نجيب الشابي: ما جرى وما نرى … انحراف المسيرة وانحدار المسار!…بقلم ظاهر المسعدي

نجيب الشابي: ما جرى وما نرى … انحراف المسيرة وانحدار المسار!…بقلم ظاهر المسعدي
أن يُعارض السيد نجيب الشابي مسار 25 جويلية، فهذا حقّ لا يُمكن مصادرته، ويندرج ضمن وجهات النظر التي يُصدح بها الفرد بكل حريّة. ولا أحد يُنكر مُعارضة الشابي الجسورة لنظاميْ بورڨيبة وبن علي، وتمترسه اللاّمحدود في الدفاع عن الاسلاميين واحتضانهم بمقر الحزب الديمقراطي التقدمي، وفتح أعمدة صحيفة «الموقف» لهؤلاء، وهو ما كان سببا في زيادة تراكم الجليد بينه وبين نظام السابع من نوفمبر. مثلما كان اللاعب الرئيسي في تأسيس حركة 18 أكتوبر للحقوق والحريّات سنة 2005، والتي غادرها في صيف 2009«على أطراف أصابعه دون ضجيج» على حدّ تعبيره.
بيْد أنّ حبل الودّ الذي كان يربط الشابي بحركة النهضة إبّان مِحن السجون والمنافي، سرعان ما انفلت من عُقاله عشيّة سقوط نظام بن علي، بعد أن أدارت له ظهرها ووجّهت له جميع أسلحتها في الاعلام المرئي والإلكتروني والمكتوب، وحتى في بيوت العبادة. وبذلك نجحت في اظهاره لدى الرأي العام بمظهر المُعادي للإسلام والمُهدّد للحريات الدينية وعلى رأسها حرية ارتداء الحجاب، مثلما وفّقت في اظهاره بمظهر «المُرتد السياسي» على خلفيّة معارضته لحلّ حزب التجمّع آنذاك. فأضحى الشابي وحزبه، في أذهان العامّة، من «جماعة 13 جانفي» التي تسعى للركوب على ثورة لم يُشاركوا فيها قيد أُنملة!
لم تقف الأمور عند حدّ حرب التشويه والتضليل الفايسبوكي الذي غيّر اسم الحزب الديمقراطي التقدمي إلى «حزب الكسكروتات»، بل حرّكت حركة النهضة «أذرعها السلفيّة» لمُطارة الشابي أينما ولّى الوجه، لتُفسد اجتماعاته بالحجارة والهراوات وتروّع الحضور وتُهشّم سيّاراتهم، حتى يكون ذلك عبرة لمن تُراوده نفسه الالتحاق بحزب يُحارب الاسلام. وفي وقت وجيز بات رأس الشابي مطلوبا ودمه مهدورا لدى الجماعات التكفيرية، وقد نجا بأعجوبة من كمين سلفي بجهة جندوبة، كاد يضع حدّا لحياته لو لا سوء التنسيق بين أفراد المُهاجمين، فعبّر الشابي عن هذه الحادثة بمرارة وألم، قائلاً: «أشدّ ما آلمني أنّ حركة النهضة لم تُصدر ولو بيانا لإدانة هذا الجُرم الشنيع … وأنا الذي أفنيتُ عُمري في الدفاع عنها»!
أمام هذه الحرب المسعورة، خسر الحزب الديمقراطي التقدمي من وزنه الكثير، وتراجع خزّانه الانتخابي قبل الوصول إلى انتخابات المجلس الوطني التأسيسي. ونستحضر هنا ذلك المنبر الاعلامي على القناة الوطنية، في سهرة الليلة الأولى من عمليّة الفرز الانتخابي، بحضور نجيب الشابي وسمير ديلو والصحفي عبد الباري عطوان ومجموعة أخرى من الضيوف، حيث أشار مُنشّط الحوار إلى أنّ النتائج الأوليّة تُظهر اكتساح شامل لحركة النهضة في جميع الجهات، مع نتائج مُتدنّية ومفاجئة للديمقراطي التقدّمي! فتفاعل سمير ديلو مع الأمر بعنجهيّة وتطوّس مثيران للغثيان: «الشعب التونسي قال اليوم كلمته، ووجّه صفعة لجماعة 13 جانفي التي لا تملك في رصيدها سوى فزّاعة الاسلام والاسلاميين…»!
بعد أنّ أجهزت حركة النهضة على الشابي وحزبه وتربّعت على عرش الحُكم، انصرفت للتمكين في مفاصل الدولة ووجّهت أسلحتها إلى الكيانات السياسية الصاعدة، لِوَأدها في المهد قبل أن تنمو وتُشكّل تهديدا مُحتملاً لها، وضلّت علاقتها بالشابي مُتقلّبة بين مدّ وجزر. فلم يتأخّر الشابي في معارضتها والمُطالبة برحيلها إبّان اعتصام الرحيل بباردو، مثلما قطع أمامها الطريق لقبر حركة نداء تونس الآخذة في التشكّل آنذاك، فوشَم تحالفا مع الباجي قائد السبسي وأضحت خطاباته التي يُلقيها في اجتماعات الندائيين، ويحثّهم فيها على الوحدة لإزاحة الاسلاميين، أضحت تُلهب مشاعر الحضور وتدفعهم للهتاف باسمه. بيْد أنّ هذا التحالف سرعان ما تهشّم على أبواب انتخابات 2014، فانقلب الشابي على الندائيين واتّهم السبسي بالمسؤولية عن تعذيبه في مخافر الداخلية زمن بورڨيبة، كما اعتبر أنّ نداء تونس غير مُؤهّل لتولّي الحُكم، لأنه حزب غير مُنغمس في كلّ الجهات على حدّ تعبيره، وذلك خلافا لحركة النهضة التي تُحظى بجماهيرية واسعة، وبالتالي هي الأجدر لإدارة شؤون البلاد. لم ترفض حركة الإخوان هذه الهديّة، ولكنّها لم ترد الجميل بمثله، إذ تجاهلت نصيبه من المغانم السياسية التي كانت تُغدقها ذات اليمين وذات الشمال عند كل تنصيب حكومي.
كانت حصيلة الحزب الجمهوري، وريث الديمقراطي التقدمي، كارثية بكلّ المقاييس في انتخابات 2014، وهو ما اعتبره البعض بمثابة شهادة وفاة لهذا الكيان السياسي. إلاّ أنّ الشابي كان مُتشبّثا ببصيص من الأمل، فغادر حزبه ليُؤسس الحركة الديمقراطية ثم حركة أمل رفقة ثُلّة من الندائيين. أضحت بعدها نبرة الشابي في ارتفاع مُطّرد تجاه الإخوان، حتى بلغت حد المطالبة الصريحة بإزاحة النهضة من الحُكم بوصفها المسؤول الأوّل عن المصائب التي لحقت البلاد منذ سنة 2011. فيقول مُغرّدا:
«الإسلام السياسي متمثّلا بحركة النهضة مسؤول عن الأزمة السياسية المُزمنة منذ سنة 2011، فهو الذي صادر الدولة وأخضعها الى المُحاصصات الحزبية وهو المسؤول الرئيسي عن الإخفاقات الحكومية المتتالية، وهو المسؤول، في سعيه للاستئثار بالدولة، عن شق الأحزاب السياسية التي شاركته الحكم وهو بذلك المسؤول على إرباك الدولة وشلّ مؤسساتها، وهو الذي يسعى الى جرّ تونس إلى أتون الحرب الليبية، مدفوعا في ذلك بانتماءاته العقائدية ومصالحه الفئوية.
الإسلام السياسي إذن هو الخصم الرئيسي للقوى الديمقراطية، وعلى تحجيم دوره يتوقف نجاح المسار الديمقراطي واستئناف تونس لمسيرتها التنموية»(مِن صفحة نجيب الشابي على الفايسبوك، بتاريخ 23 جويلية 2020).
هكذا إذن طفح كيْله، فأطلق صرخة سبارتاكيس الأخيرة لإنقاذ البلاد من براثن الإخوان قبل فوات الأوان، وكانت هبّة الشباب يوم 25 جويلية 2021 على الخصم الرئيسي للبلاد بمثابة الاستجابة لهذا النداء، وقرارات رئيس الجمهورية كتجسيد عملي لهذا الابتغاء.
غير أنّ الشابي كان يرى ما لا نرى: فالخروج الهادر للجماهير احتفالا بالقرارات التي اتخذها رئيس الجمهورية، تُؤكّد ارتفاع شعبية الأخير إلى مستويات عجزت النُخب السياسية مُجتمعة على بلوغها. وبالتالي فإنّ رجل السياسية السائر في مسار 25 جويلية سيخبو نجمه تحت ظل قيس سعيّد الذي غمر الرُكح السياسي برُمّته، فلا مناص له إذن من المكوث خارج هذا المسار للظفر بموطئ قدم تحت الشمس، مهما بلغت كُلفته. فأدار الشابي ظهره للجماهير مرّة أخرى، واختار التجديف عكس الأمواج البشرية، ثمّ انقلب على مواقفه وطفِق يكيل المديح والثناء على حركة الإخوان. تراه يجوب المنابر الإعلامية آناء الليل وأطراف النهار، ليُخبرنا بأحدث اكتشافاته السياسية، منها أنّ «راشد الغنوشي رجل صادق ووطني حد النخاع، وهو يعرفه منذ سبعينيات القرن الماضي» وأنّ «جماعة الإخوان خير جماعة أُخرجت للناس»، ويُنبّهنا في أغرب تصريحاته إلى كون «حركة النهضة كانت ضحيّة للشيطنة التي تعرّضت لها على يد البعض طيلة العشريّة الأخيرة»! ثمّ أضاف للشعر بيتا وهو يشدو بلا تورّع: «حركة النهضة وقلب تونس وائتلاف الكرامة تُشكّل أعمدة الديمقراطية في تونس…ولا يُمكننا الحديث عن بناء ديمقراطي في غياب هذه الأحزاب»!
هديّة أخرى وطوق نجاة آخر، ينزلان على الإخوان من السماء، بعد أن ضاقت بهم الأرض وما رحِبت. فكافئوا صاحبهم هذه المرّة، بتثبيت جوهرتيْن مكان عينيه، بعد أن فقئوا عينيه (وفقا لعبارة الشاعر أمل دنڨل)، وذلك بدعمه في الانتخابات القادمة على طريقة «بيع الريح للمراكب». فأضحى الشابي، بين عشيّة وضُحاها، ابنا مُدلّلاً للإخوان، يستشهدون بأقواله أكثر من استشهادهم بآيات القرآن، يتوسّط الجلوس مُستكينا بين أفاعي الإخوان التي لُدِغ من جُحورها عشرات المرّات، وبين مافيا نبيل القروي ومليشيات حماية الثورة المُلطّخة أياديها بدماء الأبرياء!
لم يكن نجيب الشابي «نجيبًا» في بناء كيان سياسي متين يرفعه إلى دفّة الحُكم، وما عاد نجيب الشابي «شابًا» ليُعيد التجارب ويتّعظ من أخطائه. على هذا، باع الجمل بما حمل، انحرف بمسيرته وانحدر بمساره، فوضع كلّ بيضه في سلّة الإخوان والأجرام الدائرة في فلكها: إنها الرصاصة الأخيرة، إمّا أن تُصيب أو تَخيب.
هنا يكون نجيب الشابي قد فقد الاجلال والتوقير الذي ضلّ يُحظى به لسنوات طويلة من قبل شرائح واسعة من أنصاره، مثلما لم ينل شرف الثقة من قبل الخصوم الذين لا يروْن فيه إلاّ «حصان طروادة» للعودة من خلاله للحُكم والانقضاض مُجدّدا على مفاصل الدولة ونهش مؤسساتها، وهو بذلك يكون قد خسر تمر يثرب وعنب الطائف معا.
يُؤسفنا أن نُعلم الشابي، بأنّ براغماتيّته فاقت براغماتيّة مكيافيلّي ذاته، وأنّ البلاد ليست على استعداد لدفع ضريبة الدم لأجل نزواته السياسية. لذا سنقف سدّا منيعا في وجهه وفي وجه العصابات المُحيطة به، و لا نرجو في ذلك جزاءً ولا شكورًا.
شارك على :

المحور العربي © كل الحقوق محفوظة 2023