وردة إلى صديقي عبد المؤمن بالعانس…بقلم د. عادل بن خليفة بالكحلة

وردة إلى صديقي عبد المؤمن بالعانس…بقلم د. عادل بن خليفة بالكحلة

لم أكن منتظما حزبيًّا ولن أكون، لأنّ طبعي لا يتلاءم والانتظام الحزبي. لكنّني «متسيّس»، أي مهتم بالشأن العام، و«يساري» بمعنى أنّني مع العدالة الطبقية والجهوية والجنوسية ومع الممانعة تجاه الإمبريالية والصهيونية ومع الوحدة المغربية والعربية والعالم- ثالثية. تمامًا (نعمْ!)، كجدّي الذي لم يقبل بطاقة الانخراط في الحزب الدستوري الجديد ولكنه أوى «أخطر» قادة معركة 23 جانفي 1952 في بيته، وهما محكوم عليهما بالإعدام من محكمة المستعمر؛ وكوالدي الذي تربّى في كنف فرانثر فانون في مدرسة الصحة بتونس وفي إدارة العمل بمستشفى الأمراض العقلية والنفسية… فالأمر فيّ يكاد يكون جينيًّا، بتطوّر الظروف، منذ أن أطْرِدْت من المعهد الثانوي بسبب «ريادتي» في «ثورة المعاهد» إلى اقترابي من كل التيّارات الطلاّبية بالجامعة.

عام 2011، كنت «سجين» آلان توران في أطروحة «الحركة الإجتماعية» وسجين كفاح أمريكا الجنوبية ضدّ الهيمنة الأمريكية. ولذك «عجزت» عن الاختيار وكانت الورقة البيضاء شغالة، ولكنني كنتُ في تسيير لجنة حماية الثورة مستقلا أجْمَع المتحزبين حتى استقالتي..

*-*-*

عام 2014 قرّرت أن أخرج من شبه «العدمية» وأصبحت أبحث عن المناضل الفرد. نظرتُ في المترشحين بقائمات ولايتي، و وجدتُ بيان عبد المؤمن بالعانس هو الأقرب لما أريد، إن لم يكن أفضل.

كنتُ أعرف الرجل من بعيد، أراه في الكثير من التحركات في عهد بن علي، و«أسمح» لنفسي بأن أكلمه في بعض لقاءات التجمع الاشتراكي التقدمي بمقرّه، لكنْ لم أكنْ أريدُ أكثر من ذلك حتى لا «أحترق» «باحتراقه».

كنتُ معجبًا بإصراره العقائدي- النضالي وجرأته، تمامًا كإعجابي بمحمد عبّو في تلك الفترة.

اقتربتُ منه في سياق التعبئة الانتخابية عام 2014، وحاولتُ قدر طاقتي مع أحد الأصدقاء دعوة سكان بلدتي وبلدة أخرى مجاورة لها لانتخابه. لم أدْعُ لانتخاب قائمته، بقدر ما دعوت لانتخاب مناضل/فرد. انحبستْ أنفاسي وأنا أتابع نتائج ولايةٍ رجعية- الهوى: 8 مقاعد من 9 لـ «اليَمين» (أيّ التيّار البرغْماتي المكرّس للدولة العميقة والكمبرادورية والتبعيّة والمعادي للعدالة الطبقية والجهوية والجنوسية والتغيير الثقافي/ التاريخاني). وفي لحظة اليأس، كان الإعلان عن نجاح: عبد المؤمن بالعانس بالدورة البرلمانية 2014- 2019.

اتصلتُ به، أنا وصديقي، ورجونَا منه أن يقبل تعاونه معنا في عديد الملفات المحلية. وقَدْ قدَّم تحالفُهُ معنا، بل حضوره معنا على الميدان أيضا، مشروعيةً لاحتجاج البحّارة بالميناء ولتدخلات جمعيتنا المحلية. بل إنه قدّم لنا تأطيرًا تنظيميًّا وقانونيًّا لاحتجاجيتنا، ولولا توجيهه التأطيري لكنَّا أكثر عفوية وأقل نجاعة وأكثر جهلاً بقانونية التحرّك الشارعي الذي تستغله القوى المناوئة للإطاحة بأصل التحرك للدخول به في معترك الإدانة القانونية. كان يوجّهنا دون تعالٍ، ودون فوقية أستاذية أو نضالية مدّعاة، فقد علَّمهُ سجل المطاردة التسلطية والسجن والتعذيب التواضعَ أكثر مع شعبه وحبَّ النّاس وخدمتَهُمْ أكثر، ولم يعلمه ذلك السّجل أن يستغله لبناء رأس مال تنفّذي بالمجتمع.

كان هو قناة تواصلنا مع وزارة الفلاحة ومجلس نوّاب الشعب وسلطات الإشراف. لا يهمّه أن يأتي معنا ليخطب في الجماهير، ولا يهمّه إنّ تعرّض آنئذ إلى هرسلة من قوى مناوِئة أو جهات أمنية.

كان دعمه لنا غير محدود بمكان ولا زمان. أثناء عمله البرلماني، أثناء راحته ونومه، حتى على حساب حياته الخاصة وأثناء مرضه وتوعّكه. كان هاتفه الشخصي دائما مفتوحًا، لم يغلقه مرة واحدة، ويكفي أن يرّن رنّة واحدة لتبدأ المكالمة. كان معنا مناضلا مجازفا، معطاءًا، يأتينا من مدينة تونس خصّيصًا ليعود غدًا، مصرًّا على احترامنا للقواعد الدستورية والقانونية أثناء الاحتجاج لضمان نجاحه أكثر. ويقوم في كثير من الأحيان ببحث، قد يتطلب منه يومًا أو أكثر، لفهم الجوانب القانونية أو التفصيلية للمشكل، منحازًا دائمًا لمبدإ العدالة، في هدوءِ العقائديّين.

لقد تبنّى ملّفات الصيد البحري العويصة، ومشكلات الميناء، وحارب معنا الصيد العشوائي المهدِّد لمستقبلنا الغذائي والبيئي، ولاحتكار الثروة، ولاحتكار التمثيل واحتكار القرار، ومحاربًا للتعسف على صغار البحَّارة ومتوسطيهم، من قِبل سلطات الميناء وسلطات الإشراف ورأس المال الطفيلي المتوحش (التربية السمكية).

كان دائما منفتحا على كل الأفراد والمجموعات، ولكنْ في الآن نفسه منفتحا على كل مَنْ لا يبدي مرونة في التعامل مع المصلحة الوطنية- الشعبية العادلة.

كان منفتحًا، دون عوائق في التواصل مع صاحب المستويات التعليمية الدنيا بالإبتدائي، ومع صاحب الشهائد العليا، دون عوائق سياسية أو إيديولوجية. كانت كل خطاباته التي حضرتُها لا تشي بأي دعاية لشخصه أو لحزبه، وأؤكّد أنّ أكثر من أحبّوه من جمهوره بالولاية لا يعرف انتماءه الحزبي.

كان عاشقا لشعبه، ولمثال العدالة حتى الجنون المتيّم، فيجوس خلال الأحياء الشعبية «الخطيرة» إجرامًا وكلابًا. وأخيرًا أشْرَكَتْهُ تنسقيّة متابعة الوضع البيئي بوادي الحارّة- طبلبة في معاينة الميدان رغم مرضه آنئذ، فكان يدقق في كثير من الجزئيات البيئية والمعيشية، متفاعلا مع خطاب الفلاحين.

*-*-*

عزيزي عبد المؤمن،

يا وريث مجالس تأديبٍ أطردتك من الكليّة، وحرمتك من الامتحان، و وريث إضرابات الجوع، ووريث التعذيب الذي ترك فيك آلامًا جسدية دائمة لم تعلن عنها مكابرةً، يا وريث القمع الذي حرمك من احتضان ابنتك البكر إلاّ بعد سنة وشهر… يا وريب المطاردة الطويلة…

أجد فيك «المناضل الجديد»، في ظل انهيار الأحزاب والتنظيمات التي تدّعي «التقدميّة» و«اليسارية»… أحببنا فيك دَماثة الأخلاق، والعمل الكفاحي في صمت وتواضع ودون ادعاء… اكتشفنا فيك تضحويّة وعطاءًا ومشاعر إنسانية دفّاقة، نادرةً حتى بين «المناضلين»…لم تقل مرة كلمة تصنف «بذيئة» حتى مع «أعدائك». نحن نحتاج اليوم إلى نموذج حان-پول سارْتر أكثر من نموذج روزا لوكسمبورغ…

أشكرك على ثقتك فينا، وإتقانك فنّ الصداقة والحبّ والإيثار…

أعرف أنّك لا تحب المديح، وأنا لم أمدحك. ولكنني أردت أن أوثّق إحدى الإضاءات القليلة جدّا في سماء وطني القاتمة جدًّا، وإحدى الوعود القليلة جدّا في أفق وطني القاتِم جدًّا.

أشكرك أنْ علمْتني كيف أناضل، وكيف أصبر، وكيف أحرص على المبادئ العدالية، وعلى سيادة شعبي…

لقد احترمتك أكثر لاستقالتك من حزبك، لأنها كانت نتيجة صدقك وحبّك لشعبك… وحزنتُ لعدم ترشحك في قائمة مستقلة رغم إلحاحي، ولكنني عرفت أنه صِدْق آخر مع شعبك…

أعرف أنك لن تستقيل من انخراطك في شعبك… ولذلك اقْبَلْ وردتي يا صديقي، وإقْبَل أن تعلمنا أكثر…

*-*-*

صديقي عبد المؤمن،

عشية الإنقلاب العسكري في الشيلي عام 1976، لم يكنْ آلان توران متشائمًا، ولكنه دَعا الحركة الاجتماعية اليسارية إلى تجذير تاريخانيّتها، لأنّها كانت تمتلك «هويتها» و«مضادّتها». فلعّل ما كان ناقصًا هو التواضع مع «ثقافة شعبنا»، كما يرى غرامشي، أي في جينات الثورية محدَّثةً. ففي نهاية الأمر، هو الذي يجب أن يثور انطلاقًا من تلك الجينّات.

*-*-*

قاومت لتحرر دمك من عنابر الزيت

وفـــــمك من مخازن الســـــكر

وعظامك من مقاعد البكوات وأمراء الدواوين

لكن يا علي يا علي

أين تجد هنا أرضاً لرأس طليق ويدين حرتين

*-*-*

يا قامة الوعر المنتصبة

والجرد الذي يختزن الصواعق

والقلب الذي يترقرق بماء الوطن

*-*-*

«أجل معكم، وبكم، وحيث تكونون، يمكن للمستقبل والأمل أن يبدأ بالتحقق». المهمّ أن نبدأ في البحث عن الجينات الثورية لشعبنا، عميقا، عميقا، وبذلك يتبلور المشروع ويتضح طريق النضال الجديد…

*باحث أنثروبولوجي، ناشط مدني

 

شارك على :
المحور العربي © كل الحقوق محفوظة 2023