هيمنة منطق الخصومة والتنابذ والإحلال على منطق التكامل وتقاسم العمل إحدى سمات المجتمعات غير المتحضرة و تتعارض مع قواعد العقل والمنطق والطبيعة، وهذا المنطق والعقلية من محلفات مجتمعات ما قبل الدولة حيث كانت تسود حرب الجميع ضد الجميع بسبب تغليب المصلحة الشخصية على المصلحة العامة، اما بعد قيام الدول والسلطة الواحدة وسن القوانين والاحتكام لها وتوافق المكونات المجتمعية على قواسم مشتركة تشكل ما يسمى المصلحة العامة أو الوطنية تم تغليب منطق وعقلية التكامل والتعاضد بين أشخاص ومؤسسات يقومون بوظائف مختلفة لخدمة الصالح العام، وتسمى أحياناً (الوحدة في ظل الاختلاف) .
ففي الحياة السياسية الدولية تتباين الدول والأيديولوجيات وتتضارب المصالح حتى قيِّل إن السياسة عالم الاختلاف والتعددية، ولكن السياسة تعني أيضا فن إدارة الدولة وإدارة الاختلافات والتباينات والبحث عن القواسم المشتركة، ولذاك تقوم المنظمات الدولية والقانون الدولي بتنظيم وعقلنة المصالح المتعارضة حتى الحرب تم وضع قانون دولي لها، فالدول والمجتمعات لا تستطيع العيش في حالة حرب وصراع وخصومة دائمة كما لا تستطيع أية دولة صغيرة كانت أو كبيرة أن تعيش منفصلة عن بقية الدول، فهناك دائما اعتمادية متبادلة وكل دولة تكمل ما ينقصها من غيرها من الدول .
وفي السياسة الداخلية أو الوطنية تقوم القوانين والأنظمة بتنظيم وعقلنة المواقف والمصالح المختلفة، فلا يمكن لجميع البشر أن يكونوا في نفس الوقت حكاماً ومحكومين، فدائماً هناك حاكم وهناك محكوم مع إمكانية تبادل الأدوار، ومقولة إن الديمقراطية تعني حكم الشعب لا يعني أن الشعب يحكم بالفعلـ بل يختار من يحكمه ، أيضاً توجد سلطة ومعارضة لكل منها دور ووظيفة في سياق النسق السياسي، كما أن السلطة تنقسم إلى تشريعية وتنفيذية وقضائية ويجب الفصل بينها واحترام دور ووظيفة كل منها في سياق التكامل والتنسيق.
المقصود من كل ذلك توضيح أن استقرار وديمومة المجتمعات، المستقلة منها أو الخاضعة للاستعمار، وتطورها يقوم على منطق التكامل وتوزيع العمل بين مؤسسات وأفراد ذوي قدرات مختلفة ومتباينة، وهذا المنطق المُستمد من الخلق الطبيعي ومن واقع الحياة الاجتماعية للبشر يتعارض مع منطق وعقلية التناحر والصراع ومحاولة كل فرد أن يحل محل الآخرين أو يقوم بما يقومون به، وعقلية التكامل وتوزيع الأدوار تستجلب التسامح والقبول بالأخر المختلف كشريك في المجتمع أو النظام السياسي أو الحزب.
المشكلة الملموسة في الحياة السياسية الفلسطينية – بالرغم من أنها سمة عربية عامة- ،وخصوصا بعد الانقسام والوصول لطريق مسدود بالنسبة لطرفي المعادلة الفلسطينية، أن عقلية ومنطق الصراع ومحاولة كل حزب أو زعيم أو أيديولوجية إقصاء المنافسين والحلول محلهم والزعم بأنه يملك الحق والحقيقة المطلقة تطغى على عقلية ومنطق التشاركية وتوزيع العمل وتكامل الأدوار ، وخصوصاً أن الشعب الفلسطيني يعيش في مرحلة التحرر الوطني ويحتاج لكل جهود وإمكانيات الشعب، ففي مرحلة التحرر الوطني يجب أن تتكامل جهود وإمكانيات اليساريين واليمينيين، الإسلاميين والوطنيين، السلطة والمعارضة الخ، ولا يجوز أن تسعى أي أيديولوجية أو حزب أو زعيم لإقصاء الآخرين، ففي الوطن متسع للجميع والوطن يحتاج للجميع .
في الساحة الفلسطينية البعض لا يفهم أو لا يريد أن يفهم منطق التكامل وتقسيم العمل ويعترف بأن كل شخص يقوم بعمله حسب قدراته وإمكانياته وتخصصه، وأن الحياة الاجتماعية والسياسية تقوم على الاختلاف في الأدوار والوظائف مع التكامل بما يخدم مصلحة الوطن، فالطبيب لا يمكنه الحلول محل المهندس أو رجل الشرطة، و القاضي لا يجوز له أن يكون حاكماً في نفس الوقت، وللمقاتل أو المجاهد دوره الذي يتميز عن دور الدبلوماسي، كما أن للأكاديميين والمثقفين والمفكرين دورهم الذي يجب أن لا يتعارض مع عمل سلطة سياسية شرعية ومنتخبة تقوم بوظائف وأدوار لا يستطيعون القيام بها مع احتفاظهم في نفس الوقت بوظائفهم وصفاتهم الأساسية كأكاديميين ومثقفين ومفكرين.
وحتى على المستوى الحزبي وفي داخل الحزب الواحد هناك من له قدرات ويتميز بسمات قيادية تنظيمية وهناك من له قدرات على التواصل المجتمعي وتجنيد عناصر لحزبه وهناك من يُبدع في الصحافة والإعلام وهناك الاكاديمي والطبيب وهناك المقاتل أو المناضل العسكري ، ويجب ألا تكون نظرة كل فئة إلى الأخرى نظرة حسد وحقد ومحاولة تكسير المجاديف أو الحلول محل بعضهم البعض أو الجمع بين كل تلك الوظائف والأدوار، بل يجب أن تقوم على التكامل فكل شخص أو فئة تكمل ما تقوم به الفئة الأخرى.
عدم احترام التخصص وعدم الاعتراف بتباين القدرات وضرورة تقسيم العمل أفرز ظاهرة خطيرة وهي أن كل شخص يرى في نفسه مؤهلات القيادة وينُكرها على الآخرين، وكل شخص يريد ان يكون زعيماً أو قائداً، ليس لأن منصب القيادة يمكِّنه من خدمة حزبه أو الجماعة التي يقودها بل لأن القيادة تعني التميز والاستعلاء على الآخرين وإخضاعهم له، ولا يقف الأمر عند هذا الحد بل إن بعض القادة يعتقدون في انفسهم قدرات كُلية وخارقة لا تتوفر عند غيرهم، حيث يُفتون في السياسة والدين والاقتصاد والعمل الأكاديمي بل ويتدخلون في عمل أصحاب هذه التخصصات، ويناصبون العداء لكل من يعارضهم او يكشف تجاوزاتهم.
عدم احترام تباين وتمايز التخصصات والقدرات ومنطق التكامل أوجد حالة مرضية أو عقدة أن كل شخص يريد أن يكون قائدا أو زعيما ويتعامل مع الآخرين كأتباع أو مريدين. ففي كل حزب مئات الأشخاص الذين يحملون لقب القادة: مئات القادة في حركة فتح ومئات القادة في حركة حماس وهكذا بالنسبة لبقية الفصائل حتى إنه في بعضها يصبح عدد القادة أكثر من عدد العناصر.
عقدة أو هوس القيادة لا تتعكس سلبياتها على الأداء السياسي وعلى المواطنين العاديين أو (الأتباع) فقط بل تنعكس سلبا على علاقة (القادة) مع بعضهم البعض حيث يشكك هؤلاء بعضهم ببعض ويتآمر بعضهم على بعض، كما لا يحترمون القيادة العليا بل لا يتورعون على التآمر عليها حتى وإن كانت من نفس الحزب الذي ينتمون إليه.
Ibrahemibrach1@gmail.com