محاولة لفهم الاحتجاجية التونسية مطلع 2021

بقلم: عبد القادر النقبي- (باحث في التاريخ المعاصر/ كليّة الآداب والعلوم الإنسانية بسوسة) |

تعيش البلاد التونسية اليوم حالة من الاحتقان السياسي والشعبي والمدني، تحاول أطراف عديدة امتطاءها وتوظيفها، وتحاول أخرى تشويهها وتزييفها.

قبل كل شيء لابد أن نلاحظ أن الحدث الآن مازال عفويا، ولم يرتق بعد حتى إلى مستوى الاحتجاجية، ولم يرتق بعد إلى مستوى السواد الكافي لنعته بصفة المشروعية الاجتماعية الواضحة. فالعفوي إذا استمر، لن يفرز سوى إعادة إنتاج الأزمة والنظام السابق-الذي مازال مهيمنا إلى حد اليوم- وسيسمح بظهور انحرافات احتجاجية، كما سيسمح من جديد بظهور طبقة سياسية توظف الحدث لمصالحها ومصالح الطبقة الكمبرادورية المستمرة في الهيمنة، ومن ثمة استمرار النفوذ الامبريالي في تونس. وبذلك تضيع تضحيات الشباب والطبقات الشعبية مرة أخرى. فالمطلوب ظهور فكر البديل الثوري أطروحة وأطرا، من أجل بناء النظام الشعبي المتحالف مع أنظمة الديمقراطية الشعبية الممانعة للامبريالية في العالم الثالث.

لن أبرر هنا ما يحدث من الجانب الاحتجاجي أو السلطوي من تجاوزات إنحرافية أو إقصائية. فمن مختلف كل المنطلقات، ليس مقبولا الاعتداء على حقوق الغير وممتلكاته. في المقابل، ليس مقبولا إقصاء الزمن (الليل) أو الشرائح العمرية، من أي مشهد سياسي أو مدني أو شعبي. فكما هو معلوم، تعمل الدول، عبر القوانين، على التأطير السياسي والمدني والعائلي للأطفال والناشئة، مثلما تعمل على تأطير الراشدين. فالليل هو مجال عمل وشغل بالنسبة إلى البعض، وهو مجال راحة بالنسبة إلى البعض الآخر. كما أن الشرطة يجب أن تعيد بناء عقيدتها الأمنية، وتكوينها الأمني، بأن تؤهل نفسها على معالجة الجريمة والعنف والشغب ومراقبة التظاهرات والاحتجاجات بهدوء أعصاب، وأن تكون قادرة على التمييز بين الشغب وبين حرية التعبير، وأن تفصل بينهما. فهذه المؤسسة كغيرها من المؤسسات، لم تقم بثورة داخلية بعد، ومازالت تبريرية لأخطاء بعض أعوانها. فالمسؤول دائما هو المعيار الذي يقاس عليه أداء المؤسسة. فإذا نزل الخاص إلى العام، إلى أين ينزل العام؟

فلا نريد أن تكون لنا سلطة متوكلية، تعتمد على جهاز أمني ذي إيديولوجيا بَرْبَهارية، يعيدان إنتاج مجتمع عربي سابق. كما ينبغي تجنب إعادة تكرار الأخطاء الاحتجاجية السابقة، كي لا تنحرف إلى أخطار اجتماعية، مثلما حدث في التاريخ العالمي والإقليمي والتونسي. فاحتجاجيات البلدان العربية في العشرية الأخيرة زادت في أزمات هذه البلدان، نتيجة لهذه الأسباب وغيرها.

فلا بد من بناء حركة ثورية سلمية ديمقراطية (بمفهومها العميق والجوهري)، مؤطَّرة وذات مضمون بديلي. وعليه، يجب تأطير الحركة بقيادة حاملة للشرعية والمشروعية، المنبثقتين من مضمون وإطار ثوريين.

فالمسألة إذن، ليست متعلقة لا بالزمن ولا بالسن، بل هي متعلقة بمضمونيهما. فلو تأملنا جيدا، نلاحظ أنّ الأحداث الراهنة ليست بدعا في العالم. فالعالم العربي والإسلامي الشعبيان، يشيدان بـ«ثورة» أطفال الحجارة في فلسطين. والأكيد أنّ هذا المثال لا ينطبق على تونس، في ما يتعلق بالمقارنة بين النظام السياسي في الكيان الصهيوني الغاصب، والنظام السياسي التونسي، من حيث الشرعية السياسية لسلطتَيْهِما. فهناك «نظام» سياسي صهيوني، قائم على اغتصاب الحقوق، ونظام سياسي تونسي مبني على شرعية سياسية انتخابية، وإن كانت مهتزة المشروعية الشعبية والشبابية بنسبة العزوف المرتفعة جدا، بل هي مشروعية زائفة نظرا للعزوف الشبابي المتضخم جدا.

لكن يجب أن لا يفوتنا أنّ الطرف الذي يزعزع أي نظام سياسي، هو الطرف الشعبي، الذي لا يجد تمثيلية داخل النظام السياسي، إما نظرا لرفض النظام السياسي برمته (ويتضح ذلك في نسبة العزوف) أو لخيبة أمل في من وقع انتخابهم فتخلوا عن وعودهم. فيسعى إلى التعبير عن نفسه عبر المكوّن الأساسي للمجتمع السياسي وهو الشعب. فالمشهد السياسي مبني في جزء كبير منه على العملية الانتخابية، التي من المفروض أن يطرح من خلالها المتنافسون على السلطة والمعارضة في آن واحد، برامجهم وتطلعاتهم ووعودهم للشعب. وعلى هذا الأساس يقع اختيارهم ممثلين له، وعليه أيضا ترتكز المشروعيات. فعندما يتخلى المتنافسون عن تلك الوعود والبرامج، تنفرط الصلة بين الشعب وممثليه، وتصبح الشرعية الانتخابية معرضة للطعن والانهيار.

فما معنى أن تبني أطراف سياسية خطابا انتخابيا، ثم تتراجع عنه، بمبرر الخطأ، فيكون التراجع في نظر الناخب خيانة وتحيلا؟! فالذي منح صوته للطبقة السياسية يريد استرجاعه لأنه منحه بناءا على وعود محددة، لم يقع الالتزام بجميعها.

فالديمقراطية أصبحت مختزلة في الجانب السياسي الشكلي، ولكن الأكيد أنها ليست ديمقراطية شعبية، مبنية على تطلعات الشعب، التي أوهمتها بتحقيقها الطبقة السياسية الماسكة للسلطة، والمعارضة أيضا.

فالشعب كان يطمح إلى سيادة القانون، والعدالة الاجتماعية. وكان يطمح إلى تبوّئ وضع يليق به في الدولة. ولا يكون ذلك، في هذه الحالة، إلا عن طريق استرجاعه لحقوقه المنهوبة وحريته المسلوبة. ومن وعده بالقطع مع الامبريالية والاستبداد ورموزهما، وأموال الفاسدين، وأصبح يتعامل مع السلطة والمعارضة شريكا يتحمل المسؤولية.

نحن نعيش اليوم، في عصر عولمة الأفعال ومُرادّات الأفعال، وعولمة الأحداث والمشاعر والأزمات والحلول. فما يحدث في أقاصي العالم من ظلم، تتفاعل معه الشعوب في كامل أرجائه. فما بالك بما يحدث في نفس البلد، مثل تونس.

فكيف يستسيغ الشعب رموزا كانت بالأمس ضد ثورته، أصبحت اليوم تلقنه دروسا فيها؟ وكيف يتقبل صورة شباب خرج للتعبير عن إرادته الجمعوية  (مجموعات من أنصار النادي الإفريقي)، فوجد نفسه في «محتشد»؟! وكيف يتقبل صورة راع يهان في وجهه (بما له من رمزية كرامية عربية، كما حدث لمpمد البوعزيزي من قبل)، ولا يجد من ينصفه أو حتى يعتذر منه، من مُهينيه، بل المؤسسة التي ينتمي إليها العون الذي أهان الراعي في سليانة، أو من أولئك الذين منحهم ثقته وأصواته لتمثيله؟ كيف يستسيغ من وعده باسترجاع ثرواته المنهوبة منذ عشر سنوات، أصبح يتعامل مع ناهبيها؟ وكيف يستسيغ ذهاب أمانته (رئاسة الحكومة والوزارات) إلى أشخاص لم يتحصلوا على ثقته مباشرة في العملية الانتخابية، بل لم يختبروها أصلا؟! وكيف يستسيغ أن يكون خصومه، قضاة وجلادين في نفس الوقت؟!

إنها مُراكمات لا يمكن أن تؤدي إلا إلى انفجار، كان بالأمس مسؤولون ضده، وأصبحوا اليوم يبشّرون به. وعليه، تجب معالجة هذه الأزمة، على هذا المستوى. فالفئات الشعبية تريد ممارسة حقها المغتصب في الديمقراطية، التي تسعى لأن تجد مكانا ضمنها.

فلا يمكن أن تعالج الأزمة من خلال رؤية طرف واحد، ولا سلطة واحدة، بل يجب أن تشارك في معالجتها كل الأطراف. والهروب إلى الأمام لن يعمق إلا الأزمة، ولن يصل بالدولة إلا إلى طريق مسدود، بل الانهيار. والتاريخ القريب والبعيد شاهدان على ذلك. فالتحيل والإقصاء والتعسف لا تنتج إلا أزمات إضافية أكثر تعقيدا.

 

فالمطلوب إذن، القيام بتحليل بنّاء، على هذا المستوى، يقع على إثره تحديد المسؤوليات، والبحث عن نظام سياسي شعبي، لأن النظام السابق لم نسقط منه  آجرة واحدة… وللحديث بقية.

 

شارك على :
المحور العربي © كل الحقوق محفوظة 2023