(خديجة بنت خويلد عليها السلام) من الْحُجُون إلى القصر القصبي وحدائقه الغناء…بقلم د.نعمان المغربي

حديث حجي إلى أمي الكبرى خديجة بنت خويلد عليها السلام
“إني قد رزقت حبها” النبي الأكرم محمد (ص)    

كانت بهجتي برؤية الكعبة عظيمة، لم يكدِّرها سوى خنقها بالعمارة الغربية المتكبرة… ولما أَتْمَمْتُ شعائري بمقام محمد، الرحمة للعالمين، ومقام إبراهيم، قلت لن يكتمل حجي إلا بزيارة من أقامت الحج حق إقامته، وأفنت عمرها من أجل عودته للإبراهيمية السمحاء، وأفنته من أجل كل أبنائها في العالم :الجائعين والفقراء و العبيد والخاضعين للاستكبار …

دَخَلْتُ الْحُجُون ليلا خوفا من الرقيب، فوجدت حجارة مبعثرة هنا وهناك… فهالني ما رأيت، وصرت كالمجنون أجري وسط المقبرة، أبكي متألما من عدم تقديس الذاكرة المحمدية (ص) حتى نستطيع إقامة القداسة في أنفسنا… وَهِمْتُ في المكان أصيح :«أين أنت يا والدتي… ها أنا يتيمك جاءك ليزورك… فكيف سيجدك في هذا الخراب ؟ ! وكيف سيسكن قلبه في هذا الدمار كي يستطيع أن يقوم في موقف الْبُنُوَّة المطمئن؟»… وإني لكذلك أصيح،  إذ ظهرت لي أمي الكبرى ، مبتسمة، راضية، كأنها القمر ليلة البدر، مع جمع من الملائك… فسكن روعي، واندفعت إليها إندفاع الطفل اليتيم الذي حرم والدته الوجودية طويلا… فوضعت يديها النورانيتين على رأسي،  فماهي إلا لحظة إلا كُنْتُ في بيتها القصبي (=الفضي) وحدائقه الغناء الشاسعة جدا جدا… فأنطلق لساني بزيارة، كانت عيناها الإلهيتان هما اللتان تضيئان حروفها…

السلام عليك يا أمي… يا أم كل المؤمنين…

السلام عليك يا زوجة الإنسان الكامل…

السلام عليك يا زوجة الرحمة للعالمين… يا من رَفَضَتِ كل الرجال الأغنياء الاستكباريين الموالين للدولة البيزنطية، ولم تختاري إلا محمدا… اي ان افضل النساء في العالم آنئذ اختارت افضل الرجال

السلام عليك يا أم وزيرة الاقتصاد العادل في دولة محمد (السيدة فاطمة)…

السلام عليك يا أغنى أغنياء مكة التي مِتّ عطشى جائعة لأنك أَنْفَقْتِ كل مالك حتى لا يموت المسلمون المحاصرون في شعب أبي طالب من الجوع !

السلام عليك يا أول المؤمنات…

السلام عليك يا من نصرتْ الإنسان الكامل ودافعتْ عنه الأعداء…

السلام عليك يا مَنْ بعث رب العالمين سلامه إليها  بواسطة جبريل…

السلام عليك يا مَنْ خسرتْ كل أبنائها فشكرت ربّها، فابدلها الله خيرا منهم: السيدة الكوثر( ع)

السلام عليك يا مَنْ شكر الله تعالى أيوبيّتَها فأعطاها البيت القصبيَّ، بيت الحب الإلهي…

السلام عليك، يا مَنْ شكر الله تعالى أيوبيّتَها فأعطاها الكوثر!

اِقبليني يا أمي، ابنًا من أبنائك … طوّبيني يا مولاتي لأكون مثلك معطاءً لكل الناس، مبدعًا في عملي، نظيفًا في معاملاتي، عاشقًا للرحمة للعالمين، حتى أكون سعيدًا مثلك – دنيا وآخرة…

اِقبليني يا أمي… اِشفعي لي حتى أُولَد وُجُودًا… دعيني أدخل إلى رسول الله (ص) مِن باب كرمك، وهو أكرم الأكرمين، يا والِدتي…

1- حديث البداية:

أكرمتني سيدة الكرماء بمائدة لم أَكْرَم بها طيلة حياتي… ثم جالت بي في حدائقها الشاسعة جدا، مع جمع من أحفادها ومحبيها… ثم أوقفتني عند شجرة كبيرة كأنها السنديان عند نهر رقراق وأجلستني…. قالت:« كم أهانتني أمتنا بجعل أبي الحنيفي كافرا، وباختلاق أزواج!… ألا يخافون الله تعالى في تشويه سمعتي، بل سمعة رسول الله (ص)؟…».

قلت لها:مولاتي.. والدتي.. كل المحققين متفقون أنك توفيت وعمرك 52 أو 53 سنة… وهم متفقون أنك بقيت مع رسول الله (ص) 25 سنة… فيكون عمرك لما تزوجته حوالي 28 سنة، أي أنت تكبرينه بـ 3 سنوات…أجدادك كانت لهم أدوار في أحداث مكة فبنو أسد أهل «حكمة» في قريش… وقد كانت أسرتك بين ديانة إبراهيمية عامية وحنيفية، وبين تدين مسيحي متنصر… ولذلك نشأت قارئة، ومبدعة للشعر، بل مطالِعة في الإنتاج السوريّ في البداية الإبراهيمية، خاصة في الأدعية الدَّاودية، وفي النزوع العِرْفاني… ولذلك كانت عزيمتك أن لا تتزوّجي إلا رجُلاً عارفا، ان لم يكن كاملا، لأنك كُنت قد بلغت بمجاهَدَاتك الروحية درجة عالية جدًّا… لذلك رَفَضْتِ أغنى أغنياء مكة وأعظمهم مكانةً، كأبي سفيان بن حرب وأبي جهل، وعقبة بن أبي معيط والنضر بن الحارث، وبعض المخزوميين… وحاشا لعقلك أن يقبَل رجُلاً نكِرة، ليست له (ولا لأبنائه) أي ترجمة في التراجم ولدى علماء الأنساب، تميميًّا أعرابيًّا، أي من قبيلة نجدية كانت من أعتى القبائل على رسول الله (ص)، فهي من قرن الشيطان…

سمعتِ أنّ رجلا هاشميا، يُدعى محمدًا، يُقال أنه مِن أرقى أهل العِرفان والصلاح وقد يصبح نبيًّا… إنك من أهل العقل، ولا يُمكنك في مسألة خطيرة كالزواج، أن تعتمدي على الشائعات، بل يجب أن تريْ بنفسك، بل أن تختبري هذا الرجل… فالفرضية مناسِبة إليك إن صحَّتْ… يا أعقَل النساء… بل كنت مِن أعقل عقلاء الناس في كل الأرض آنئذ…

كانت قريش تجْني ما بناه سيّدنا قُصيّْ، مِن مَصَارف تجارية في صنعاء والمدَائن وأكسوم والفسفاط وغزة ودمشق، وغيرها… وكان بعض النساء مشاركات في التجارة القرشية كأسماء بنت مخربة (تاجرة العطور)، وقَيْلة أم أنمار، وهالة أخت السيدة خديجة (تاجرة الأدم)… ومَنْ يحقدون عليك، زَوّجوك أعرابًا وفقراء، وافترض المؤرخون الأمويون في كل عصر، أنك ورثتهم لتصبحي أغنى أغنياء مكة… لا يعلمون أن المرأة العربية لم تكن ترث شيئا (حتى نزلت آية المواريث في سورة النساء)، بل كانت الزوجات مِنْ بيْن الميراث… لقد استشهد أبوك في حرب الدفاع عن الوطن المكي (حرب الفِجار) و لمْ يَبْقَ له وريث سوى نوفل بن خويلد أخيك… وكان إبراهيميًّا، لا منحرفا عن دين إبراهيم مثل جل العرب، فاقتسم معك تركته… ولكنَّ ذلك لا يفسّر ثروتك العظيمة…

فالذي يفسرها –يا مولاتي- هو عقلك التدبيريّ العظيم… كنت أعظَمَ ذكاءًا مُرَاكَميًّا مِن الرأسماليين البْرُوتِستَانْتيين، وأعظم من فورد، وأعظم منْ مقاولي ماليزيا اليوم… وكنت أعظم منهم أخلاقًا… فكنت تشترين العبيد لتعتقيهم (قَبْل أن يحرّم زوجك العظيم النخاسة: ﴿فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فداء﴾)… بل عتقت مَيْسرة لتجعليه محاسبًا ماليّا في بعض رحلاتك التجارية.. وكان أعظم عتقائِك زيد بن حارثة (مظلوم قومه، ومظلوم المسلمين، الذي جعلته ابنك حتى حسبه الناس وليدك لولا اية سورة الأحزاب عدد5، وبلال بن رباح، وخبّاب بن الأرث… وكنت تعتقين العبيد المسلمين مانحة إياهم رؤوس أموال صغيرة حتى لا يضيعوا بعد العتق أو يصبحوا متسوّلين دون التكريم الإلهي للإنسان… كانت أجورك المرتفعة ونوافلك التشجيعية، وحسن معاملتك ولطفك مع مستأجريك، وذكاؤك السُّوقي، هي الأسباب الأولى لتفوّقك على كل أغنياء قريش… والأهم هو نظافة قلبك، وشكرك كل يوم لخالقك، بقلبك الجميل القُدُسي: ﴿لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ﴾… فليقْتَدِ بكِ كل مَنْ أراد اليوم أن يقود بناء اقتصادٍ سياديٍّ-عداليٍّ… ليتواضعوا مع عظمة روحك وعقلك وذكائك، قبل أن يُغرقوا سفيتنا… لينزعوا عنهم تكبّرهم عليك وحقدهم الذي ورثوه عن أجدادهم الأموييّن («متدينين» كانوا أو علمانيين)…

طوّر، أبونا (أبو كل البشرية) سيدنا محمد (ص)، تجارتك، فتضاعفتْ…وكنت قد نطقت شعرا حين يعود من كل سفر:

جآء الحبيب الذي أهواه من سفر والشمس قد أثرت في وجهه أثرا
عجبت للشمس من تقبيل وجنته والشمس لا ينبغي أن تدرك القمرا

وكان مِن المنطقيّ أن يصبح أعظم مقاول بالتاريخ، لولاَ أن الله تعالى اختار أن يصبح هاديَ الناس، وأن يعيش مع فقراء العالم ومستضعفيه… كانت كل أموال الجزيرة العربية تجيء إليه، وكانت السّلّة الغذائية للجزيرة (فدك) بيده، وكان قد ورث كل الرصيد النقدي الذي كان يحتكره اليهود، فلم يُصبح بها ثريّا… كان همّه –مثلك- أن يكون أغنى أغنياء القلب…

2- حديث أن أم المؤمنين بالحقيقة بسورة  الأحزاب(33) لا تعنيها إلا هي لتكون والدة أَهْلَ الببت:

يا أم الإيمان… كان أن الله تعالى لم يخترْكِ، أحسن امرأة لأكمل البشر وهاديهم الأول والأخير، محاباةً، بل كان بامتحانٍ دخلتْ فيه أهم نساء الجزيرة العربية، بل والعالَم، إذ كانت في ذلك الامتحان سيدتنا ماريّة المصرية، المسلمة، علاوة على سيدتنا أم سلمة هند ذات الهجرتين… كان لا بدّ أن واحدة  فقط من نساء عصر الرسول هي التي يجب أن تُنجب «أَهْلَ البيت»، لأنّ لكل رسول « أَهْلَ بيت»، أي كاملون يرثون رسالته بتواضع وحكمة مع الناس… ويجب أن تكون هي اكمل نساء العالم آنئذ…

إن التي تريد ان تكون«أمّا للمؤمنين»، أي مُنْجِبَةً لـ«أهل البيت»،والدةً لهُداة البشرية بَعْد محمد وتحت ظله، يجب أن تتوفر فيها في امتحان الآية 33 من سورة الأحزاب خمسة شروط :

1- القرار في البيت:﴿وَقَرْن فِي بُيُوتِكُن ﴾(الأحزاب، 33): وهو ضبط الذات. فالبيت الوجودي الذي تسكنه ام المؤمنين حقا يجب أن يكون قويًّا. قال العارف ابن عربي:«ما قوة البيت سوى ربِّه (صاحبه)، ويخرُبُ البيتُ إذا ما يموتُ». فالقرار في البيت الوجودي يتطلب المراقبة اليومية للذات جسدا ونفساكل يوم:«مَنْ أخلص لله أربعين صباحًا، ظهرت ينابيع الحكمة مِن قلبه إلى لسانه»، وكانت أفعاله مؤثرة في مَجْرى الكون ومَجْرى الاجتماع البشري… وأشهَد أنك يا أمَّ بيتي، ويا أم أهل بيت العالمين، أنك قَرَرْتِ في بيْتِك الذي حسّن بناءه لك رسول الله، فلم تُثيري فتنة سياسية ولا دينية ولا قمتِ بإثمٍ اقتصادي أو مُعَامَلِيّ: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا﴾

2 عدم التبرج الإجتماعي:﴿وَلاَ تبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجَاهِلِيَّةِ الأُولَى﴾: هو عدم استغلالك الحرية التي وفّرتها الديانة الإبراهيمية، وخاصة المحمدية البيضاء ، لمّا اقْتَرَنْتِ بسيد الرسل (ص)، لكي تُنْكَصَ الحرية إلى الاستهتار الجاهليّ، بإثارة العصيبات بالمدى الاجتماعي الواسع (=المدى المتبرّج).

3-﴿أَقِمْنَ الصَّلاَةَ﴾:وهل هُناك مَنْ مِثْلك في النساء أقامت الصلاة ؟! ألم تكوني أوَّل امرأة تعرف صلاة رسول الله، فتصلين بها في منزلك، وفي غار حِراء مع عليّ… وكنتم الثلاثة تصلون أمام الكعبة الشريفة تحت أعين الجميع؟! ومَن مثلكِ صلّتْ حتى تورَّمتْ قَدَماهَا، حين لم يكنْ موحِّد بالعالم غيركم؟! هل هذا المقام نالته آية واحدة من زوجات النبي؟!

4-﴿وَآتيْنَ الزَّكَاةَ: ومنْ مثلكِ يا سيّدتي آتت الزّكاة (مِن زوجات النبي وغيرهن)؟! ألَمْ تَقولي أمام جميع سكان قريش، يوم وليمة عُرسك الإلهي، أن كل مالك لزوجك العظيم؟! ألمْ تكوني أنتِ المرأة الوحيدة التي مَهَرتْ سيِّد الكونَين؟! ألم تُنفقي كل مالك على العبيد المسلمين إذْ تنقذينهم مِن العبودية و الأسر وتعطينهم رؤوس أموال صغيرة ليصبحوا أهل مهنٍ (خبّاب بن الأرتّ، الحدَّاد…)؟! ألم تموّلي رحلة اللاجئين إلى الحبشة وتمُدّينهم بما يكفيهم طيلة سنواتِ الهجرة؟! ألم تشهد أسماء بنتُ عُميس أنك «أطعمتِ جائعيهم» طيلة الوجود بمكة؟! ألم تُنفقي «كل» مالك على قوتِ المحاصَرين المسلمين في شِعْب أبي طالب، حتى استشهدتِ بالجوع؟! يا الله، كيف يمكن لمليونيرة لها اكثر من 5مصارف تجارية في العالم أن تموت على حصير مع الفقراء والعبيد والمهمشين، خارج قصرها، من الجوع؟! كيف يمكن أن تموت مليونيرة ولا تجد ثمن كفنٍ، حتى قالت لابنتها فاطمة (ذات الخمس سنوات): «اِذهبي لأبيك الكريم. قولي له إن أمي راحلة، وسَليه أن يُعطيني رداءهُ يُكفنني به!»؟! وكانت هي المرة الوحيدة التي طلبَتْ منه فيها شيئا ماديّا، ولكنه كنز روحاني بالنسبة إليها!!

5– الطاعة المطلقة لله وللرسول: ﴿وَأَطِعْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ﴾: وهل هناك مِن زوجات النبي (ص) مَن أطاعت الله ورسوله مِثلك؟! أنتِ وهبتِ كل مالك له، وأنفقت كل مالك على دَعوته وعلى عشاقه الذين آمنوا به، أما جُل زوجات النبي (باستثناء أم سلمة ومارية المصرية) فقد غضبن عليه لأنه لم يُعطهن شيئا من «الغنائم»، وتمرَّدْن عليه أكثر مِن شهر ونصف، وإثنتان مِنهُن هدَّدهما الله تعالى بجيشٍ يقوده هو بنفسه: ﴿إِن تَتُوبَا إِلَى اللَّـهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا، وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّـهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ، وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ﴾

فلن يكون أهل البيت الذين سيُولَدون مُطهَّرين تطهيرًا إذا لم تكن والدتهم الكبرى: قَرَّتْ في بيتها الأنطولوجيّ، وجاهدت، وحَجَّتْ، ولكنها لم تتبرَّجْ سياسيّا ودينيا واقتصاديا، ولم تستغلَّ زواجها من النبيّ لكي تنال مَنصبا دنيويّا أو مقاما اجتماعيًّا (التبرج السلطوي والنفوذي)… وإذا لم تُقِم الصلاة بشروطها النفسية المُجَاهَدِيّة، وإذا لم تأتِ الزكاة أفضل من كل المزكّيات (تضحية وفناءًا)، ولم تُطع إلهها الحكيم، البديع، ورسولها العبد لله…

هنالك، ستكون الناجحة في هذا الامتحان هي المنجبة/الوالدة لـ«أهل البيت»: ﴿وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّـهَ وَرَسُولَهُ ،إِنَّمَا(=وذلك لأنه) يُرِيدُ اللَّـهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (الأحزاب، 33)… ولذلك كان الإمام الثالث يعرّف بنفسه صائحًا مفتخرا: «أنا ابن خديجة الكبرى!»…

فوالله يا مولاتي إن الآية 33 لم تعنك الا أنت حصرا!

3-حديث المدثرة المزملة لمعاناة الكينونة الرسولية:

قلت لها مذاكرا: …كانت لحظة الوحي على النبي (ص) لحظة صعبة، يتقاطر منها عَرَقا، وارتجافًا مِن فنائه في الذات الإلهية الكريمة… فيدخل عليك رسول الله (ص)، طالبًا عطفك ومؤازرتك قُبيْلها مناديًا: «ياخديجة دثريني! يا خديجة زمّليني!».. فوثق إله القرآن الكريم تلك اللحظة الخديجية: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ﴾، ﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ﴾، أي يا أيها المتزمّل بسكن خديجة، ويا أيها المتدثر بمودَّة خديجة ورحمتها الكونية… ولذلك كان جزاؤك الدنيوي، أن قُوبل زِمالك ودِثارك، برداء محمدٍ (ص) كفنًا لك، أي لباس عروس محمد في السماء…

وقد وثّق القرآن الكريم لحظة صلاة الموحّدين الثلاثة الأوائل: ﴿إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِّنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّـهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ﴾ (المزمل، 20)… فكان تقديره لليلكم ونهاركم المبَارَكَيْن، ولضَرْبك في الأرض كسبا وإنتاجا معاشيا رغم البرنامج الكثيف للدعوة وللمجاهَدات النفسية، وقد عبّرت عنك  الآية الكريمة بالجمع لأنّك عظيمة: ﴿وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ﴾ (المزمل، 20)…

ويواصل الله تعالى توثيقه لإتيانك الزكاة، كما نصّت سورة الأحزاب (الآية 33)، فيقول:﴿وَوَجَدَكَ [يا محمد] عَائِلاً فَأَغْنَى، فحتّى ثمن الدابة التي نقلتْه إلى المدينة كانت من مالك… فالنبي انطولوجيا هو أكرم الكرماء، ولكنَّ ذلك يتطلب إثباتًا تاريخيا، وكان الإثبات أن وَهْبته مالك حتى يحقق هذا الاستعداد الوجودي: ﴿وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ﴾… فأنت  من القرائن على أن الله تعالى لم يَدَعْ محمدًا (ص) يومًا واحدًا في حياته: ﴿مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى﴾… فأنت تجلي معطائية محمد صلى الله عليه وآله .

4-حديث الْمُكْث الخديجي والاستئناس المحمدي بالقبس الفاطمي:

قلت لها: يا ام إيماننا…

كانت سورة طه تكنّي عن النبي (ص) حين سمَّتْ «الْمُوسَى»، أي «المنقذ» في اللغة العربية ، اذ أن الوساية هي العدل والقيام بالاستواء… كان الموسى ابن عِمْران منقذًا للمصريين والسوريين«إلاّ مَنْ أبَى»،حتى يكونوا أَهْلَ كتاب لا أَهْلَ ضلال تحت استخفاف الفراعنة، وكان محمد هو الموسَى لكل العالَمِين… فكان محمد هو ﴿حَدِيث مُوسَى﴾(طه، 9)، أي التبلور الحديث والأكمل للوِسايَة…

كان محمد (ص) يستعدّ للفناء في الحق تعالى، إسراءًا ومعراجًا، ومِنْ عناصر برنامج رحلته العِشقية: الإتيان بمادّة أهل البيت، ولكنّ ذلك يتطلب إسْراعَ الخديجة (و«الخديج» في العربية له قاسِم معنوي مشترك هو: «السريع» و«النبيه») في قَرارك ببيتك المقدَّس في ذاتك، أي بلوغ المقام الذي يَسْمح لوالد أهل البيت أن يأتي بنار تلك المادة: ﴿امْكُثُوا﴾(طه، 10)، أي قرّي في بيتِكِ العرفانية أيتها العظيمة أكثر فأكثر… ﴿إِنِّي آنَسْتُ نَارًا﴾، أي إنني دُعيتُ إلى نور سِدْرة المُنْتَهَى، أي القبَس الذي ستُنتجمِنْه سيدة نساء العالمين انئذ أهل البيت، ذلك القبس الذي سيأتي بـ«هُدى» العالَمين إلى يوم القيامة: ﴿وَهَل أَتاكَ حَديثُ موسى (9) إِذ رَأى نارًا فَقالَ لِأَهلِهِ امكُثوا [قَرُّوا في بيوتكم، أي قرّي في بيتك الأنطولوجي أيتها العظيمة أكثر]. إِنّي آنَستُ نارًا لَعَلّي آتيكُم مِنها بِقَبَسٍ أَو أَجِدُ عَلَى النّارِ هُدًى(10). فكان القبَسُ، اِسْمُهُ الكوثر، الذي سيكون هُدًى للعالمين، بتربية من محمد (ص): ﴿إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الكَوْثَرَ﴾،بواسطة الخديجة الكبرى،﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ﴾… فأنتما لستما أبتران، كما ادّعى الأبتر أنطولوجيًّا، المقطوع من الفيض الإلهي، بل أنتما قبسُ الاتصال بالألوهية الرحيميّة، الرحمانية…

5-حديث الشوق المحمدي لخديجة:

آهٍ يا مولاتي، يا أم إيماننا… حُقَّ لرسول الله (ص) أن يبكي عليك حتى وفاته.. لم يُفارِقْ طيفكِ ناظريْه.. كان يبكي كلّما ذُكِرْتِ، وكلما رأى أختك (التي تبنت خديجة أبناءَها اليتامى حتى حسب الناس أنهم أبناء خديجة، مثلما رحمت زيدًا حتى ظن الناس أنه وليدها لولا آية الأحزاب عدد 5)… وكان سيدنا محمد يبكي كلما رأى صديقاتِكِ، وكان يستدعيهن ويُكْرمهن مرة محددة في الأسبوع إكراما لذكراك… «مَاأَبْدَلَنِي اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ خَيْرًا مِنْهَا، قَدْ آمَنَتْ بِي إِذْ كَفَرَ بِي النَّاسُ، وَصَدَّقَتْنِي إِذْ كَذَّبَنِي النَّاسُ،وَوَاسَتْنِي بِمَالِهَا إِذْ حَرَمَنِي النَّاسُ».

6-حديث الحنين الى ربوع المحبوب:

قالت لي أم الإيمان:«يا بني!… هل هناك دين بدون ذاكرة مكان؟!»

قلت لها: والله يا ام الإيمان ووالدة أَهل البيت،  كان قلبي يعتصر حين رأيت دارك دمرها الذين يحقدون على ما أوتي محمد وآله من فضل!…

قالت:«حسبنا الله ونعم الوكيل !فأين عشاق سيدنا محمد الغيورون؟!».

قلت:حين عاد النبي فاتحًا لمكة التي «طردته» واضطهدته، كان أوَّل مكان يزوره هو منزلك، منزل السكن والمودة والرحمة، منزل التزميل والتدثير… ولكنه وجد قريش المتكبرة تنتقم  من النبي وخديجته فتغصب منزل خديجة وتبيعه عدة مرات… فلا يُعاقب، بل يصفح… ثم يزور ثاني مكان، وهو قبرك الذي اشتاق إليه، فيذرف الدموع مِدْرَارةً…

ذلك المنزل الذي شهد لقاءات النبي بالمؤمنين الأوائل وقيام الليل مع خديجة وعلي(ع)، وإسلام أبي ذر، وولادة فاطمة، ابنتك…

الوهابيون هدموه يا مولاتي… فاجْعلي جسدي الفاني، هذا، حجارته الجديدة لإعادة بنائه… خذي ضلوعي لشباك ابنتك فاطمة الجديد… خذي يدي مِدقة بابك… خذي عينيَّ مصباحيْن أمام باب دارك، حتى يكتشفها المفتقرون إلى طعامك الروحيّ، والمشتاقون إلى لطفك وعطفك يا أم المؤمنين حقيقة…خذي هيكلي العظمي العمود الرئيسي لدارك… لا تبتئسي… خذيني بكلّي، لتجعليني ترابًا تمشي عليه قدماك، وقدما محمد (ص)، وقدَما ابنتك فاطمة، كل ساعات اليوم…

وما قيمة ما أطلبه هذا منك، أمام حجم الحب والخدمة اللذين قدّمْتِهما لرسول الله (ص)؟… ألم تقولي في شِعرك:

فلو أنني أمسيت فيك لنعمــــة * ودامت لي الدنيا وملك الأكاسرة

فما سَوِيَتْ عندي جناح بعوضة * إذا لم تكن عيني لعينك ناظــــرة

قلت لها: «أتعلمين يا مولاتي أن محبيك ليس من المسلمين فحسب بل من كل الصادقين في العالم؟»

قالت: «دون شك… أليس رسول الله (ص) رحمة لكل العالمين»قلت: هاهو رسام من عصر النهضة  الأوروبية يرسم باطنك وحركتك… لم تكن صورته من روح فن عصر النهضة الذي يميل إلى الواقعية والألوان والوجه المباشر … لم تكن بورتريها كنسيا… كانت صورة متمثلة لك بجد وعمق وفيض عشقي…

لقد جلجل الحب في قلب هذا المسيحي حتى صار من فرط حبه خديجيا…

وهذا بولس سلامة يذكرك في مدحه سيدنا الحسين عليه السلام.

وقف الظامئ الحسين ونادى
 
  يا جنود العراق عُرا كلماتي
 
أوَليس الرسول جدِّي، وأُمّي
 
  خير بنتِ وأطهر الزوجات
 
وأسمها يُمْن كلّ فاطمة في الأر
 
  ض تأتي في الأعصر المقبلات
 
أُمّها جدّتي خديجة كانت
 
  وردة المشرقين في السيّدات
 
بيتها مهبط النبوّة، إذ جبريـ
 
  ـل يأتي بالوحي والآيات
 
شهدت للرسول والجوّ خنَّـ
 
  ـاقٌ فكانت باكورة المسلمات
 

 رسم نَشْره غِيُّوم رُويِّيه في مدينة ليون الفرنسية عام 1553م، بعد 900 سنة من وفاتها (ع)

 

قالت أم الإيمان:«هذا يؤكد الآية القرآنية الكريمة﴿لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ ٱلنَّاسِ عَدَٰوَةً لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱلْيَهُودَ وَٱلَّذِينَ أَشْرَكُواْ ۖ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱلَّذِينَ قَالُوٓاْ إِنَّا نَصَٰرَىٰ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (المائدة 82)

7-حديث الوداع:

لم أستطع أن أفارق القصر القصبي (=الفضي) وحدائقه الغناء،  ومائدة والدتي الوجودي وكرمها الذي فاق كرم حاتم بمليارات السنوات الضوئية… ولكن هي حياة يجب أن أواصلها بما أوصتني… فهاجت دموعي، دموع الفراق، وقلت:يا أمي الكبرى… يا والدتي… هل لي في شفاعة منك ومن سيدنا محمد وأهل بيتكم ؟!

قالت:«نحن أهل الكرم… وهل نترك عشاقنا لحر جهنم؟!! أفعل يا بني ما أوصيتك به جهدك، واترك الباقي علينا…»

قلت وأنا أتشبث بذيل ثوبها:« يا مولاتي هل لي أن أطمع بمائدتكم هذه في الأبدية ؟»…قالت: « والله إذا فعلت ما طلبته منك يا بني، ستكون لك كل يوم مائدة!»…قلت:« والله إني لا أريد إلا مائدة رضاكم أهل البيت!»…

نادت أحد ملائِكِها… فرافقني حَارِسًا حتى وصَلْتُ إلى الفندق الذي نزلت فيه بمكة، حتى لا يراني الدرك فيتهمونني بالشرك في الحجون … في حين أن حالي هو:

وَما حُبُّ الدِيارِ شَغَفنَ قَلبي

وَلَكِن حُبُّ مَن سَكَنَ الدِيارا

إرحمي يتمي يا والدتي…زوريني حتى ينقطع يتمي… يا أمي الكبرى، الواسعة الكرم…

يا كريمة الموائد، يا مطعمة الجائعين للإيمان والعدالة الإجتماعية،  يا فَاكَّة العبيد والأسرى والمحاصرين والمعذبين… أيتها المناضلة، المجاهدة، الصابرة بأخلاقية…

 

في ذكرى وفاتك (10 رمضان 2020)

 

شارك على :
المحور العربي © كل الحقوق محفوظة 2023