هل تجري “رياح” تونس بما لا تشتهي “سفن” واشنطن !!؟؟…بقلم هشام البوعبيدي

هل تجري “رياح” تونس بما لا تشتهي “سفن” واشنطن !!؟؟…بقلم هشام البوعبيدي

أثارت زيارة وفد الكونغرس الأمريكي الأخيرة إلى تونس جدلا واسعا  بين رافض ومؤيد لها، على خلفية الوضع الاستثنائي الذي تعيشه البلاد، واعتبار هذه الزيارة بما تحمله من دلالات “تشريعا للتدخل الخارجي في الشأن التونسي”، كما تأتي متزامنة مع بيان سفراء مجموعة الدول السبع بتونس التي حثت “على سرعة العودة إلى نظام دستوري يضطلع فيه برلمانٌ منتخبٌ بدور بارز”، لذلك أعلن عدد من الأحزاب ومكونات المجتمع المدني، على غرار الاتحاد العام التونسي للشغل والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، رفضهم للدعوة التي وجهت لهم وعزوفهم عن لقاء الوفد الأمريكي.

غير أن الحديث عن تدخّل خارجي في الشأن التونسي ليس بالخفي ولا بالجديد، ويكفي أن نشير الى مقايضة الرئيس الاسبق بن علي للقبول بفتح مكتب للاتصال الخارجي مع دولة الكيان الصهيوني، مقابل غض طرف الدول الغربية عن ملف حقوق الانسان في تونس خلال فترة التسعينيات، في ذروة صراع نظام “السابع من نوفمبر” مع الإسلاميين…. الا أنه وبعد أحداث 2011، تكثّفت الجهود الأمريكية على تطويع المسار الانتقالي الوليد وتوجيهه لحضنها، وهي بما أوتيت من خبرات في الخداع والتحايل وتدجين ثورات الشعوب، أبدت دعمها “اللامشروط” لخيارات الشعب التونسي “وإعجابها” بتجربته في الانتقال الديمقراطي واستعدادها “لمساعدة” تونس على تجاوز المرحلة الصعبة، والتي كانت مدخلا لتقاطر مسؤولي “العم سام” على البلاد من سياسيين وعسكريين ورجال أعمال….، ولا ننسى خطاب المناشدة الذي أرسله كل من جون ماكين وجوزيف ليبرمان للرئيس الأمريكي الأسبق أوباما لحثه على مساعدة تونس على وجه الخصوص.

فليس خفيا أن واشنطن كانت ولا تزال تبدي اهتماما كبيرا بالموقع الجيو-استراتيجي لتونس كنافذة مشرفة على حركة الملاحة بالبحر المتوسّط، تتوسّط أهم ممرّين مائيين مضيق جبل طارق وقناة السويس الموصول بباب المندب جنوبا، كما تعتبر معبرا رئيسا ونقطة وصل بين القارة السمراء والقارة العجوز على صعيد التبادل التجاري وحتى على مستوى التهريب، إضافة لتوسّطها دولتين كبيرتين هما الجزائر وليبيا، وما تملكانه من ثروات واحتياطيات استراتيجية، نفطية وغازية، وتشظّي أحداهما، وتحولها إلى “الدولة الفاشلة”، يجعل الإدارة الأمريكية تفكّر أن تونس يمكن أن توفر لها “المنصة” والقاعدة لتنفيذ مخططاتها.

لذلك حرصت واشنطن على عقد عدد من الإتفاقيات مع تونس، كان أهمها وأكثرها إثارة للجدل، “مذكرة التفاهم للتعاون طويل المدى”، والتي تم توقيعها في شهر ماي من عام 2015 تحت إشراف الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي، والتي جاءت استكمالا لحلقة طويلة من المباحثات والمشاورات والزيارات بين الطرفين، بعضها معلن ومكشوف وكثير منها ظل حبيس الكتمان، والتي تم من خلالها لاحقا، منح تونس صفة “الحليف الأساسي غير العضو  بالنيتو” من “تسهيلات في مجاليْ المبيعات والتعاون العسكريّين”. إلاّ أنّه يمكن بسهولة استنتاج أنّها تزيد من احتمالات أن يكون المقابل تسهيلا لتواجد القوّات العسكريّة الأمريكية على أراضي الدول المتحصّلة على هذه الصفة، فمن بين الخمس عشرة دولة، التي سبقت تونس في نيل هذه الحظوة الأمريكيّة، عرفت إحدى عشرة منها على الأقلّ وجودًا عسكريًا للولايات المتّحدة، بأشكال مختلفة، أو تعاونًا وثيقًا معها ضدّ دول أخرى.

وقد اعتبر عدد من المحللين والخبراء أن القرار من واشنطن «ليس مجانيًا»، وذهبوا إلى اعتبار مذكّرة التفاهم «الوثيقة الأهم والأخطر التي تمّ توقيعها منذ السابع عشر من ديسمبر 2010». وقد سهلت في جانب منهاالتغلغل والاختراق الامريكي لمنظمات المجتمع المدني، وأصبحنا نتحدّث عن ارتهان القرار السيادي الوطني لإملاءات المؤسسات المالية الدولية أمريكية المنشأ ووصايتها على الخيارات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، بعد انخراط الحكومات المتعاقبة في مسلسل التداين الخارجي المحموم، وبعدما طارت سكرة الانتشاء بالمساعدات المزعومة والهبات الملغومة والقروض المفخّخة، حلّ أوان الضغوط والمساومات وتمرير الالتزامات.

فقد كشفت تقارير إعلامية أمريكية في العام 2017 أن فريقا عسكريا أمريكيا متخصصا في تسيير الطائرات دون طيار متواجد في قاعدة تونسية في محافظة بنزرت (شمال)، إضافة لما أظهرته صور متداولة عن معسكر بالجنوب التونسي لوحدات من الجيش الأمريكي، دون أن ننسى السعي المعلوم للأمريكان بتحويل مقرّ القيادة العسكريّة الأمريكية في إفريقيا “أفريكوم” إلى شمال افريقيا.

كل تلك العوامل دفعت بالبعض الى القول أن واشنطن كانت تبحث عن “حصان طروادة” يمكنها من تحقيق مآربها في تونس وأهمها التطبيع الكامل مع كيان الاحتلال الصهيوني، الذي يلاقي رفضا شعبيا وحتى في الأوساط الرسمية (نظام بن علي سارع الى اغلاق مكتب الاتصال الخارجي في تل أبيب بعد انتفاضة 2000 ورفض إعادة فتحه)، وتمكينهم من موطئ قدم لإنشاء قاعدة عسكرية، فكانت ضالتهم في تنظيم الاخوان المسلمين بفروعهم المنتشرة في الوطن العربي وخاصة بدول المغرب، فتعددت لقاءاتهم التي احتضنتها تركيا على وجه الخصوص فكان اتفاق مبادئ في 2004 و 2008، على ما تم كشفه، حيث تعهد الإخوان للجانب الأمريكي بـ: التطبيع مع الصهاينة، إلغاء عقوبة الإعدام، صيانة الحقوق والحريات (خاصة ما يتعلق بالمثلية وحرية المعتقد)، في مقابل تمكينهم من الوصول للسلطة، فكانت أحداث الربيع العربي التي جاءت بهم الى تونس وتربعوا على حكمها.

وقد شهدنا في هاته الفترة زيارات مكوكية من والى الولايات المتحدة، بين أعضاء من الكونغرس الأمريكي وقيادات من الصف الأول لحركة النهضة، حيث حاضر الشيخ راشد الغنوشي زعيم الحركة في مركز الأيباك دون خجل أو حياء، كما رأينا استقبال حكومة النهضة لوزيرة الخارجية الامريكية السابقة مادلين اولبرايت وكذلك هيلاري كلينتون بالأحضان، وعطلوا تجريم التطبيع في الدستور وماطلوا في ادراجه كنص قانوني، كما تم الزج بتونس ودفعها لتنظيم ما يسمى “مؤتمر أصدقاء سوريا” الذي شرّع العدوان على سورية، كما سمحت لقوى العدوان بتفريغ حمولتها العسكرية في مطار جربة لنقله لاحقا الى فصائل الإرهاب بليبيا، وهي تظن أنها ظفرت بمن يحميها ويرعاها.

بعد 25 جويلية، والإجراءات الاستثنائية التي اتخذها الرئيس قيس سعيد، أسقط في يدهم بعد رفض السفير الأمريكي الرد على طلب الشيخ الغنوشي بالتدخّل مكتفيا بالقول “هذا شأن تونسي لا دخل لنا فيه”، كما أن موقف الخارجية الأمريكية لم يكن بـ”الصرامة” التي توقعها الغنوشي، فالقاعدة السياسية الشهيرة “لا عداوة دائمة ولا صداقة دائمة ولكن مصالح دائمة”، لذلك ليس من الصعب عليهم التخلي عن الغنوشي وجماعته بعدما انكمشت شعبيتهم وتقلصت حظوظهم وباؤوا بفشل على فشل وأصبحوا عبئا عليهم، في انتظار ما ستؤول اليه قرارات قيس سعيد، وهم غير مستعدين لاستعداء الشعب التونسي الذي عبّر عن مساندته للإجراءات الرئاسية والقرارات التي اتخذها.

ما يمكن قوله، أن رئيس الجمهورية قد قطع مع ملف “الوصاية” وهو عازم على وقف كل مظاهر وأشكال التدخل الخارجي في الشؤون التونسية، وللإشارة فإن أول خلاف بين سعيد والغنوشي كان بعد رفض الرئيس طلب رجب طيب اردوغان السماح بنقل عتادعسكري الى جربة ومن ثمة الى حكومة فايز السراج بطرابلس الذي تدعمه تركيا، دون أن ننسى تأكيد الرئيس بأن التراب التونسي “مقدس” ولن يسمح بتواجد أي عسكري أجنبي عليه، إضافة لوعد الرئيس بالكشف عن “الخونة والمتآمرين” الذين على صلات بأطراف خارجية، ليضرب بيد من حديد كل من تسوّل له نفسه المساس بالبلاد والعباد، وكل ذلك يأتي في تنسيق وثيق مع الجزائر الشقيقة التي عرفت العلاقات الثنائية تطوّرا هاما هذه المدة.

شارك على :
المحور العربي © كل الحقوق محفوظة 2023