مسألة التبعية في منظومة-العالم…معقدة!!…بقلم فتحي بوليفه*

مسألة التبعية في منظومة-العالم…معقدة!!…بقلم فتحي بوليفه*

ثبت من الزاوية التاريخية أنه من الصعب اعتبار التخلف مرحلة (سابقة) تؤدي لا محالة إلى التنمية بالكيفية التي عاشتها أوروبا الغربية و في نفس الوقت تأكد أن التخلف ظاهرة أفرزها إلى حد كبير نقيضها أي مزيد تقدم العالم المتقدم و أن التبعية التي تميز بلدان العالم النامي و تشكل إحدى العوامل الرئيسية المفسرة للتخلف، تتكثف بتكثف مجهودات التنمية و كأن التبعية ضريبة تقتضيها التنمية. و يبرز التخلف كواقع ناتج أيضا عن التطور العالمي للنفوذ الاقتصادي الذي أنتج منظومة عالمية متماسكة الأجزاء و في نفس الوقت غير متكافئة و قائمة على التقسيم العالمي الجديد للعمل.            

1- مظاهر و أسباب ارتفاع تبعية دول الجنوب

يتم احتساب نسبة التبعية على النحو التالي:

نسبة التبعية = (قيمة الصادرات + قيمة الواردات) ⁄ 2  X 100

الناتج الداخلي الخام

تسجل البلدان النامية نسبة تبعية مرتفعة تفوق المعدل العالمي (23.8 ℅) وصلت إلى 24.3 ℅، لكنها وصلت في البلدان الأقل تقدما إلى 35.6 ℅ و وصلت أقصاها في بلدان إفريقيا جنوب الصحراء الأكثر فقرا في العالم إلى 43.6 ℅ سنة 2015 رغم تراجعها.

تطور نسبة التبعية في العالم (℅)

 

المصدر: دول العالم

تشمل المجالات التبيعة غير المندمجة الدول النامية، ومنها دول غنية كالدول النفطية لكنها تعاني من مظاهر التخلف كضعف مؤشر التنمية البشرية بها، ودول فقيرة أغلبها بإفريقيا جنوب الصحراء، أما الصين والهند فهما عملاقان بحكم عدد سكانهما ويشكلان سوقا استهلاكية هامة.

تعاني دول الجنوب عدة مشاكل تعوق تطور اقتصادها واندماجها في منظومة-العالم مثل الجفاف والمجاعات والحروب الأهلية والكوارث الطبيعية كالفيضانات والزلازل. لكن بعض دول الجنوب بحكم أنظمتها السياسية والاقتصادية التابعة لدول الشمال، حققت نوعا من الإندماج المفروض بجعلها مناطق اقتصادية حرة، لا تفرض فيها ضرائب جمركية مثل تايوان وسنغافورة ودبي بالإمارات الخليجية. وبحكم ارتفاع تكاليف اليد العاملة في الدول المتقدمة، أصبحت المناطق الحرة مجالا للإستثمارات الأجنبية لاستغلال اليد العاملة زهيدة الأجر وغزو أسواق حرة.

2- التبعية التجارية: نتاج للتقسيم العالمي للعمل

تعكس هياكل التجارة العالمية للعالم النامي التقسيم العالمي الجديد للعمل أي تخصص البلدان المتقدمة في تصدير تجهيزات النقل و الآلات الفلاحية و الصناعية إلى جانب منتوجات أخرى باهضة القيمة و المتطورة (مثل المنتوجات الإعلامية و البرمجيات) و كذلك المواد الغذائية و تخصص العالم النامي في تصدير المواد الأولية و الطاقة إلى جانب البضائع الصناعية مع الملاحظة أن نصيب المواد الأولية من صادرات العالم النامي انخفض نتيجة تطور قدراته التحويلية و أن خمسة أسداس هذا الانخفاض ناتج عن حركة التصنيع في الأقطار الصناعية الجديدة.

و بخصوص الميزان التجاري لبلدان العالم النامي يجدر التأكيد على أن العجز متواصل بسبب استيراد البضائع الكمالية التي تستهلكها الفئة الغنية وحرص بلدان العالم النامي على تحقيق نسبة نمو صناعي مرتفعة بتوريد المزيد من التجهيزات (وكذلك المواد الوسيطة) و أن العجز المذكور لا يشمل إلا بعض الاستثناءات هي بعض “البلدان المنجمية” و “النفطية” و بعض الأقطار الصناعية الجديدة.

و بشكل عام تتميز الموازين التجارية في العالم النامي بالخصائص العامة التالية:

– سيطرة المواد الصناعية على التوريد و أهمية المواد الأولية النباتية و المنجمية و الطاقية في التصدير مع تنام سريع لوزن المواد الصناعية.

– اعتماد التصدير على مادة أو مادتين رئيسيتين و تأثير تذبذب أسعارها في الأسواق العالمية في سير الاقتصاد الداخلي و في مجهودات التنمية.

– محدودية عدد المتعاملين تجاريا مع أقطار العالم النامي و الارتباط الوثيق بالمستعمر سابقا أو بأقرب قوة اقتصادية منه، فأمريكا اللاتينية تتعامل بالخصوص مع الولايات المتحدة الأمريكية و إفريقيا مع أوروبا و آسيا مع اليابان و الولايات المتحدة الأمريكية (التي حلت محل المملكة المتحدة). يعني ذلك أن فقدان سوق واحدة (أي بلد حريف واحد) يؤدي إلى انخفاض الدخل القومي للقطر المتخلف و أن بلدان العالم النامي ترتبط توريدا و تصديرا بغير جيرانها و يصبح الاندماج الإقليمي الدولي غير ممكن.

– عدم تكافئ المتعاملين التجاريين لعدم تكافئ وزنهم الاقتصادي يجعل بلدان العالم النامي في موقع التبيع.

– تحكم البلدان المتقدمة في النقل البحري رغم حرص بعض أقطار العالم النامي على اكتساب أسطول هام.

و بصفة عامة تدل التبعية التجارية في نطاق التقسيم العالمي للعمل على أن العالم النامي لا يتحكم في الأسواق العالمية و أن عدم التحكم في الأسواق العالمية يؤدي إلى عدم التحكم في أسعار المواد التي ينتجها و يصدرها و يفضي عدم التحكم بالأسعار إلى عدم استقرارها و بالتالي إلى تذبذب عائدات التصدير و إلى تذبذب مجهودات التنمية.

و لأن العالم النامي يبيع بضاعة ثقيلة الوزن و محدودة القيمة و يشتري من الخارج بضاعة خفيفة الوزن و عالية القيمة تتقلص مقدرته الشرائية في الخارج بما توفره عائدات التصدير التي تتأثر شديد التأثر بتدهور طرفي التبادل. و يعتبر تدهور القدرة الشرائية المذكورة حتميا للتراجع النسبي في الطلب على المواد الأولية نظرا إلى تناقص أهميتها في صناعة المواد الجاهزة و إلى تعويضها بالمواد الوسيطة الجديدة (المخبرية منها بالخصوص).

و نتيجة لارتفاع أسعار البضائع المستوردة من جراء ارتفاع كلفة الانتاج في البلدان المتقدمة، يتم تحويل التضخم المالي الخارجي (على المدى البعيد) إلى العالم النامي.

3- مسؤولية الشركات متعددة الجنسيات

إن العلاقة بين الشركات متعددة الجنسيات و بلدان العالم النامي غير متكافئة لأن رقم معاملات الشركات المذكورة منفردة يتجاوز بكثير الناتج الخام لهذه البلدان منفردة أيضا. و قد استطاعت هذه الشركات بتنظيمها للإنتاج و المبادلات على نطاق عالمي واسع أن تسيطر على هذه الدول التي لم تبادر بعد بتجميع قواها للحد من نفوذ هذه الشركات للمحافظة على ركائز سيادتها.

و لقد كونت هذه الشركات مجالا متجانسا يتم فيه نقل التكنولوجيا و الفنيين القائمين على التصرف و رؤوس الأموال و البضائع الجاهزة و قطع التركيب و تكون الأسعار في هذا المجال محددة خارج الأسواق العالمية. يعني ذلك أن “السوق الخارجية” تعوض بـ “سوق داخلية” (سوق داخل مجال الشركات متعددة الجنسيات).

و من الزاوية التاريخية يتضح أن تدخل الشركات المذكورة و مواقف دول العالم النامي منها اجتازت مرحلتين أساسيتين:

– خلال الستينات و جزء من السبعينات، وضعت الشركات متعددة الجنسيات ( التي كانت ترغب في توسيع مجال تدخلها) في قفص الاتهام و حرصت دول العالم النامي على تدعيم سيادتها الوطنية. و لأن الاعتقاد كان راسخا بأن الاستثمار الخارجي المباشر، تماما كالمبادلات التجارية، ينمي ظاهرة التبعية، بات ضروريا محاصرة الشركات متعددة الجنسيات و الحد من وجودها أو صدها و التوجه نحو سياسات التنمية الذاتية.

 – في الثمانينات تغير الموقف بتحول السياسات الاقتصادية في دول العالم النامي من التدخل المباشر للدولة إلى تحرير الاقتصاد و تحديد أوليات تنموية جديدة. و في هذه المرحلة تغلب التوجه الصناعي التصديري على التصنيع الذاتي و أصبح اللجوء إلى و لخلق نسيج صناعي محلي عن طريق إحداث المؤسسات المختلطة و إن زاد ذلك في التبعية للخارج.

و في الفترة الحالية، تأكدت ظاهرة انسحاب الشركات متعددة الجنسيات و تقلصت الاستثمارات الموجهة إليه، ذلك للأسباب التالية:

– توقعات المقرات الاجتماعية بتراجع مردود الاستثمار عي العالم النامي،

– استبعاد امكانية النهوض الاقتصادي في بلدانه من جراء التداين،

– الاهتمام المتزايد بالولايات المتحدة الامريكية.

و تتنبأ هذه المؤشرات بتعرض العالم النامي لمزيد التهميش و إعراض الشركات متعددة الجنسيات عن المساهمة في اقتصاد بلدان أصبحت تلح في طلب هذه المساهمة.

4- التبعية في التوجه التنموي التصنيعي أو تنمية التبعية

تقوم سياسات التنمية في بلدان العالم النامي على الإستثمار في غير القطاعات الفلاحية و بالخصوص في الصناعة .وقد كثف هذا التوجه التنموي في توريد المواد الوسيطة و التجهيزات و التكنولوجيا و رؤوس الأموال و كذلك المواد الغذائية. وبآختصار شديد أفضى التوجه التنموي المذكور إلى المزيد من التبعية التجارية و التكنولوجية و أسقط العالم النامي في فخ التداين الشديد.

أ – ضريبة التصنيع : التبعية التكنولوجية

إحتاجت حركة التصنيع تكثيف واردات التكنولوجيا و الحذاقة الفنية عن طريق عدّة قنوات أهمها الشركات متعددة الجنسيات و ذلك في نطاق التقسيم الجديد للعمل الذي خصص القطاعات ذات كثافة رأس مال عالية للعالم المصنع و القطاعات ذات كثافة يد عاملة مرتفعة للعالم النامي. و يتولى العالم المتقدم بيع التكنولوجيا و المعارف التكنولوجية و توفير التجهيزات و المواد الوسيطة في نطاق عقود ثنائية و في غياب قانون دولي يشكل إطارا أخلاقيا يحمي بلدان العالم النامي. و الجدير بالملاحظة أن من يوفر التكنولوجيا يمتنع عن بيعها في صورة مبادرة المشتري بسن قانون داخلي ينظم نقل التكنولوجيا و أسعارها و نسبة الإندماج المرتقبة.

و من أهم سلبيات نقل التكنولوجيا نذكر بالخصوص ثقل العبء المالي الذي يتحمله القطر المشتري بالعملة الأجنبية، و يفرز ذلك مزيدا من المديونية و اختلالا في الموازين المالية الخارجية و كذلك الرفع في تكاليف الانتاج و أسعار البيع في السوق الداخلية.

و الحقيقة الأساسية الأخرى أن التبعية التكنولوجية تولد الثنائية الهيكلية في اقتصاد بلدان العالم النامي و تفرض عليها نمطا إنتاجيا و اجتماعيا أجنبيا ما دامت التكنولوجيا المنقولة نتاجا لمجتمعات أخرى. و في كثير من الحالات يتزامن نقل التكنولوجيا مع نقل رؤوس الأموال (في شكل مساهمات) و تكون التبعية عندئذ مزدوجة (تكنولوجية مالية).

ب – ضريبة التنمية : التبعية المالية أو السقوط في فخ التداين

خلّف المجهود التنموي (في الصناعة خاصة) مزيدا من التبعية المالية و أسقط بلدان العالم النامي في فخ للمديونية لم تسقط في مثله من قبل لعظمة مقادير الديون. و قد نتجت هذه الظاهرة الخطيرة انتهاز العالم النامي فرصة تدفق السيولة المالية خلال فترة الطفرة النفطية في السبعينات لتكثيف الاستثمار و لتمويل مجهود تنموي ضخم.

من أهم نتائج التبعية المالية الناتجة عن السقوط في فخ التنمية نذكر:

– الاختناق المالي بعد انخفاض أسعار الطاقة و المواد الأولية و ركود أسواقها العالمية و كذلك توقف النمو لأن الاقتصاد الوطني أصبح مجندا لتسديد خدمة الدين. و قد شمل توقف النمو هذا القطاع الصناعي بالخصوص.

– عدم القدرة على الدفع أدى إلى قبول “مخططات تعديل الهياكل” التي يستلزمها الحصول على سيولة جديدة من صندوق النقد الدولي و الضرورية لتعديل ميزان الدفوعات و تمويل بعض المشتريات في الخارج.

في الختام، يمكن حصر أهم انعكاسات مزيد التبعية عن طريق الجهود التنموية المبذولة لمجابهة التخلف في:        

– تدعيم الثنائية الاقتصادية و الفشل في تحويل المجتمع من مجتمع تقليدي إلى آخر عصري،

– منع ظهور اندماج إقليمي أفقي في العالم النامي و منع الاندماج الاقتصادي داخل الحدود الوطنية،

– تعميق الفوارق الاجتماعية و فشل جهود مقاومة الفقر.

 

*أستاذ باحث بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بسوسة

شارك على :
المحور العربي © كل الحقوق محفوظة 2023