكدت فى وصف الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون للانسحاب الأمريكى بـ «الخطأ»، وفى اتهام المستشارة الألمانية للرئيس الأمريكى بـ «انتهاك النظام الدولي»، ويمكن أن تتحول هذه الوقيعة إلى صدام مصالح أوروبي- أمريكى حول إيران، وهو تحول من شأنه أن يؤدى إلى تحسين صورة إيران وتراجع أولوية الخطر الإيرانى الإقليمى فى وقت تعود فيه أولوية الملف الفلسطينى وتنكشف للعالم حقيقة إسرائيل كمصدر للخطر وتهديد الأمن الإقليمي، خصوصاً إذا استطاعت إيران أن تبرز الخطر النووى الإسرائيلى كمصدر أهم لتهديد هذا الأمن الإقليمي، فى وقت تبدو فيه إيران أكثر امتثالاً للشرعية الدولية بخصوص ملفها النووى باعتراف الوكالة الدولية للطاقة الذرية.

تطورات من شأنها أن تضع دولاً عربية فى مأزق انحيازها لإسرائيل تحت ضغوط عدائها لإيران فى وقت لم يعد ممكناً فيه الدفاع عن السياسات العدوانية الإسرائيلية، كما تفضحها الجرائم التى ترتكب بحق الشعب الفلسطيني.

الأهرام

شارك على :
المحور العربي © كل الحقوق محفوظة 2023