نصف قرن على رحيل “زعيم الفقراء”…بقلم محمد سيد أحمد 

نصف قرن على رحيل “زعيم الفقراء”…بقلم محمد سيد أحمد 

في الـ28 من أيلول من كل عام تتجدد ذكرى رحيل الزعيم جمال عبد الناصر الذي يكمل هذا العام خمسين عاماً على الرحيل, ففي هذا اليوم من عام 1970 رحل “زعيم الفقراء وحبيب الملايين”, الذي خرجت جموع الشعب المصري والعربي وكل الأحرار في العالم لوداعه في جنازة مهيبة قلّ أن شهدها التاريخ, وأثناء الجنازة خرجت الكلمات من القلب ومن دون تجهيز: «يا جمال يا حبيب الملايين»..«رايح فين وسايبنا لمين»..«ناصر يا عود الفل من بعدك هنشوف الذل».. وبالطبع قد يتعجب البعض اليوم على هذه الحالة النادرة في التاريخ, فعادة يرحل رؤساء دول من دون أن يتحرك ساكن عند شعوبهم.
وقد يزول العجب عند معرفة أحوال الشعب المصري قبل قيام جمال عبد الناصر ورفاقه بثورة 23 يوليو 1952 ويلخص جمال نفسه أحوال المصريين في إحدى خطبه حيث يقول:«500 مليون جنيه مع 700 واحد.. طب والـ 27 مليون عندهم إيه.. ده الوضع اللي ورثناه.. الاشتراكية لما يبقى فيه عدالة اجتماعية.. لكن مش العدالة الاجتماعية ولا المجتمع اللي نعيش فيه واحد بيكسب نصف مليون جنيه في السنة.. وبعدين كاتب لأولاده أسهم كل واحد نصف مليون جنيه.. طب والباقين.. الناس اللي ليهم حق في هذه البلد.. إيه نصيبهم في هذه البلد.. يورثوا إيه في هذه البلد.. لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يكون الغنى إرث والفقر إرث والنفوذ إرث والذل إرث.. ولكن نريد العدالة الاجتماعية.. نريد الكفاية والعدل.. ولا سبيل لنا بهذا إلا بإذابة الفوارق بين الطبقات.. ولكل فرد حسب عمله.. لكل واحد يعمل.. لكل واحد الفرصة.. ثم لكل واحد ناتج عمله».
وبتأمل كلمات الزعيم تكتشف كيف كانت أحوال المصريين، وكيف كانت الخريطة الطبقية؟ وتكتشف أيضاً رؤيته الثاقبة وقراءته النافذة التي مكنته من وضع يده على الجرح العميق في جسد المجتمع المصري, وقدرته الفائقة على التشخيص السليم ووضع «روشتة» العلاج, والذي تمثل في تحديد الأولويات التي جعلت من العدالة الاجتماعية الحل الأمثل التي لا يمكن أن تتحقق إلا بتذويب الفوارق بين الطبقات, لذلك جاء مشروعه المنحاز للفقراء منذ اللحظة الأولى ليوجه ضربات قاصمة للإقطاعيين والرأسماليين الذين لم يتجاوز عددهم 700 شخص كانوا يحوزون الثروة والسلطة والنفوذ, فكان قانون الإصلاح الزراعي وقرارات الـتأميم والتمصير ثم القرارات الاشتراكية, وإتاحة فرص التعليم والعمل أمام الجميع وهو ما حقق مجتمع الكفاية والعدل إلى حد كبير, حيث تغيرت الخريطة الطبقية للمجتمع المصري ونمت الطبقة الوسطى بشكل غير مسبوق.
وكان جمال عبد الناصر سريع الاستجابة للفقراء وقادر على فهم احتياجاتهم من دون تصريح, ففي إحدى زياراته لصعيد مصر توقف القطار في إحدى المحطات ففوجئ عبد الناصر ومرافقوه برجل بسيط يصيح: «أنا جابر السوهاجي يا ريس» ويلقي بـ«صرّة» داخل الديوان الذي يقف فيه عبد الناصر ومرافقوه. وقعت الصرّة بين أرجلهم وتملك الحضور شيء من الارتباك والمفاجأة, وسارع أحد ضباط الحراسة الخاصة بالتقاط هذه الصرّة بحذر, وبعد فتحها كانت المفاجأة أن الصرة لا تحوي إلا رغيف من الخبز الناشف (بتاو) وبصلة في منديل محلاوي, ولم يفهم أحد من الحضور لماذا رمي الرجل بهذه الصرة!.. إلا أن زعيم الفقراء كان الوحيد الذي فهم معنى الرسالة, وأطل برأسه بسرعة من القطار وأخذ يرفع صوته باتجاه الرجل الذي ألقى بالصرّة قائلاً له: «الرسالة وصلت يا أبويا, الرسالة وصلت». وفور الوصول إلى أسوان طلب جمال عبد الناصر تقريراً عاجلاً عن عمال التراحيل وأحوالهم المعيشية, وفي خطابه مساء اليوم نفسه في جماهير أسوان قال:«يا عم جابر أحب أقولك إن الرسالة وصلت, وإننا قررنا زيادة أجر عامل التراحيل إلى 25 قرشاً في اليوم بدلاً من 12 قرشا فقط». كما تقرر تطبيق نظام التأمين الاجتماعي والصحي على عمال التراحيل لأول مرة في مصر.

لذلك لا عجب أن يطلق الفقراء على قائدهم جمال عبد الناصر لقب زعيم الفقراء, فقد انحاز لهم قولاً وفعلاً, واتخذ من أجلهم العديد من الإجراءات الحاسمة, ودخل في العديد من المعارك لإنصافهم, وتحمل ما يفوق طاقة البشر من الضغوط المحلية والإقليمية والدولية لكي يتراجع عن مواقفه وسياساته الاقتصادية والاجتماعية الداعمة للفقراء في مصر والوطن العربي والعالم الثالث, لذلك حين وافته المنية خرجت جموع الفقراء في مصر والعالم لوداعه, ومازالت هذه الجماهير ترفع صوره في كل مناسبة وفي كل بقاع الأرض كرمز للعدالة الاجتماعية, وفي ذكرى رحيله الخمسين نقول ما أحوج الفقراء في مصر والوطن العربي والعالم لزعيم جديد للفقراء الذين لا يجدون من يشعر ببؤسهم في ظل رأسمالية تطحنهم من دون رحمة.. اللهم بلغت اللهم فاشهد.

 

كاتب من مصر

شارك على :
المحور العربي © كل الحقوق محفوظة 2023