ما بعد الوثيقة..وجع التّاريخ أم تاريخ الوجع؟…بقلم إدريس هاني

ما بعد الوثيقة..وجع التّاريخ أم تاريخ الوجع؟…بقلم إدريس هاني

هل تنتهي وظيفة التأريخ عند كتابته؟
تستطيع أن تكتشف يوماً أنّ التّاريخ مزيف، ولا يمكن إلاّ أن يكون مزيّفاً، لأنّ التّاريخ الحقيقي قائم ويتطلّب قدراً من الشجاعة والنباهة للوقوف على حقائقه، لكن التّاريخ الذي يأنس به المؤرّخ هو محاولة للحؤول دون أن يكشف التّاريخ عن نفسه، فمهنة المؤرّخ هي في حدّ ذاتها من أكثر المهن ضدّ التّاريخ.
نبحث عن الوثيقة ولكن فقط لنلتفّ على مكر التّاريخ، وهو في الحقيقة ليس مكر التاريخ بل مكر البُنية التي يعبّر عنها التّاريخ باعتباره تاريخ بُنيات، فالتّاريخ في نهاية المطاف يروي لنا سيرة البُنيات في تفاعلها. إنّ التّاريخ كما فهمته هو لحظة انتقال بُنية ما وتخارُجِها، لكن هذا التاريخ الذي يروي لنا مسارات البُنى أصبح صناعة، وهو لا يرصد فعل البُنى الغامضة ولا سيرورتها الماكرة وهو ما زال تائهاً حتى إنّه يعد الإنسان هو صانع التاريخ في حين إن الإنسان فاعل داخل بنية وفي حدود مَكْرِها، إنّه لا يملك سوى أن يتفاعل بشكل مختلف مع نظيره داخل بُنيات متحرّكة.
قلت ليس له سوى أن يتفاعل بشكل مختلف لأنّ ما به هو امتياز الإرادة، هو طريقة فعلها ووظيفتها بين أن تفعل وأن تنفعل، فالفعل السوسيولوجي يقوم على هذا التمييز: نتحدث عن الفاعل الاجتماعي باعتباره مبادراً وفاعلاً بينما العموم الاجتماعي منفعل، فهما مختلفان في طريقة التّفاعل، لكن ما يظهر اليوم هو أنّ الفاعل الاجتماعي أو لنقل النخبة هي نفسها باتت شريحة متفاعلة على أساس مقولة أن ينفعل لا أن يفعل، وهذا يقودها للتلاّشي في صيرورة البُنى، وهنا دور القادة التّاريخيين، قدرتهم على إدارة الفعل التّفاعلي بالفعل لا بالانفعال، فالكائن في نهاية المطاف هو كائن متفاعل، لكن على أي أساس يجري هذا التفاعل (النخبة تتفاعل مع الأفكار والمفاهيم ولكنها تتفاعل على نحو الانفعال، وهذا ما يجعل معظم النخب اليوم عاجزة عن الفعل الإيجابي داخل بُنيات تعاني الخلل، فهي لا تفعل سوى أن تنفعل بشكل مختلف عن العموم).
وبالعودة إلى التّاريخ، فإنّ الحدس أساس ولا غنى عنه، بل يكاد يكون وسيلة لفهم حقائق التّاريخ، فالوثيقة وحدها صمّاء، بل الوثيقة قد تكون طريقة لإخفاء حقائق كثيرة، ليس هناك زيف يحتاج إلى وثيقة تبطله بل هناك أشكال من الزيف تلعب فيه الوثيقة غير المكتملة شاهد زور، غير أنّ طريق الحدس صعب – وإن كان لا طريق غيره لفهم أحوال ما مضى – لأنّه يعزّز القلق المباشر ويجعل لحظة المعرفة لحظة موجعة، فالمعرفة التّاريخية لا تتحقق إلاّ بأن تعايش الماضي كما لو كنت جزءاً من تفاصيله ليمنحك الإحساس الذي هو شرط أساس في المعرفة داخل حقل لا يستغني هو الآخر عن التجربة، وتماماً كما هي المعرفة العلمية تقتضي التجريب فكذلك التّاريخ، إنّ اختبار الحدث التّاريخي هو اختباره من ناحية المشاعر والأحاسيس التي يتركها الحدث، ليست الوثيقة معادلة رياضية بل هي موضوع لخبرة ومعايشة وليست موضوعاً للتجريد.
إنّني أجد من الصعوبة بمكان أن أنقل لكم هذه الأحاسيس وكيف أنّ الحدث التّاريخي – بما فيه ذلك الذي اعتقدت أنني أدركته يقيناً – يقطع الأنفاس ويُوجع العارف حين يصبح مجالاً للحدس، هذا الأخير لا يوقفنا عند الحدث بل يحتوي كل تسلسله ويدرك كل انفعالاته، يَصعب إذاً تقاسم هذه الحقيقة لأن الأحاسيس يَصعب تقاسمها إلاّ بالمعايشة. ومن ناحية أخرى يَصعب نقل هذه الحقائق والارتسامات من خلال نماذج لأنها موجعة لي ولكم، ولأنني كذلك لم أدركها إلاّ بنزلة العلم الحضوري الذي له شأن آخر في حقل التّاريخ، وحيث إنّني حسمت في هذه الثنائيات فإنّ حدس البُنيات في حراكها يوقفك عن الفهم الصحيح للتّاريخ.
ينعكس ذلك على الفهم وعلى الحاضر، نكرر الانفعال نفسه الذي هو ضرب من الجهل بمنطق سيرورة البُنى، نكرر الأخطاء لأنّ التّاريخ يُقدّم لنا بطريقة خاطئة ولأننا لن نستطيع فهم الحدث من دون أن ندرك جملة الشروط والسياقات والأحاسيس التي جعلت الحدث التّاريخي يوماً ما أمراً ممكناً.
يستطيع التاريخ أن يصبح مجالاً للمعرفة اليقينية حينما يصبح مجالاً لحدسنا فقط، غير أنّ البحث التاريخي هو نفسه أصبح أكثر ميلاً للإمبيريقية الجامدة (الفلسفة التجريبية) والتي تعد إمبريقية زائفة، لأنّها لا تستحضر شرط المعايشة والإحساس والحدس. إنّ الذين عاشوا عصرهم كفاعلين سيدركون أكثر حقائق التّاريخ، لأنّ الفعل يجعلك قادراً على النّظر في الحوادث نظرة جامعة ومركّبة، فالفاعل في عصره هو جزء من حركة التّاريخ أو بتعبير آخر هو جزء من حركة البُنى في الزّمن، وهو يجعل من معاصرته إمكانية لمحايثة الحدث التّاريخي (المحايثة في الأصل اللاتيني بمعنى «يمكث في» وهو مفهوم من المفاهيم الرئيسة للفلسفة التأملية التقليدية والمدارس المثالية المعاصرة، والمصطلح بهذا المعنى يرجع إلى أرسطو).
ما زلت أحوم حول هذه الحقيقة، لأنّها مؤلمة، ولأن التعبير عنها من خلال النماذج أمر موجع ويُربك الحسابات والمصالح والحقائق الجاهزة، ولكن لنتحدّث عن إمكانية وضع حلّ لهذا الإشكال من خلال الآتي:
الحدث التّاريخي هو إمكانية تُعرض باستمرار على الإرادة، فبقدر ما تكون الإرادة منفعلة بالحاضر ستكون كذلك منفعلة بالتّاريخ كإنشاء، وبقدر ما تكون فاعلة في الحاضر ستكون قادرة على استيعاب الحدث وشروطه وسياقاته وأحاسيسه، يفترض هذا الأمر حضور الحدس: الحدس الذي يشكلّ مُلهماً للفعل في الحاضر هو الذي يشكل وسيلة لفهم ما يتعذر استيعابه بأدوات التحقيق المجردة. بهذا المعنى لن يكون المؤرّخ ولا مهنته معصومين من الخطأ إذا لم يتحقق حدس أحوال من مضى.
رغم أهمية الوثيقة فإنها لا تستطيع أن تحتوي كل حركة الإنسان، ولا كل الشروط ولا كل الأحاسيس ولا كل حيثيات ولحظات الحدث التّاريخي، لكن الحدس يستطيع أن يحتوي الحدث ومحيطه وآثاره وأن يضعنا أمام روح الحدث، ومن هنا تتجلّى خطورة فهم التّاريخ وهي خطورة تفوق خطورة البحث في الوثيقة، بل من هنا فقط يكون التّاريخ خطراً وربما غير مرغوب فيه، إنّ التّاريخ بهذه الشروط يصبح علماً للحاضر وليس للماضي، التاريخ كعلم بالفعل الإنساني في الزمن بتخارجاته الثلاثة: الماضي، الحاضر، المستقبل.

 

شارك على :
المحور العربي © كل الحقوق محفوظة 2023