نظام سياسي هجين..لا يُصلِح ولا يَصلُح ولا يُستصلَح!!…بقلم الناشط السياسي محمد البراهمي

نظام سياسي هجين..لا يُصلِح ولا يَصلُح ولا يُستصلَح!!…بقلم الناشط السياسي محمد البراهمي

 

         إنّ الوطن لا يمكن أن يبقى أسيراً لإستفراد فئة قليلة بالحكم وبالقرار والثروة وبالسيطرة على كل مفاصل الدولة.. تحت غطاء شرعيّة مـغـشوشة وديمقراطية “وهمية ” و نظام سياسي هجين لا يَصلُـح ولا يُصلـِــح ولا يُستصلَح ..

      الشعب التونسي تمّ التحيل عليه بإسم الديمقراطية البرجوازية المغشوشة والمزيّفة تحت غطاء الدين و”الڨفّة” والـ 10 دنانير والمال الفاسد والمغالطات المتتالية من أجل نيل أصواته للوصول إلى السلطة، وهو ما أثبتته دائرة المحاسبات مؤخرا، والحال أنّ من نالوا أصوات المستضعفين ووصلوا إلى سدّة الحكم يكشّرون عن أنيابهم ويكشفون عن وجوههم البشعة والمروّعة ويمرّون بسرعة البرق إلى مزيد إستغلال الفقراء على جميع المستويات وإستهداف قوتهم وحياتهم وحرياتهم ويضيّقون حتى على تفكيرهم ويتعاملون مع الكادحين الذين نالوا أصواتهم بمنطق العبيد أو العدو الذي وجب التخلص منه أو على الأقل تجويعه حتى يسهل حكمه والتحكم فيه… تحت غطاء الممارسات القذرة يحاولون دفن طموحات الشعب وآماله والمتمثّلة أساسا في العيش الكريم ..

        منذ 2011 وإلى حدّ هذه الأيام، إكتفى سياسيو المرحلة وحُكامها بخدمة أهدافهم ومصالحهم ضاربين عرض الحائط بكل قيم ومبادئ المسؤولية الوطنية والثقة التي منحهم إياها الشعب وغير عابئين بما يتحقق حولهم في بقية دول العالم من تطور وازدهار ورُقيّ، وقد أكدّوا بذلك أنّهم بعيدون كل البعد عن مستوى هذه المسؤولية الجسيمة وفاقدين القدرة على تسيير الشأن العام.. ومنذ عشر سنوات لم يجد التونسيون غير الوعود الوهمية من الطبقة السياسية ومن كل من تداولوا على الحُكم، فلا المعيشة تحسّنت ولا الاقتصاد تطور ولا التنمية في الجهات المحرومة تحققت ولا الفقر والبطالة تقلّصا ولا الخدمات العمومية إرتقت إلى مستوى الجودة المرجوّة ، ولم تجن البلاد والشعب غير كبوة اقتصادية وتنموية كبرى بلغت حد تدمير بعض المكتسبات السابقة.. وقد كان بالإمكان خلال السنوات التي تلت الثورة أن يتحقق ما لم يتحقق في عهدي بورقيبة وبن علي من إنجازات ومكاسب بفضل مناخ الحرية والديمقراطية الذي أصبح سائداً لولا فشل السياسيين والفاعلين في المشهد العام الذين ساروا بالبلاد خارج مضمار سباق الدول وتاهوا وإيّاها وسط الفوضى والارتباك والضعف، بينما واصلت بقية الدول التقدم بثبات نحو التطور والازدهار..

         عشر سنوات مضت على إسقاط رأس النظام الدكتاتوري وتولّي الحكم بقيادة الإخوان وشركائهم، رغم تعدّد وجوههم، إلاّ أنهم ظلّوا يمارسون نفس الممارسات البالية بل ربما أكثر تعاسة وأكثر عداءً للشعب وللوطن، إنها سلطة مفلسة لم يعد لها ما تقدّمه للشعب سوى المزيد من الفقر والشقاء.. سلطة لم تترك مجالاً لإحترام الخطوط الحمراء، وتدفع بخياراتها الموجعة للشعب إلى تجاوز كل القوانين و الأعراف، ثم يلقون باللّوم على المحتجين وينعتونهم بالفوضاويين والمنحرفين.. و لكن لن نأبه لإتهاماتهم ولإدّعاءاتهم وسنمضي في ذاك الطّريق الشائك الذي سلكناه منذ “25 جويلية” من أجل كنس منظومة الحكم وتحقيق العيش الكريم لشعب تونس العظيم..

         لم يُخفِ الرئيس سعيّد من البداية أنّه يريد تغيير النظام السياسي رأسا على عقب، وأن الديمقراطية بالنسبة إليه ليست سوى شكل من أشكال التغطية على الفساد والاستغلال، وهي أداة بيد اللوبيات أكثر من كونها وسيلة للتغيير، ربما لم يلتفت الجميع لأفكاره التي كانت أقرب إلى نموذج مثالي في الحكم يريد أن يوسع السلطة بين الناس بدل أن تحكمهم فئة محدودة صعدت بالأساس لتحقيق أهداف مناقضة لمصالحهم، و قد وجد نفسه في مواجهة طبقة سياسية ترفض التنازل عن أفكار ليبرالية تطمح فقط إلى السلطة.. ومن خلال حديثه مع أساتذة القانون الدستوري، الرئيس قيس سعيّد تحدث بشأن تشكيل الحكومة على أنّه من المهم تشكيل الحكومة ولكن أيضا من الضروري وضع تصوّر للسياسة التي ستتبعها هذه الحكومة لخدمة الشعب التونسي، وهذا يعني أنّه مع تشكيل الحكومة سريعا وأنّ ليس لديه أي مانع أو اعتراض ولا حسابات خفية من وراء التأجيل، و بعث رسالة لمن تمترسوا وراء موضوع الحكومة للضغط عليه بزعم خوفهم على تعطل المصالح وتوقف المؤسسات الحكومية عن أداء دورها، و أكّد أن الهدف ليس تشكيل الحكومة، ولكن برنامجها وخططها ومشاريعها، في خطوة تمتص مناورات الأطراف المقابلة وتعطي مبرراً للبقاء دون حكومة إلى الحد الذي يستوي الموضوع تماماً بضبط البرنامج واختيار الوزراء القادرين على تنفيذه مع ضمان نزاهتهم وولائهم، لمنع تكرار تجربة رئيس الحكومة السابق هشام المشيشي الذي اختار القفز من صف الرئيس إلى صف الأحزاب المعارضة و الإرتماء في أحضانهم..

        بعض الأطراف السياسية كانت بالأمس تدعو إلى الإستفتاء و تغيير النظام السياسي و اليوم تغيرت مواقفهم حسب مصالحهم، إنهم متلونون تقودهم أهواؤهم وأطماعهم.. تونس اليوم تحتاج الى سياسيين حقيقيين أصحاب مواقف ثابتة لا تخضع للحسابات الشخصية ولا تتغير مواقفهم ، فتجار المواقف والمتلونين المتحوّلين سياسياً من النخب السياسية و غيرهم ، هم أكبر نكبة ابتليت بها تونس منذ عقود .. الدولة ليست غنيمة و تونس لكل التونسيين..

          منظومة ما قبل 25 جويلية استفاقت من الصدمة.. وبدأت تنفيذ المناورات من خلال الدعوة إلى الخروج الى الشارع.. تحت حجة حماية الشرعيّة،. وربما ترى أنّه ملاذها الأخير من أجل إعادة التموقع من جديد.. بعدما لفظها الشارع مُطالباً برحيلها.. لا سبيل للعودة إلى منظومة ما قبل 25 جويلية 2021 فهي منظومة ساقطة برمّتها أخلاقيا وسياسيا.. هذه المنظومة قد أصبحت من الخيبات المنتهية ولا يمكن العودة إليها بأيّ شكل من الأشكال.. و من الواضح أن غياب المشروعية الشعبية دفع المنظومة للبحث عن مظلة خارجية تعوض شرعية مفقودة، فالبحث عن غطاء خارجي وصل مرحلة الإستنجاد بالخارج ضد إرادة الشّعب و السيادة الوطنية.. لا شرعيّة تبرّر إهتراء منظومة الحكم بهذه السرعة، فهي لم تعمل على تحقيق انتظارات التونسيين بل تقاعست في مواجهة الفساد وكرست سياسة الإفلات من العقاب، وانخرطت في صراعات سياسوية وذاتية. وهي التي يفترض أنها تعبر عن إرادة الشعب ، ولا شرعية تبرر الإصرار على التمسك بنظام فاشل وعقيم تُنادي شرائح واسعة من التونسيين على ضرورة تغييره وإصلاحه، لا بل إن بقاءه كما هو بات يمثل خطراً على ما تبقى من الدولة وعلى مستقبل بلادنا، لأن الشعب لن يصبر على سنوات عجاف أخرى زائفة ومخادعة على غرار التي سبقتها، ما دامت الوجوه هي نفسها والممارسات والأفكار هي نفسها والأحزاب هي نفسها و التحالفات بمنطق الغنيمة هي نفسها وإن تغيرت أسماء بعضها، لأن ذلك سيقود البلاد إلى التهلكة..

أعتقد أنّ القضية ليست دستورية ولا تتعلق بالنصوص الدستورية ولكنها قضية سياسية بإمتياز تتعلق بالواقع السياسي، وأنّ مقترح الذهاب لإستفتاء شعبي فكرة ممكنة، لأنّ صاحب السيادة هو الشعب التونسي، وعليه التدخل، وخاصة أنّ ما وصف بأحسن دستور اتّضح بعد بضع سنوات أنّه به العديد من الثغرات والصعوبات التي عرقلت دواليب الدولة، وعطلت البلاد في الوصول لحلول و أصبح جزء من المشكل.. فالدستور قابل للتطوير بتطور الزمان.. و أعتقد أن تغيير النظام السياسي و القانون الإنتخابي هو الشرط الأوّل والأساسي لأي تغيير جذري في المجالات الأخرى، لأن حكومات ما بعد 2011، كانت تعبيرات متنوعة الأشكال والألوان عن خيارات بارونات الفساد و الدولة العميقة ، ولذلك تمّ تشريع كل القوانين التي تُضيّق على التونسيين، وتم سنّ قوانين من أجل أنّ تظلّ الثروة بيد تلك اللوبيات النافذة التي تغلغلت وكونت لوبيات سياسية تعمل لصالحها.. و ما الفائدة من نظام سياسي هجين لا ينتج شرعيّة مكتملة ولن نجني وتجني تونس منه إلاّ الفشل تلو الفشل والأزمة السياسية تلو الأخرى.. وبالتالي من الضروري تحرير الدولة من هذا النموذج السياسي الهجين وذلك عن طريق إعادة النظر في النظام السياسي ومنح الشعب التونسي حقّ الإستفتاء لإبداء رأيه في نظام رئاسي أو نظام برلماني لضمان نظام يضمن حدّ أدنى من الإستقرار ، ومراجعة النظام السياسي الحالي بإتجاه توحيد السلطات التنفيذية ينهي العبث الحالي و خلق نظام سياسي يكسر مع منظومة الفشل لإنقاذ البلاد .. دون ذلك ، ستظل تونس تعيش على وقع الأزمات إلى ما لا نهاية..

        الشعب التونسي قال كلمته وانتهى الأمر، و منظومة ما قبل 25 جويلية إنتهت إلى غير رجعة ، و يجب أن يدركوا هؤلاء أنّ الشعب الذي ثار على القمع والكبت و التفقير و التهميش و الإذلال ، قد دمّر كل حواجز الخوف ولم يعد بإمكان أي قوة كبرى أو صغرى أو جماعة أو حزب أن تفرض إرادتها عليه مرة أخرى.. لا رجوع إلى الوراء.. لا مجال للسطو على إرادة الشّعب.. هؤلاء المتباكون والمتحدثون عن الديمقراطية ، يعتبرون ما حدث إنقلاب ، ويعلنون تمسّكهم بالشرعية وبالدستور بإعتبارهم وسيلة التغيير الوحيدة المقبولة لديهم، في نظام لا علاقة له إطلاقًا بالديمقراطية.. فلترحلْ منظومة الفشل الذّريع..

         إنّ نجاح الرئيس سعيّد في تفكيك الجبهة المضادة محكوم بمغادرة مربع الصمت الحالي، وحسن المناورة، وإعادة بناء جبهة سياسية و إجتماعية على أفكار واضحة..

         25 جويلية 2021 لحظة مفصلية في تاريخ تونس.. و تونس بعد 25 جويلية لا يمكن أن تكون تكراراً لتونس قبل 25 جويلية و 17 ديسمبر ..

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

شارك على :
المحور العربي © كل الحقوق محفوظة 2023