يوم الغدير مقدّمات وتأسيسا…بقلم محمد الرصافي المقداد  

يوم الغدير مقدّمات وتأسيسا…بقلم محمد الرصافي المقداد   

لم يكن الإسلام خاتم الرسالات الإلهية، سوى شريعة مجتمع ونظرية حكم، أنزلها الله لتقود البشرية، من استبداد الملوك وإفسادهم، وطغيان السلاطين بأحكامهم الجائرة، إلى أحكام الله المبنية، على كرامة الإنسان وأمنه وعدله، منظومة أرادها أن تكون سائدة مرْعيّة بين عباده، قائمة بالقسط على مجتمعاتهم، وما الدين الخاتم وما سبقه من شرائع، سوى مجموعة قيم وأحكام، قامت على أساسها فرص حياة البشر، بالتساوي مع نظرائهم، دون محاباة بعض على بعض، ومنعا من أيّ انحراف يمكن أن يطرأ على الفطرة البشرية السّليمة، التي فطر الله الناس عليها، وفرص الحياة الكريمة إذا ما أتيحت للمجتمع بكل مكوّناته، فلا يبقى هناك مجال لاستغلال قد يقع من فئة من الناس على حساب أخرى، وليس الدين كما يروّج البعض، مجرد أدبيات وأخلاقيات لا تتجاوز ذلك الإطار، لتكون معنيّة بالقيادة والحكم، وهي في نظرهم القاصر لا ترقى لتكون شريعة مجتمع وأمّة، ومن هرب إلى هذا التبرير، حاول جاهدا ليفرغ الإسلام من خاصّيته الحُكْميّة، لكنّه فشل في إثبات عكس ما ذهب إليه أغلب المسلمين، من ضرورة وجود نظام من جنس الشريعة، توكل إليه مهام حفظ وبيان تلك التشاريع وحسن إقامتها.

وإنّه من سفه القول، بقاء من أطلقوه حكما هملا للناس، ثم عكفت عليه بعد ذلك أجيالهم في أسوأ صوره، تجترّه عقولهم وتردّده ألسنتهم، معتبرين الملك العضوض خلافة النبوّة، ولم تظهر له علاقة بها حتى على سبيل النسبيّة الدّنيا، ونحن هنا أمام احتمالين لا ثالث لهما، إمّا أن يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد استخلف من سيلي أمر الأمة من بعده، فيقوم مقامه على رأسها، وإما أن يكون قد ترك ذلك المنصب الحسّاس والخطير للناس يفعلون فيه ما يريدون، دون أن يوضّح لهم خصائصه ومآله، وأعتقد أن لا سبيل إلى معرفة موقف الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم من هذه الوظيفة، من دون نظر لما ورد علينا من نصوص قرآنية ونبويّة موضّحة مآلها.

ففي القرآن نزلت آيات بينات، تدعو إلى الحكم بما أنزل الله، مميّزة إيّاه كطريق حق واجب الإتّباع، محذّرة من اتباع أهواء النّاس بشأنه، ومساعيهم الظاهرة في طلبه معارضة لمآله الذي بدا ظاهرا، وتحذير النبي صلى الله عليه وآله وسلم في هذه الآية، دالّ على وجود حركة رافضة ذهاب الحكم لأهله: (وأن أحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك)(1) وهي حركة تريد إعادة حكم قريش في دار النّدوة، كما جاء في قول أحد مؤسسيها: (لقد كرهت قريش أن تجتمع لكم النبوّة والخلافة) (2) (أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون) (3)

وتضمّنت أوامر باتة بطاعة أولي الأمر، قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله وأولي الأمر منكم)(4) فهذه الآيات وغيرها، حاثّة على إنفاذ الأحكام وتطبيقها، دالة على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم جاء للناس بشريعة من خالقه ليحكم بها، وليس مجرّد مبلّغ للدين الإسلامي بأحكامه دون تخصيص لجانب منه، وذاهب في حال سبيله، ليترك حكومته بعد ذلك مهيعا للناس، يركبونها كما بدا لهم، تحريفا للكلم عن مواضعه، وإعادة للسلطة من واقعها الإسلامي الجديد، إلى سالف ما كانت عليه في الجاهلية، من إتباع هوى وعصبية، عوض أن تكون أداة الحكم – وهي الإمامة – في الصفوة الطاهرة من أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم، الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا، فمن قال أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يستخلف، هام على وجهه، حتى جاء بنتيجة ما تمخضت عليه سقيفة بني ساعدة، معنونا ذلك بأنه إجماع أهل الحل والعقد – في غياب أهل الحل والعقد المشغولين بتجهيز النبي صلى الله عليه وآله وسلم – بينما هي مؤامرة محبكة الفصول، أراد منها فريق من المهاجرين – أُطلِقوا عليه صفة قريش في الرّوايات – صرف صاحب الولاية الحقيقي الإمام علي عن منصبه، استغلالا لاجتماع دعا اله الأنصار فيما بينهم لتدارس حركات جماعة من المهاجرين (قريش)، وكانت الأمور ستذهب إلى الاقتتال، بين الأنصار والمهاجرين، لو لم يتخاذل الأنصار أمام من دخل عليهم سقيفتهم، وقد حكم عليها مؤسسها بأنها فلتة وقى الله شرّها، ودعا إلى قتل من عاد إلى مثلها. (5)

ولو أنّ هؤلاء المشتبهة عليهم مسألة الحكومة بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، رجعوا إلى ما تميزت به سيرته، لعرفوا أنه كان يستخلف على عاصمة حكمه يثرب ثقاته من أصحابه، تعيينا منه مباشرة، دون مراجعة لأحد، فكم من مرّة خرج مسافرا حاجا أو غازيا، وعين خلفه من هم أهل للقيام على شؤونها، واختياره وتعيينه كان في إطار أحكام الإسلام، تعيين الأكفأ من أهل العلم والبصيرة، ومن أعرف من الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم بهؤلاء.

أولي الأمر هم المعيّنون أوّلا لقيادة الأمّة

لقد جاء التأكيد على التعيين الإلهي، من خلال ما سبق من السيرة النبويّة العطرة، فقد جاء عن عبادة بن الصامت قال: بايعنا رسول اللّه( ص ) على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا، وعسرنا ويسرنا، وأثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله  (6) وهو ما أكّد عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم نفسه بقوله: (كانت بنو اسرائيل تسوسهم الأنبياء كلما هلك نبي خلفه نبي، وإنه لا نبي بعدي، وسيكون خلفاء فيكثرون، قالوا فما تامرنا؟ قال: فوا ببيعة الاول فالأول، أعطوهم حقهم، فإن الله سائلهم عما استرعاهم.) (7)

وللحديث دلالة واضحة، بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد خص حكومته بعدد من خلفائه، وأعطاهم تلك الصفة، على أساس أنّها تعيين منه وليس من الناس، الذين لم يتخلصوا من عاداتهم القبلية في التعصب وسائر العادات السيئة التي ظلّت معهم بعد دخولهم الاسلام، ولم تفارقهم ولذلك دلالات في القرآن والسيرة نتجاوز عن ذكرها لشهرتها.

هذا وقد درج النبي صلى الله عليه وآله وسلم على مبدأ استخلاف من يخلفه على المدينة كلما عرض له طارئ حتّم عليه الخروج منها إلى شأن من شؤونه، وفي هذا المجال يقول السيد مرتضى العسكري:(هكذا لم يغب الرسول( ص) في غزواته عن المدينة أيّاما معدودات، دون أن يستخلف عليهم من يرجعون إليه مدّة غيابه عن المدينة، بل إنّه لم يغب يوما عن المدينة أو بعض يوم، دون أن يستخلف عليهم من يرجعون إليه، كما كان الشأن في غزوة أحد، وكان جبل أحد على بعد ميل من المدينة، فإنّه( ص ) قد عيّن خليفته عليهم مدّة غيابه عنهم، بل وفي غزوة الخندق أيضا، حيث كان يقاتل في المدينة واستقرّ دون الخندق، عيّن لأهل المدينة المرجع لانشغاله عنهم في الحرب، إذا كان هذا دأب الرسول (ص) في غيابه عن المدينة بعض يوم، وكذلك في حال انشغاله عنهم بالحرب داخل المدينة، فماذا فعل لامته من بعده وهو يتركهم أبد الدهر؟ هل تركهم هملا، ولم يعين لهم المرجع من بعده؟ ) (8)

وقد استخلف النبي صلى الله عليه وآله وسلم على المدينة ابن أمّ مكتوم عددا من المرات، واستخلف أبا لبابة الأنصاري وأبو رهم الغفاري وزيد بن حارثة وعبد الله بن رواحة وأبو سلمة المخزومي، وسعد بن معاذ، وسعد بن عبادة، وإنّ رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم حين خرج في غزوة تبوك، استخلف عليها عليّا (رض) على المدينة، فقال عليّ: يا رسول اللّه ما كنت أحبّ أن تخرج وجها إلّا وأنا معك. فقال: أو ما ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلّا أنّه لا نبيّ بعدي.(9)

هي رواية تجنبت تحريف مقالة الامام علي فرَوَتّها سليمة الألفاظ، بينما جاء في غيرها سخافة تركيب لا تليق بمقام الإمام علي عليه السلام، وهو المدرك دوره تماما لم يشكّ في شيء منه طوال رفقته المتميّزة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وذلك متعارض تماما مع ما نسبوا إليه من قول: (أتخلفني في النساء والصبيان؟ ) (10 ) وتبوك هي الغزوة الوحيدة التي لم يخرج إليها عليّ عليه السلام، وأهمّية الدور الذي قلده إياه النبي صلى الله عليه وآله وسلم استوجبت ذلك، ولو كان هناك شخص آخر قادر على الإضطلاع به لعينه بدلا عنه، والوقوف في وجه المنافقين، الذين أخذوا قرارهم بالإنقلاب على المدينة، بعد مغادرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لها متوجها إلى تبوك، دور لا يؤدّيه حقّه سوى عليّ، وقد نزل قوله تعالى بشأنهم ( لئن رجعنا إلى المدينة ليخرِجَنّ الأعز منها الأذلّ) (11).

بعد كلّ ما تميّز به عليّ بن أبي طالب من ميزات وقدرات اجتمعت فيه شجاعة ونباهة وعلما وفهما وقربى وخصائص، أذكّر هنا فقط بمناسبة عظيمة وجليلة، اختتم بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم مسيرته السياسية بالتعيين المبارك الذي جاء أمر الله فيه، يوم الثامن عشر من ذي الحجة سنة 10 من الهجرة النبوية، عند منصرفه من حجة الوداع في مكان عُرف بغدير خُمّ يفترق منه الحجاج إلى جهاتهم، فقد نزل جبريل عليه السلام بذلك الأمر: ( يا أيها الرسول بلغ ما أنزل اليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من النّاس) (12) فأمر الناس بالتوقف في ذلك الموضع القاسي وخطب فيهم خطبة التعيين التي أهملها من أهمل وقطع مضمونها من قطع اصرارا على تغييب تلك الحادثة من عقول المسلمين، أخرجها فقط المتّقي الهندي بطولها نقلا عن الطبراني، أختصر منها قوله صلى الله عليه وآله وسلم: أيها الناس إن الله مولاي، وأنا مولى المؤمنين، وأنا أولى بهم من أنفسهم، فمن كنت مولاه فهذا مولاه – يعني عليا (رض) – اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه) (13)

وكان دور المتأوّلين في قوله من كنت مولاه فعلي مولاه شاردا عن معناه الحقيقي، وفيي تلك العصور كان العرب أهل فطنة ودراية بلغتهم فلا يرتابون في مقالة بشأن لفظ ولو تعددت معانيه فسياقه ومجموعه دالّين على مقصده، وقد سبق من النبي صلى الله عليه وآله وسلم الإشارة إليه، والاشارة بالتلميح أبلغ من الإشارة بالتوضيح وتلك خاصيّة العرب ولغتهم، للتذكير فقط ما تكرر ذكره من رسول الله كلما جاءه تحريض عليه من مرضى القلوب: ماذا تريدون من علي؟ إن عليا مني وأنا منه، وهو ولي كل مؤمن من بعدي. (14) نعم لقد كان الصحابة واعين بكلام النبي بشأن الإمام علي، لكن أغلبهم كان مقصّرا في حقه غفلة منهم أو إصرارا على معاداته ومخالفته، ومن تلك الموقف منه انقسموا بين مبغض قال وحبّ غال والقليل من عرف عليّا كما يجب فاتبعه.

كيف يمكن أن تهمل هذه الحادثة، وهي في محتواها تأسيس لقيام حكم إمامة إلهية، هي امتداد طبيعي لإمامة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، المستمرّة باستمرار صفوته في أمّته، وهي بما حملته من دور هامّ، وأعباء جسيمة في سياسة الأمّة الإسلامية؟ والوعي اليوم بضرورتها دينا ودنيا يدعونا إلى إثارة حيثياتها من جديد، تذكيرا بأهميّتها وأنّ فقدها كلف أجيالنا خسارة وضياعا كبيرين، وبهده المناسبة العظيمة، يطيب لي أن اتقدم بالتهنئة لجميع أطياف الأمة، داعيا نخبها لإعادة النظر في مسألة الإمامة بالاعتماد على ما نفذ من براثن المحرّفين فيها، تجلية لحقيقتها من كونها وظيفة ضرورية لسلامة الدين وأحكامه وعنصر هداية وثيقة للأمّة الإسلامية.

المصادر

1 – سورة المائدة الآية 49

2 – شرح نهج البلاغة ابن أبي الحديد المعتزلي ج 13ص53

3 – سورة المائدة الآية 50

4 – سورة النساء الآية 59

5 – جامع أحاديث البخاري/كتاب المحاربين باب رجم الحبلى من الزنا إذا أحصنت ج8ص168ح6830/ مسند أحمد مسند عمر بن الخطاب ج1ص449ح391

6– جامع أحاديث البخاري كتاب الأحكام ج9ص77 ح7199/ صحيح مسلم كتاب الإمارة باب وجوب طاعة الأمراء ج6ص16 ح1709/

7– جامع أحاديث البخاري كتاب أحاديث الأنبياء ج4ص169 ح3455/مسلم كتاب الامارة باب وجوب الوفاء ببيعة الخلفاء ج6ص17ح1842

8 – معالم المدرستين السيد مرتضى العسكري ج 1 ص211

9 – مسند أحمد مسند سعد بن أبي وقاص ج3ص114ح1532

10 – جامع احاديث مسلم كتاب الفضائل الصحابة باب من فضائل علي بن أبي طالب ج7ص120ح2404

11 – سورة المنافقون الآية 8

12 – سورة المائدة الآية 67

13 – كنز العمال للمتقي الهندي ج1ص168

14 – سنن الترمذي أبواب المناقب مناقب علي بن ابي طالب ج6 ص78ح3712

شارك على :
المحور العربي © كل الحقوق محفوظة 2023