“وفرة الانتاج لم تمنع تزايد الاستيراد”: بسبب انزلاق الدينار..امتصاص مزايا صابة الحبوب!!؟… بقلم جنات بن عبد الله

“وفرة الانتاج لم تمنع تزايد الاستيراد”: بسبب انزلاق الدينار..امتصاص مزايا صابة الحبوب!!؟… بقلم جنات بن عبد الله

كشفت نشرية المعهد الوطني للإحصاء المتعلقة بحصيلة التجارة الخارجية بالأسعار الجارية للسداسي الأول من سنة 2019 تفاقم عجز الميزان التجاري ب 15939.8 مليون دينار مقابل 13267.9 مليون دينار خلال نفس الفترة من السنة الماضية بما يؤشر ببلوغ العجز التجاري في موفى السنة الجارية مستويات قياسية غير مسبوقة.
في ذات السياق سجل الميزان التجاري الغذائي خلال السداسي الأول من السنة الجارية عجزا في حدود 679.4 مليون دينار نتيجة ارتفاع واردات الحبوب وتراجع صادرات زيت الزيتون حسب ذات المصدر مقابل تسجيل فائض في حدود 226.0 مليون دينار خلال نفس الفترة من السنة الماضية.
تفاقم عجز الميزان التجاري الغذائي أثار تساؤلات واستغراب الرأي العام الوطني في ظل النتائج القياسية التي سجلتها صابة الحبوب في هذا الموسم والتي قدرت حسب معطيات وزارة الفلاحة ب 24 مليون قنطار بما ما يفترض تراجع الواردات من الحبوب وتحسن الميزان التجاري الغذائي.
وقبل التوقف عند هذه المفارقة الغريبة التي تجمع بين تواصل ارتفاع الواردات من الحبوب في ظل تسجيل صابة قياسية، وتحليل تداعياتها على التوازنات المالية الخارجية وأمننا الغذائي، لا بد من التوقف عند الأسباب التي أدت الى مثل هذه المفارقة والمتمثلة في:
– منهجية احتساب الكميات الموجهة للاستهلاك المحلي والتي تختلف عن الكميات المنتجة،
– والإصلاحات الهيكلية لصندوق النقد الدولي وتحديدا تلك المتعلقة بسياسة التقشف وسياسة الصرف المرنة والسياسة النقدية المتشددة.
فحسب مصادر مختصة في الشأن الفلاحي وتحديدا في قطاع الحبوب تختلف الكميات الموجهة للاستهلاك المحلي عن حجم الإنتاج وحجم الصابة من الحبوب بسبب وجود عوامل خارجية تقلص من الكميات الموجهة للاستهلاك التي لا تحتسب على أساس الإنتاج ولكن على أساس الكميات المجمعة في مراكز الخزن بعد طرح جزء من الصابة بعنوان الاستهلاك الذاتي للفلاح، وجزء ثان بعنوان البذور، وجزء ثالث بعنوان الخسائر المتبقية في الحقول الناتجة عن حالة معدات الحصاد في تونس والتي تقادمت في غياب الإمكانيات المالية للفلاح وضعف دعم الدولة للقطاع بما يتسبب في اتلاف وتبخر 15 بالمائة من المحاصيل حسب خبراء تونسيين في الميدان.
وحسب ذات المصادر فانه من 24 مليون قنطار تم إنتاجها خلال هذا الموسم لن يتم الا عرض 13 مليون قنطار في السوق المحلية وقع تجميعها في مراكز الخزن وذلك حسب منهجية الاحتساب المعتمدة التي تكشف بأن السوق المحلية لن تسجل الا عرض 9 ملايين قنطار من القمح الصلب مقابل انتاج 12.700 مليون قنطار، ومليون قنطار من القمح اللين مقابل انتاج 1.800 مليون قنطار، و3 ملايين قنطار من الشعير مقابل انتاج 9.200 مليون قنطار ليتوزع الفارق بين الإنتاج والعرض في السوق المحلية بين الاستهلاك الذاتي للفلاح والبذور والخسائر المرتبطة بتقادم معدات الحصاد.
وحسب ذات المصادر يقدر استهلاكنا الشهري من الحبوب بمليون قنطار من القمح الصلب وهو ما يعادل 12 مليون قنطار في السنة، ومليون قنطار من القمح اللين وهو ما يعادل أيضا 12 مليون قنطار في السنة، وفيما بين 700 ألف و750 ألف قنطار من الشعير كعلف للحيوانات وهو ما يعادل 9 ملايين قنطار في السنة، لنصطدم، رغم قياسية الصابة، بعجز هذه الأخيرة عن تغطية استهلاكنا السنوي وضرورة اللجوء الى التوريد ولكن بكميات أقل من السنة الماضية قدر قيمتها وزير الفلاحة في حدود 200 مليون دينار.
ولئن ينتظر أن تتراجع كميات توريد الحبوب هذه السنة، وهو ما أكدته احصائيات المعهد الوطني للإحصاء خلال السداسي الأول من السنة الجارية حيث تراجعت من 527.3 ألف طن بالنسبة للقمح الصلب خلال السداسي الأول من السنة الماضية الى 483.0 ألف طن خلال نفس الفترة من السنة الجارية، ومن 647.8 ألف طن الى 613.8 ألف طن بالنسبة للقمح اللين، لا يزال المواطن التونسي يدفع فاتورة توريد عالية تعمق عجز الميزان التجاري وتستنزف الاحتياطي من العملة الصعبة لترتفع هذه الفاتورة من 383.2 مليون دينار بالنسبة للقمح الصلب خلال السداسي الأول من السنة الماضية مقابل 416.4 مليون دينار خلال نفس الفترة من السنة الجارية، ومن 342.8 مليون دينار بالنسبة للقمح اللين الى 457.1 مليون دينار مفارقة غريبة تقف وراءها الإصلاحات الهيكلية لصندوق النقد الدولي بعنوان سياسة مالية عمومية تقشفية ضربت نفقات الدولة ودعمها للقطاع الفلاحي، وسياسة سعر صرف مرنة ضربت الدينار التونسي، وسياسة نقدية متشددة ضربت التمويل البنكي وقطعت الطريق أمام الفلاح لتحسين ظروف الإنتاج وتجديد المعدات بما يطور الإنتاج والإنتاجية ويقلص من الخسائر.
لقد امتص انزلاق الدينار مزايا الصابة القياسية من الحبوب على الميزان التجاري وتوفير العملة الصعبة للبلاد لتوجيهها نحو توريد المواد الأولية والمصنعة ونصف المصنعة لتدعيم منظومة الإنتاج، لترتفع قيمة الواردات من الحبوب رغم تراجع الكميات الموردة لنتساءل عن كلفة صمت الحكومة تجاه فاتورة التوريد التي دخلت دائرة التضخم اللامتناهي بسبب تواصل انزلاق الدينار الذي عمق عجز الميزان التجاري بما في ذلك عجز الميزان التجاري الغذائي الى جانب عوامل أخرى كان أمام الحكومة احتواءها بتوظيف اليات الحماية الظرفية مثالا ولم يوصي بها صندوق النقد الدولي.
لقد أوصى صندوق النقد الدولي في إطار اتفاق “تسهيل الصندوق الممدد” الذي تحصلت بمقتضاه تونس على قرض بقيمة 2.8 مليار دولار على امتداد أربعة سنوات تغطي الفترة من 2016 الى 2020 بإصلاحات تحوم حول تخفيض قيمة الدينار وتقليص نفقات ميزانية الدولة واتباع سياسة نقدية متشددة من قبل البنك المركزي تقوم على الترفيع المتواصل لنسبة الفائدة المديرية للبنك المركزي ضربت الاستهلاك والاستثمار ووراءهما منظومة الإنتاج والتصدير. وقد انخرطت حكومة الشاهد بكل أريحية في هذا المسار الذي يعيش التونسي اليوم على وقعه بدفع فاتورة عالية تبدو أنها لا متناهية في ظل عدم تحرك المنظمات النقابية والمهنية للدفاع عن استقلالية قرارنا والتخلي عن إصلاحات هيكلية لم تنتج سوى مزيدا من تأزم الوضع الاقتصادي والمالي والاجتماعي، ومفارقات غريبة زادت في ضبابية المشهد وتعميق أزمة الثقة بين السلطات التنفيذية والتشريعية والنقدية من جهة، والشعب التونسي من جهة ثانية.
اننا لا نأمل في تغير الوضع، ولا نأمل في أن تنقشع هذه الإصلاحات الهيكلية عن سماء تونس بعد انتخابات 2019 باعتبار أن الأطراف التي أمنت “استمرارية الدولة” بعد سنة 2011 ستظل في مناصبها بالقصبة، على الأقل الى ما بعد سنة 2020 تاريخ استكمال برنامج الإصلاحات الهيكلية لصندوق الدولي واستكمال فترة المخطط الخماسي للتنمية 2016 – 2020، بما يقطع كل الطرق أمام تحرر تونس من قبضة التداين الخارجي الذي سيرتفع خلال الفترة القادمة لتسديد قروض فترة ما بعد الثورة ليترجم ذلك الى مزيد من تفقير الشعب التونسي وتدمير للقدرات الإنتاجية للاقتصاد الوطني، والمفارقة الغريبة التي يعيشها قطاع الحبوب اليوم مثالا حيا لما ينتظرنا جميعا.

الصحافة

شارك على :
المحور العربي © كل الحقوق محفوظة 2023