بقلم جنات بن عبد الله |
في الوقت الذي يتسم فيه الموقف الأمريكي تجاه الصراع العربي – الإسرائيلي بالوضوح والدفاع المستميت عن مصالح الكيان الصهيوني في المنطقة بكل الوسائل الديبلوماسية والاقتصادية والسياسية والعسكرية، يتسم الموقف الأوروبي بالمراوغة والاختفاء وراء مبادرات متوسطية يؤمن من وراءها هيمنته على حوض البحر الأبيض المتوسط من جهة، ويضمن من خلالها ادماج الكيان الصهيوني بطريقة سلسة وناعمة في العلاقات الاقتصادية والتجارية المتوسطية كخطوة أولى نحو تطبيع اقتصادي بعيدا عن ردود أفعال شعوب الدول العربية المطلة على المتوسط ونحو التطبيع الشامل في خطوة ثانية.
في هذا السياق تعتبر خطة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب المعروفة بصفقة القرن اخر المقترحات التي قدمتها الإدارة الأمريكية والتي لا تختلف عن المقترحات السابقة الرامية الى انهاء الصراع العربي – الإسرائيلي في اتجاه القضاء على كل صيغ المقاومة وفرض سياسة الأمر الواقع.
ويمكن تلخيص هذه الخطة التي ترمي حسب ادعاء الرئيس الأمريكي الى حل القضية الفلسطينية في إقامة دولة فلسطينية بدون جيش في الضفة الغربية وقطاع غزة حيث ستتولى مصر منح أراض إضافية للفلسطينيين في سيناء من أجل إنشاء مطار ومصانع وتأمين التبادل التجاري دون السماح للفلسطينيين في العيش فيها. وسيتم الاتفاق على حجم الأراضي وثمنها، وإنشاء جسر معلق يربط بين غزة والضفة لتسهيل الحركة وتنقل الأشخاص.
في المقابل اتبعت المجموعة الأوروبية منذ ستينات القرن الماضي سياسة مختلفة في منطقة البحر الأبيض المتوسط تقوم على التعاون والشراكة الاقتصادية خاصة بعد الخروج العسكري لعدد من البلدان الأوروبية من مستعمراتها بما في ذلك تونس مع الإبقاء على نفوذها الاقتصادية هناك. وتعتبر المرحلة الفاصلة بين سنة 1957 وبداية السبعينات مرحلة انتقالية شكلت خلالها أوروبا نموذجا جديدا للعلاقات الأورو- متوسطية في إطار اتفاقية روما لسنة 1957 التي خولت للمجموعة الأوروبية الاقتصادية إقامة علاقات تعاون جديدة خاصة مع مستعمراتها السابقة من خلال إقامة مناطق تبادل حر للتجارة والتوقيع على اتفاقيات مع المغرب وتونس في سنة 1969 وتركيا في سنة 1963 ولبنان في سنة 1965 والكيان الصهيوني في سنة 1963. وقد عرفت هذه الاتفاقيات في سبعينات القرن الماضي تطورات في اتجاه ابرام اتفاقيات تفاضلية ترمي الى تنشيط المبادلات التجارية بين المجموعة الأوروبية وهذه البلدان استنادا الى سياسة الإعانات المالية والفنية.
وقد عرف مسار التعاون الأوروبي المتوسطي عديد المراجعات على ضوء التطورات السياسية في المنطقة العربية خاصة فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية والصراع العربي الإسرائيلي لتعلن قمة باريس في أكتوبر 1972 عن تحول في العلاقات من علاقات اقتصادية تجارية الى أوسع من ذلك أي الى علاقات سياسية أيضا. وقد تبلورت هذه السياسة المتوسطية الجديدة مع مصادقة مجلس وزراء المجموعة الأوروبية عليها في جوان 1973 والاعلان عن تقسيم دول البحر الأبيض المتوسط الى ثلاث مناطق وهي منطقة المغرب العربي ومنطقة المشرق العربي والمنطقة الأوروبية.
وفي سنة 1995 جاء مسار برشلونة لتكريس العمق الاستراتيجي الأوروبي في المنطقة وتعزيز الهيمنة على دول الجنوب وتحديدا شمال افريقيا وفي ذات الوقت ضمان تواجد الكيان الصهيوني في المعادلة الاقتصادية والسياسية تحت غطاء اقتصادي وتجاري. وقد ارتبط مسار برشلونة بتطور عملية السلام في الشرق الأوسط حيث تزامن مع ابرام اتفاقيات أوسلو الا أن تراجع عملية السلام أدى الى تراجع الدور الأوروبي لتحقيق السلام استنادا الى مبدأ “الأرض مقابل السلام” بما أثر على مسار برشلونة الذي أسس على تنمية أبعاد التعاون الأورو – متوسطي الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية لتأخذ العلاقات بين الشمال والجنوب منعرجا مختلفا يقوم على التعاون الثنائي أكثر منه الإقليمي لتجاوز الرفض العربي لإشراك إسرائيل في منظومة أمنية واقتصادية إقليمية طالما أنها لم تنسحب من الأراضي العربية المحتلة ليتم ابرام اتفاقيات شراكة ثنائية بين الاتحاد الأوروبي وتونس، والاتحاد الأوروبي والمغرب.
ولئن عرف مسار برشلونة صعوبات في اتجاه تحقيق أهدافه المعلنة والخفية فقد سعى الاتحاد الأوروبي وخاصة فرنسا الى تنشيط التعاون الأورو – متوسطي من خلال بعث مبادرات مثل الاتحاد من أجل المتوسط في سنة 2007 الذي أعلن عنه في قمة فرنسا في سنة 2008 كإطار إقليمي يضم الى جانب بلدان حوض المتوسط بما في ذلك إسرائيل سوريا أيضا.
ولتوضيح الدور الإسرائيلي في هذا الإطار الإقليمي الجديد الذي جاء بمبادرة فرنسية من قبل الرئيس ساركوزي نذكر رفض بعض الدول الأوروبية انضمام الجامعة العربية الى الاتحاد بصفة مراقب في الاجتماعات القطاعية واللجان التابعة للاتحاد من أجل المتوسط وذلك بضغط من الكيان الصهيوني الذي تخوف من وجودها كمؤسسة عربية تعبر عن موقف عربي موحد داخل المجتمع الأوروبي مما يشكل ضغطا عربيا محتملا تجاه الموقف الأوروبي من الكيان الصهيوني.
في هذا السياق أيضا لا بد من التذكير بالموقف الليبي الذي جاء رافضا للانضمام لهذا لاتحاد الذي اعتبره تقويضا للنظام العربي والجامعة العربية ووصف المشاريع الاقتصادية بأنها وعود أوروبية ” وطعم واهانة” للدول العربية وسوف تقسم صفوف الدول العربية والافريقية وهي وسيلة لإجبار الدول العربية على التفاوض الاجباري مع الكيان الصهيوني.
لقد نجح الاتحاد الأوروبي في ادخال الكيان الصهيوني بطريقة سلسة وناعمة في المنظومة الاقتصادية والتجارية المتوسطية بعيدا عن المفاوضات وذلك من خلال اتفاقيات الشراكة بين الشمال والجنوب على غرار اتفاقية الشراكة مع تونس لسنة 1995 ومزيد تكريس هذا التوجه في إطار مشروع اتفاقية التبادل الحر الشامل والمعمق بين الاتحاد الأوروبي وتونس حيث أمنت كل الحكومات المتعاقبة بعد الثورة مسار التطبيع الاقتصادي في ظل تعتيم اعلامي ممنهج.
لقد انخرطت اسرائيل بالمنظمة العالمية للتجارة منذ 21 أفريل 1995 ومن هذا المنطلق فان الامتيازات التي منحتها تونس ، بمقتضى اتفاقية الشراكة التي تم توقيعها في ظل نظام دكتاتوري في سنة 1995 لبلدان الاتحاد الأوروبي ملزمة بمنحها لهذا الكيان الصهيوني بمقتضى مبدأ “الدولة الأكثر رعاية” وأيضا مبدأ “المعاملة الوطنية” ، وأي رفض لنفاذ المنتوجات “الإسرائيلية” إلى السوق التونسية أو رفض انتصاب المستثمر” الإسرائيلي” في السوق التونسية ، يعرض بلادنا إلى عقوبات من قبل المنظمة العالمية للتجارة باعتبار أن مجلس النواب قد صادق على اتفاقية الشراكة لسنة 1995 .
واليوم فان الأمر يأخذ أبعادا جديدة بعد الثورة باعتبار أن الشعب قد استرجع سيادته في إطار دستور 2014 بما يفرض على القوى الوطنية في البلاد إيقاف المفاوضات الجارية مع الاتحاد الأوروبي والعمل على عدم امضاء الاتفاقية مع الاتحاد الأوروبي كما تعهد بذلك الشاهد في بروكسال على أساس رفض التطبيع مع الكيان الصهيوني وأيضا على أساس التهديدات التي يمثلها هذا المشروع على سيادتنا الوطنية.
المصدر: جريدة الشعب