هل نحن أمام نمط جديد للتعلُّم …التَّعليم عن بعد؟؟…بقلم د. إيناس عبّاد العيسى

هل نحن أمام نمط جديد للتعلُّم …التَّعليم عن بعد؟؟…بقلم د. إيناس عبّاد العيسى

تقوم فلسفة التعليم عن بعد على مرونة التفاعل بين محاور العملية التعليمية، واستقلالية المتعلم، وحريته في اختيار اسلوب وطرائق التدريس المناسبة لتلبية احتياجات شرائح اجتماعية، تحت ظروف خاصة مع تحسين نظم وأساليب التعليم التقليدي، ورغم نظرة المجتمع للتعلم عن بعد بأنه أقل من التعليم العادي، وعدم اعتراف كثير من وزارات التعليم العالي في العالم بشهادات المتعلمين عن بعد، إلا أنه له دوراً هاماً في رفع المستوى الثقافي للمجتمع، والتغلب على مشكلة الطاقة الاستيعابية والمعلمين والكوادر المتخصصة والمؤهلة، إضافة لتوفير المصادر التعليمية المتنوعة والمتعددة، وفرص العمل لأولئك الذين فاتهم قطار التعلم في سني مبكرة، وتمكين العاملين من مواصلة دراستهم، دون أن نغفل الاستغلال الجغرافي والتغلب على مشكلتي الزمان والمكان.

يرى الروائي الكيميائي الروسي اسحق أزيموف أن التعليم الذاتي هو التعليم المثمر الوحيد على وجه الأرض، إلا أنه في الوقت ذاته يحرمنا العلاقات والأصدقاء والأقران الذين نكتسبهم على مقاعد الدراسة، ناهيك عن تأثيره على التربية الجمعية التي يفرضها وجود الطالب ضمن المجتمع المدرسي، والتعلم عن بعد اليوم في عصر الانترنت بحاجة إلى بيئة تكنولوجية وتدريب.

وللتعليم عن بعد أساليب متعددة كالتعلم بالمراسلة وهو الأسلوب الأقدم، وقد أشرت إليه ببعض التفصيل في مقالة سابقة، وهناك التعلم بالوسائط المتعددة كالتسجيلات السمعية والبصرية والأقراص المدمجة، أو من خلال البث الإذاعي أو التلفزيوني، والمراجع والكتب.

وفي فترة متقدمة أصبحت هناك إمكانية التعلم عن بعد من خلال المؤتمرات المرئية، وهي تشبه إلى حد كبير التعليم التقليدى ما خلا الانفصال الجغرافي بين المعلم والمتعلم والزملاء، وتربطهم جميعاً شبكات اتصال إلكترونية بحيث يمكن للطالب أن يرى ويسمع المعلم ويتفاعل معه، لكنه يحتاج لوقت في الإعداد والتحضير المسبق للمواد التعليمية والوسائط والتدريبات أكثر مما يستغرق التحضير للصفوف التعليمية التقليدية المعتادة.

وهناك المواد المطبوعة التي تقدم على شكل تمارين وملخصات وحلول وغيرها لتكون بمثابة المناهج التعليمة، أو مواد داعمة للمناهج شبيهة بما يستخدمه طلبة الثانوية العامة من مراجع وملخصات وغيرها.

أما التعلم الافتراضي فهو الأكثر جدة وانتشاراً، ومنه أنواع كثيرة، بل إنه في تطور متزايد، ويكون الاتصال بين المعلم والطالب إما متزامناً(بنفس الوقت) أو غير متزامن، ويوازيه من حيث الانتشار والشيوع الأقراص المدمجة، والتي تمتاز بالقدرة التخزينية العالية، وسهولة الاستخدام، ويمكن سماعها في كل وقت وكل مكان تقريباً.

ومع كثرة أساليب التعلم عن بعد، وتنوع الاستراتيجيات الممكن استخدامها، إلا أن ثقافة الأسرة لم تعتد على هذا النمط من التعليم، مما جعل تفاعل كافة الأطراف (المعلمين والمتعلمين وأولياء أمورهم) بين الرفض والقبول. فالمعلمون يتجهون نحو إلزامية التعليم عن بعد (رؤية وزارة التربية والتعليم) والطلبة يرفضون الفكرة والأهالي لا يرغبون بأن يتحول البيت إلى صفوف تعليمية، والسؤال المطروح ما هي الخيارات المطروحة؟؟

أمامنا أربعة خيارات ممكنة، أولها أن لا نعلم ولا نتعلم عن بعد، ولعله خيار مرفوض جملة وتفصيلاً، فإن لم يكن هناك تعليم ما مصير طلاب المدرسة في الصف الأول الابتدائي؟ هل يعيدون العام الدراسي بعد الانتهاء من الجائحة؟ أم ماذا؟؟ وما هو مصير الطلاب الذين سيدخلون المدرسة بداية العام القادم؟ لا يمكننا تأجيل دخولهم المدرسة، كما لا يمكن للمدراس استيعاب ضعف العدد من الطلاب في نفس المرحلة، ناهيك عن تدني مستوى التعليم أصلاّ، حيث يشير تقرير لمنظمة الأمم المتحدة للطفولة “يونيسيف” أن 63% من أطفال الشرق الأوسط لا يستطيعون قراءة أو كتابة نص بسيط في سن العاشرة، إذن فخيار عدم التعليم ليس وارداً.

أما الخيار الثاني فهو التعليم في المدارس في ظل الجائحة، وهو خيار تقوم بعض الدول بدراسته بشكل جدي، وتعمل بخطوات حثيثة نحو العودة إلى المدرسة بشكل فعليّ، ومنها الصين التي عادت بشكل جزئي في عدد قليل من المدارس الآمنة تماماً، وفنلندا بالمرحلة الدنيا (1-3)، وعدد من الدول الأوروبية وكوريا وحتى عدد من الولايات الأمريكية، ولكنه يبدو خياراً غير آمن أبداً، في ظل ثقافة أن الخروج من البيت وقيادة السيارة نحو المدرسة لا يعني الذهاب للمدرسة فقط، بل يمكننا أن نقوم بجولة تفقدية في الجوار وعدد من الزيارات الخاطفة، فالعودة للمدرسة في ظل الوضع القائم تبدو خياراً سوداوياً مع وجود ما يزيد على 9728 مصاب و123 حالة وفاة، ولن يكون ذلك ممكنناً ما لم يتم اتخاذ كافة التدابير المتعلقة بالصحة والأمان للطالب والمعلم، فالصفوف صغيرة المساحة والساحات ضيقة ونسبة المعلمين الذين تتجاوز أعمارهم الخمسين هي عالية، والمعيقات تبدو كثيرة ولعلها خيار غير قابل للتطبيق على أرض الواقع.

وأما الخيار الثالث وهو التعلم عن بعد، بأن يقوم الأهل بتعليم أبنائهم في البيت بالاستعانة بالمناهج المطروحة ووسائط المساعدة المتنوعة التي تحدثنا عنها بدايةً والمنتشره على الانترنت، وفي بداية العام الدراسي المقبل، يتقدم الطالب لامتحان في كافة الموضوعات، ويرفع للصف الأعلى في حال اجتيازه للامتحان، وقد نشر مكتب اليونسكو الاقليمي للتربية في الدول العربية كراسة إرشادية للأهل لمساعدتهم على تعليم أطفالهم في المنزل في ظل أزمة كورونا، وهو خيار قد يوفر الكثير من النقود على خزينة الدولة، ويعتبر المعلمون في إجازة بدون راتب حتى نهاية الأزمة، وهو خيار لن يوافق عليه ولن يطبقه الأهل، وستثور ثائرتهم ولن يقبلوا أن يكونوا بديلاً للمعلم، والطلاب أيضاً لن يثقوا بتعليم ذويهم، وسيبدأ تذمر الأهالي وتعلو الأصوات المنددة بالقرار، فالبعض تذمروا مع وجود المعلمين وتوجيههم وتعليم أولادهم، فكيف بدون معلمين، لن يكون الأمر سهلاً ولا مقبولاً.

وهذا يضعنا أمام الخيار الرابع والأخير وهو التعليم عن بعد، وأن يعود المعلمون لتعليم الطلبة من خلال منصات التعلم المختلفة، مهما كانت بسيطة، فهناك من يتابعون دروسهم من خلال مجموعات عبر telegram أو WhatsApp أو Messenger، أو صفحات facebook المختلفة، أو من خلال منصات المنظومات التعليمية الخاصة بكل مؤسسة، المرشد والرائد، منها عبر الموديل بأنواعه، الصفوف الإفتراضية، وأنواع التطبيقات المختلفة، Google- Meet، وZoom وبرامج وتطبيقات ومنصات كثيرة.

أن كوفيد-19 وضع مليارات حول العالم أمام منصات التعلم عن بعد، لن يجعل منا استثاءً، ولكنه يجعلنا أمام كثير من العقبات القادمة التي لا بد من وضع استراتيجيات واضحة لتجاوزها، فإذا كنا مقبلين على نوع جديد من التعلم لا بد وأننا بحاجة إلى خطط حكومية واضحة، وإعادة النظر في البنية التحتية لمنظومة التعلم عن بعد، دون تجاهل للمناطق النائية والبعيدة عن شبكات الانترنت، وتدريب المعلمين والطلاب وذويهم، وإعادة المكانة المفقودة للتعلم عن بعد.

 

شارك على :
المحور العربي © كل الحقوق محفوظة 2023