في الحديث عن الأزمة في أوكرانيا، أكّد رئيس الدبلوماسية في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل مؤخراً أنّ “هذه الحرب ستنتصر في ساحة المعركة”، ويبدو أنه ما زال يراهن على المعارك الميدانية، بعيداً عن الوسائل الدبلوماسية، ويثبت أنه كالطبيب الذي يرفض العلاج، ويعيش تناقضاً غريباً، وهو أمر مؤسف بطبيعة الحال.
يبدو أنَّ تداخل أفكاره وتناقضها تدفعه إلى تمرير سياسات صديقه رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون، الباحث عن النصر وعن تدمير الاقتصاد الروسي، عبر عقوباتٍ لا تخطر على بال، فقد قام بوريل مؤخراً بزيارة كييف، ووعد نظامها بإمداداتٍ ودفعاتٍ جديدة من الأسلحة، ووعد بتقديم المال أيضاً، لكن عن أيِّ مال يتحدث! بالتأكيد هو مال الحرب، وليس مال السلام.
مواقفه وتقديماته ووعوده دفعت الوفد الأوكراني المفاوض في المحادثات مع روسيا إلى إنتاج مواقف فورية وواضحة جاءت على لسان عضو الوفد الأوكراني ميخائيل بودولاك، بقوله: “لن تكون هناك مفاوضات في المستقبل القريب”. يبدو أنه ورفاقه اعتقدوا أنهم على وشك الانتصار في دونباس، وأنهم قادرون على فرض شروطهم على موسكو، لكن تصريح زيلنيسكي يسير في الاتجاه المعاكس.
لقد ورط بوريل أصدقاءه في السلطة الأوكرانية، وورط نفسه برؤية وتحليل بوريس جونسون، الذي راقب عن كثب انسحاب القوات الروسية من كييف، ولم يدرك أنها أتت كبادرة حسن نية روسية، وفسرها على أنها نتيجة ضغوط الفريق المعادي لروسيا وإمداداته بالأسلحة والعقوبات الغربية، بما فيها البريطانية.
ويبدو أنّ بوريس جونسون تأثّر بمواقف الرئيس بايدن ووزير خارجيته وتصريحاتهما ورهانهما على إطالة أمد الحرب، الأمر الذي دفعه إلى إنتاج المزيد من الأفكار الجهنمية وتزويد أوكرانيا بالأسلحة الثقيلة ورفع مستوى الرهان على الانتصار في ساحة المعركة.
لم تسجّل مواقف الرئيس بوتين وكل المسؤولين والمعنيين الروس وتصريحاتهم ما يؤيد الأفكار والاستنتاجات الغبية للسيد بوريل وصديقه جونسون، لا بل على العكس، فالروس يبدون ارتياحهم ورضاهم عن سير العملية العسكرية الخاصة، ويؤكّدون أنها ماضية نحو تحقيق كامل أهدافها.
كم تبدو واشنطن محظوظةً بإيجادها الكثير من الأغبياء في القارة الأوروبية، من قادة دول وأحلاف، ووزراء خارجية، وقادة عسكريين وإعلاميين، على قياس زيلينسكي ووزنه؛ هؤلاء الذين اندفعوا نحو خوض الحرب بمواجهة روسيا نيابةً عن الولايات المتحدة، ونحو تحويل الدول الأوروبية إلى دول داعمة بالمال والسلاح، وغير آمنة، وحاضرة لاستقبال اللاجئين الأوكران وكل المتطرفين والإرهابيين الذين يغادرون ساحات المعارك نحو العواصم الأوروبية، ليعيشوا في مدنهم ووسط شعوبهم، حالهم كحال من اشترى عقرباً ووضعه في جيبه!
كيف لهذه العقول الأوكرانية والأوروبية التي تملأ رؤوس القادة والساسة أن تعتقد بإمكانية هزيمة روسيا والرئيس بوتين! كيف يعتقد هؤلاء أنهم مع زيادة المساعدات العسكرية كمّاً ونوعاً، سيتمكنون من قلب الطاولة وتحويل مسار الحرب ونتائجها!
كم يبدو بوريس جونسون غبياً وهو يراهن على تقديم 120 مركبة مدرعة للأوكران لتحقيق الانتصار! يبدو أنَّ من المهم إطلاعه على نبأ إسقاط طائرة نقل أوكرانية محملة بأطنان الأسلحة الغربية في أجواء مدينة أوديسا. من المؤكّد أنّهم لا يطّلعون على البيانات العسكرية الروسية، وهي تقدم لوائح طويلة للخسائر العسكرية الأوكرانية، وهي بطبيعة الحال خسائر لأميركا وأوروبا وتركيا وكلّ من ساهم ويساهم بتقديم السلاح للأوكران.
لقد أصبح حال الدول الأوروبية مأساوياً، مع شح النفط والغاز والمؤن والمواد الغذائية وارتفاع الأسعار واقتراب العديد من المصانع الحربية والصناعية من التوقف. هل ما زال رئيس الدبلوماسية في الاتحاد الأوروبي يرى أنَّ “النصر في ساحة المعركة”؟
كما يبدو، ومن خلال تصاعد بعض الآراء داخل تركيا وفرنسا وألمانيا وغيرها، إنَّ جوقة الدول الأوروبية المحاربة في صدد إعادة قراءة الواقع، قبل أن تتحوَّل الحرب المحدودة إلى حرب واسعة وكبرى وعالمية، بالتوازي مع ورود ذكر الأسلحة النووية في بعض التصريحات الروسية. في الواقع، تبدو أصوات المعارضين الداخليين معبرة عن الأصوات الحاكمة أيضاً.
أعتقد أنَّ إدارة بايدن وقادة الناتو والاتحاد الأوروبي والرؤساء الأوروبيين سيراهنون في نهاية المطاف على حكمة الرئيس بوتين، الذي لن يخرج ليعلن هزيمة الرايخ الأميركي – الأوروبي، وسيجد طريقةً ما لحفظ ماء وجوههم، وسيحتفظ بحق روسيا في الانتصار العسكري أو التسوية وفق شروطه الأولى ما قبل العملية العسكرية الروسية الخاصة.