مسألةُ الرُوحِ بين الحقيقةِ القرآنيةِ والإدراكَاتِ البشَريةِ

 بقلم  فوزي حساينية: كاتب جزائري |

     هناك الكثير من المفاهيم التي تنتشر بشكل يجعل منها مسلماتٍ لا تقبل نقاشا ولا جدلا، ولكنها مع ذلك تحتاج وربما أكثر من غيرها ليس فقط إلى مراجعة وإعادة نظر، بل إلى قراءةٍ جديدةٍ وجذرية لتصحيح فهم الناس لمدلولاتها وحقيقتها، ولعلَّ مسألة الروح في القرآن تعدُ واحدة من أكثر المسائلِ تطلباً للقراءة الجديدة وإعادة النظر المنشودة، ولنبدأ مما يقوله ويعتقدهُ  الناس أولا ثم نستعرضُ ما يمكننا فهمه من آيات القرآن الكريم..

     فعندما يموت شخص ما، نقول بأنه قد أسلم الروح إلى بارئِها في إشارةٍ واضحة إلى أنَّ هذا الشخص ما كان ليموت لو لم تفارق روحه جسده، وعندما نحتفل بثورة أول نوفمبر المجيدة نقول : بأن الشهداء الأبرار قد ضحوا بأرواحهم في سبيل الله والوطن، و حين تتحدث وسائل الإعلام المختلفة عن إرهاب الطرقات فإنها تُخبرنا أن حوادث المرور لا تزال تحصد مزيدا من الأرواح، وعندما يعبرُ النَّاس عن استنكارهم لجريمة قتل وإيمانهم باستحالة نجاة القاتلِ وحتمية تلقيه للعقاب جرَّاء ما اقترفت يداهُ يرددُ النَّاس الصيغة المشهورة ” يا قاتل الروح وَايَنْ تْرُوحْ ” وهذه الصيغة تكرِّس بوضوح تام الاعتقاد الشائع بأنَّ فعلَ القتل يقعُ على الروحِ باعتبار أنَّ الروح هو مصدر الحياة في جسم الإنسان وعندما تخرج الروح من الجسد يقع الموتُ، وعلى صعيد الثقافة الشعبية فإننا نعرف جميعا ومنذ الطفولة الاعتقاد المنتشر حول القطط باعتبارها حيواناتٍ محظوظة تملك سبعة أرواح ! والناس يحملون هذا التصور حول القطط ويفسرون على أساسه تحمُّل القطط ونجاتها المُلاحظ من الأخطار، أي صعوبة وقوعها في قبضة الموت، ومن هنا الوصف الذي يُطلق على شخص ما يحالفه الحظ بالنجاة من حادث خطير يؤدي عادة إلى الموت، أو تكرار نجاته من أخطارٍ قاتلةٍ إذ لا نتردد في التعليق على نجاته بالقول: يا لهُ من محظوظ صاحب سبعة أرواح !والمتحصل مما تقدم أن الروح في ثقافتنا الرسمية – الثقافة العالمة بتعبير البعض- أو ثقافتنا الشعبية هو التي يبثُ الحياة في الناس والحيوانات وأن الموت لا يقع إلا إذا مات الروح أو غادر الجسم البشري أو الحيواني. لذلك فنعمة الحياة ومصيبة الموت، والترحمُ على الأموات كلها ترتبط بالروح بالفهم الشائع منها.

   و لذلك لابد وأن نتساءل ثانيا: ما الذي نتعلمهُ من القرآن الكريم حول مسألة الروح ؟ لا يعرفُ قيمة ما يعلمنا إيّاهُ القرآنُ حول مسألة الروح إلا من جرَّبَ رحلة البحث في مختلف الثقافات الإنسانية بأديانها ونِحَلِهاَ المتعددة المتضاربة أين يجد المرء نفسه في غابات من التصورات والأوهام والأساطير والخرافات التي لا تزيده إلا ارتباكا وضياعا، وهنا لامحيد من التأكيد على حقيقة أساسية، وهي أن القرآن الكريم لم يذكر أبدا ولو مرة واحدة أن الروح هو مصدر الحياة في الجسم الإنساني بل نجد أن القرآن يربط دائما بين النفس وبين الحياة ” كل نفس ذائقة الموت..”) آل عمران 185) وعندما يحثُ القرآن المؤمنين على البذل والعطاء يردد دائما الصيغة المشهورة ” جاهدوا بأموالكم وأنفسكم ” ولم يحدث أبدا أن قال القرآن ” جاهدوا بأموالكم وأرواحكم” و” ماكان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا”(آل عمران145) وفي مقال يتناول مسألة الروح في القرآن لامناص من الإشارة إلى الآيتين الكريمتين 85و86 من سورة الإسراء ” ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا، ولئن شئنا لنذهبنَّ بالذي أوحينا إليك ثم لا تجد لكَ به علينا وكيلا..” ونحن نفهم من الآيتين أن الروح خارج نطاق عالم الإنسان فهوَ ” من أمرِ ربي” مما يجعل علم الإنسان بشأنه محدودا بالضرورة،  فالهدف توضيح العالم الذي ينتمي إليه الروح وليس التحقير من علم الإنسان، لكننا نفهم أيضا أن الروح أداة اتصال بين الله وبين الرسل والأنبياء والمصطفين، وبدونه لا يمكن حدوث مثل هذا الاتصال، وهو ما يتضحُ من خلال الفرضية التي تستعرضها الآية لتَفْهِيمِنَا حقيقة الروح ” ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك ثم لا تجد لك به علينا وكيلا ” أي يقولُ اللهُ سبحانهُ لنبيه الخاتم أننا لو نشاء لسلبنا منك الروح فيزول بزواله أو معه الوحي الذي أوحيناه إِليكَ لأنَّهُ لا وحي دون روحٍ، فيحاول النبي استعادة الوحي فلا يستطيع ” لا تجد لك به علينا وكيلا ” أي أنَّهُ بعد سلب الروح يبقى النبي حيا بدليل سعيه غير المجدي لاستعادة الوحي، وإذن فهاتان الآيتان اللَّتان يعتبرهما الكثيرون رفضا إلهيا قاطعا للإجابة على سؤال الروح تضمنتا في الواقع إجابة رائعة مذهلة عن السؤال، وقد نهض مفكرون كبار من أمثال المفكر السوداني الراحل محمد أبو القاسم حاج حمد، والمفكر السوري محمد شحرور بدور حاسم في طرح طرق جديدة في قراءة وتحليل القضايا والإشكاليات المتعلقة بمثل هذه المسائل، وهو ما يجعل العقل العربي الحديث مدين لهم بالكثير في هذا الصدد.

والإجابة التي وردت في الآية السادسة والثمانين من سورة الإسراء، وردت مرة أخرى في الآية52من سورة الشورى بشكل أكثر وضوحا وجلاء ” وكذلك أرسلنا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا….” فقبل إرسال الروح إلى خاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم كان حيا يرزق بين قومه في مكة المكرمة لكنه لم يكن يدري شيئا عن أمور الهداية من وحي وإيمان، ولم يأخذ علما بالإيمان والكتاب إلا بعد أن أرسل الله سبحانه إليه روحا من أمره عندها فقط أصبح خاتم الأنبياء يدري لأنه مع الروح التي أُرسلت إليه أصبح بمقدوره أن يتلقى الوحي من ربه. 

   وإذا كان القرآن الكريم يقرر أن النفس هي مصدر الحياة، وأنها هي مناط الحياة والموت، فلماذا تنتشر في مختلف الثقافات ومنها الثقافة الإسلامية أسطورة الروح التي يحيا بها الإنسان وعندما تغادر جسده يموت؟ سبب ذلك يعود إلى أن كبار المؤلفين في الثقافة الإسلامية مثل الطبري وابن جرير عندما شرعوا في تفسير القرآن الكريم لم يجدوا أمامهم من مصادر دينية إلا مصادر أهل الكتاب وخاصة العهد القديم الذي يمتلئ بالأساطير والحكايات حول مختلف المسائل المرتبطة بخلقِ الإنسان والوحي ومنها مسألة الروح، إذ في التوراة نجد حكاية أن الله خلق أدم ثم نفخ فيه الروح من منخريه فدبت الحياة في أدم الذي تعتبره التوراة أول إنسان خلق على وجه الأرض في حين يقرر القرآن الكريم أن أدم عليه السلام ليس هو أول بشر خلقه الله بل هو أول بشر اصطفاه الله  ونفخ فيه من روحه نفخة التكريم التي أعطت الوعي والعقل للإنسان كي يتميز عن باقي المخلوقات، وليس نفخة الخلق أول مرة كما هو شائع وراسخ في الأذهان، والأدلة كثيرة جدا غير أنني أكتفي بدليل واحد وهو أن الله تعالى أخبرنا بأنه قد اصطفى أدم “إن الله اصطفى أدم ..” (آل عمران33 ) والاصطفاء لابد وأن يكون من بين أناس أو بشر آخرين موجودين وجرى اصطفاء أدم من بينهم، والواضح أن الاصطفاء لن يكون له معنى إذا قلنا أن أدم هو أول بشر خلقه الله على وجه الأرض.

 و الأكثر من ذلك أننا لو أردنا أن نساير الفهم التقليدي لمسألة الروح لوقعنا في تناقض صارخ، فما دمنا قد فهمنا أن الروح لا يمكن فهمه أو مقاربته، وأن الله سبحانه قد رفض إطفاء غليل السائلين ! فكيف إذن سمحنا لأنفسنا أن نزعم بأننا قد توصلنا إلى أن الروح هي مصدر الحياة في الإنسان والحيوان ؟ إن أهل الكتاب عندما سألوا خاتم الأنبياء عن الروح كانوا يقصدون سؤاله عن المَلَكْ الذي يأتيه بالوحي وليس عن مصدر الحياة في الجسم البشري كما فهم الكثيرون قديما وحديثا.

   وهناك دلائل قرآنية كثيرة وقاطعة على أن الروح لا علاقة له بالموت والحياة وأن النفس هي المعنية بذلك ” يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية ..” (الفجر27-28) و ” يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها وتُوفى كل نفس ما عملت وهم لا يُظلمون” (111) ولذلك كان النبي عندما يقسم يقول: ” والذي نفسي بيده ” ولم يؤثر عنه أنه قال ” والذي روحي بيده” ،ونحن أيضا علينا أن نصحح كلامنا فلا نقول: نترحم على أرواح الشهداء بل على نفوسهم، وحوادث المرور تحصد مزيدا من الأنفس وليس الأرواح وقس على ذلك….وإذا بدا للبعض أن يتشبث بفكرة أن الروح هو مصدر الحياة في جسم الإنسان فليقل لنا كيف نفهم قوله تعالى عن مريم عليها السلام ” فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا “(مريم 17) فجبريل عليه السلام جاء إلى مريم في صورة إنسان ليبشرها بالمسيح، ولو صح أن الروح هو نبع الحياة، فهذا يعني أن مريم ستغدو بروحين، الروح الذي كانت تعيش به قبل البشارة والروح الذي حَلَّ بها بعدها. !؟

 وإذا كان الكثير من الناس اليوم لا يزالون يُخلطون خلطا تاما بين الروح والنفس، ويعتبرون أن الروح هي النفس أو قوة خفية في الإنسان تُناظرُ البدن، فإنَّ بعض المفكرين القدامى قد ميزوا بوضوح بين النفس والروح، فأبو حيان التوحيدي مثلا، يقول في كتابه ” المقابسات ” : ( لقد ظنت العامة وكثير من أشباه الخاصة أن النفس هي الروح وأنه لا فرق بينهما إلا في اللفظ والتسمية، وهذا الظن مردود، لأن النفس جوهر قائم بنفسه، لا حاجة بها إلى ما تقوم به، وما هكذا الروح فإنها محتاجة إلى مواد البدن وآلاته ).وفي كتابه الآخر ” الإمتاع والمؤانسة ” يعود للتفريق بين الروح والنفس : ( إن الإنسان ليس إنسانا بالروح بل بالنفس، ولو كان إنسانا بالروح ، لم يكن بينه وبين الحمار فرق، بأن كان له روح ولكن لا نفس له، فليس كل ذي روح ذا نفس، ولكن كل ذي نفس ذي روح ) ويقول الدكتور زكريا إبراهيم أن هذه التفرقة الأخيرة تدل على أن التوحيدي قد فهم  “الروح” على أنها مبدأ الحياة في الكائن الحي، فنسب إلى الحيوان ” روحا ” هي التي تُشيع الحياة في أعضاء جسمه، بينما اعتبر “النفس” جوهرا قائما بذاته هو مبدأ ” العقل” في الموجود البشري، فَوَقَفَ كلمة النفس على الإنسان من حيث هو كائن ناطق. وما يهمنا من كلام التوحيدي وتعليق الدكتور زكريا إبراهيم، أن التوحيدي الذي عاش في القرن الرابع الهجري إذا كان يعتبر أن الروح هو المسؤول عن طاقة الحياة في أجسامنا كما يعتقد- خطأ- أغلب الناس اليوم، فإنَّهُ قد ميز على الأقل بين الروح والنفس وهو ما لم يصل إليه الكثير من المفكرين والعلماء في زمننا الراهن، ويبقى قول التوحيدي: ” الإنسان ليس إنسانا بالروح بل بالنفس ” قمين بكل تجلةٍ وإعجاب لأنَّهُ قول يتفق بعمق مع فهمنا المعاصر للحقيقة القرآنية الباهرة، في أن الروح والنفس قضيتان مختلفتان .

 فمعنى الروح كما نستشفها من القرآن هي الوحي أو ملك الوحي مثل قوله تعالى:” وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ” (الشورى52) وقوله: ” نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين”( الشعراء193-195) وكل من يفهم الروح على أنها هي النفس أو القوة المُسَيِّرةِ للجسم يبتعد عن الحقيقة القرآنية، إذن نحن نحيا بالنفس وهي التي تموت ولا علاقة للروح بموتنا أو حياتنا، النفس أمر مادي والروح أمر رباني. وبفهمنا الصحيح لمسألة الروح من القرآن الكريم تسقط كل أوهام تناسخ الأرواح واستحضارها وغيرها من مفاهيم السحر والشعوذة المُتأتيةِ عن الإدراكات الأسطورية، التي جاء القرآن ليصححها وينقذ الإنسانية من مفاهيمها الفاسدة ومُترتَبَاتِهاَ المُضلةِ المُدمرةِ.

                                               

 

شارك على :
المحور العربي © كل الحقوق محفوظة 2023