الأساطيل الغربية لا تنثر بذور الحرية

هشام البوعبيدي |

يبدو أننا أصبحنا نعيش حالة انفصام حاد في تناولنا لمجريات الأحداث الوطنية والقومية والعالمية،  وكأن الأمر التبس علينا وأضعنا بوصلة تحديد وتمييز العدو من الصديق، وقد طالت حالة الانفصام هذه حتى تاريخنا بعد الدعوات المتكرّرة لتغييره وإعادة كتابته، كون أنظمة الاستبداد التي كانت وصيّة على الأمة حرّفت التاريخ بما يتماشى وأهواءها، وقد حان الوقت لتنقيته وتعديله.

لن أتحدّث في هذا الأمر الذي سأعود إليه مرّة أخرى بإذن الله، ولكن ما شدّ انتباهي وأثار استغرابي هو الغياب البارز واللاّ مبرّر للعرب وخاصّة السلطة الفلسطينية في مراسم تشييع الفقيد هيغو تشافيز، وإذا كانت مقاطعة بعض الرجعيّات العربية مفهومة، فمقاطعة “الثوريين الجدد” لها غير مبرّرة، فهذا الرجل الذي تجرّأ وقال ما لم يقله غيره وفعل الكثير نصرة للعرب وللقضية الفلسطينية خصوصا حيث سبق العديد من الدول “الصديقة والشقيقة” وافتتح سفارة باسمها في كاراكاس، ونتذكّر جيّدا طرده للسفير الصهيوني وتنديده بالإمبريالية الأمريكية الداعمة للكيان الإسرائيلي والشريكة في جرائمه، وقولته الشهيرة “فلسطين هي فنزويلا وفنزويلا هي فلسطين ونحن نناضل معا في قضية واحدة”.

إن هاته المقاطعة بيّنت بما لا يدع مجالا للشك أن الموقف الرسمي العربي ليس سيّد نفسه وهو مرتهن القرار للغرب، لذلك نرى الحالة المتردّية للواقع العربي من المحيط الى الخليج والتي يغلب عليها طابع التسلّط والخضوع والتشتّت، وحتى “ثورات الربيع العربي” لم تنجز شيئا وكأنها أعادت إنشاء دكتاتوريات جديدة بمسمّيات مغايرة ووجوه مختلفة، ولم تنجح إلا في مزيد تقسيم البلد المقسّمة وتفتيت المجتمع المفتّت،  ولعلّ ذلك يعود في جانب كبير منه إلى نوعية الطرح السياسي والاقتصادي والاجتماعي “البديل” الذي بشّرت به حكومات “الربيع” والذي لم يكن الا تكرارا واجترارا لبرامج الدكتاتوريات السابقة المهادنة للإمبريالية والمعادية للشعوب.

الخطأ الكبير الذي وقعت فيه تلك الحكومات هو تشخيصها السطحي والبسيط للمشاكل التي تعاني منها المنطقة، كالفقر والتخلّف والأمية …والتي كانت تتناولها بالأساس معياريا وأخلاقيا، كتنامي ظاهرة السرقة وتفشي الفساد والرشوة والمحسوبية، فكانت تعتقد بإمكانية تحقيق تنمية اقتصادية واجتماعية وسط جو من التناغم السياسي مع جميع الفرقاء إذا قمنا بتغيير الجهاز الحاكم مع المحافظة على نفس السياسة، وهي بالتالي تتجاهل الأسباب الجذرية التي أدّت لنشوء الدكتاتورية السياسية وعوائق التنمية الاقتصادية والمشاكل الاجتماعية.

فالمشكلة العميقة ليست في استبدال مسؤول فاسد ومرتشي وسارق، بآخر لا يلتجئ لتلك الأساليب و”يخاف ربي”، بل أكثر من ذلك، وهو يلخّص جوهر المشكلة، إنه خيار بين نموذجين وبرنامجين وثقافتين: إما أن تنتصر لشعبك وأمتك والانسانية عموما، عبر الانحياز للطبقات الضعيفة والمهمّشة ومقاومة الاستعمار والاستبداد والإمبريالية المتوحّشة، والتي جميعها أوجه لعُملة واحدة، وإمّا أن تسقط في “فخ العولمة” وتندمج في مشروع الهيمنة العالمية المبنيّة على أساس توحيد المعمورة وفق متطلّبات اقتصاد السوق، وتحويل الانسان الى مجرّد حيوان مستهلك وآلة راغبة واختزاله في “كوجيتو” البضاعة.

يخطئ  من يعتقد أن بإمكان أي دولة أن تحقّق استقلالها – بالمعنى الشمولي للكلمة- وتنميتها ورُقيّها دون أن تتصادم مع الولايات المتّحدة باعتبارها الوريث الأسوأ لأنظمة الاستعمار ورائدة الإستكبار العالمي والمعادية الأولى لإرادة الشعوب المستضعفة في التحرّر والإنعتاق، فالدولة التي بنت حضارتها وقوّتها واقتصادها وما تزال على أنقاض شعوب أخرى، لا يمكنها أن تسهم في تنمية وتحرّر واستقلال الأمم الدول، لذلك نرى أن أكثر الزعماء الذين اعتبروا رموزا وظلّوا في ذاكرة ووجدان الشعوب والجماهير، هم أولئك الذين ناهضوا  وقاوموا الاستعمار وتصدوا للإمبريالية الامريكية، مثل غاندي وعبد الناصر وتشي غيفارا والخميني وبورقيبة وعرفات وكاسترو وتشافيز….

كما تميّز هؤلاء الرموز القادة بقدرتهم على توحيد شعوبهم نتيجة اختيارهم للخط السياسي السليم، فاصطفت الجماهير وراءهم في حروب التحرير ومناهضة الاستعمار، وتكفي الاشارة الى أن المهاتما غاندي “الهندوسي” وجد الحظوة والقبول من جميع فئات الشعب الهندي المتعدّد الطوائف والعقائد والأديان، وينظر اليه كزعيم وطني من الجميع ويحظى بالاحترام والتبجيل، لأن الصدق في الثوابت والإلتزام بمبادئ الثورة هي ما يميّز الصادقين عن المدّعين.

الفرق واضح بين ثقافة مقاومة وممانعة ومحاربة للاستعمار وأشكال الهيمنة والاستكبار والاعتماد على الموارد الذاتية في تحقيق التنمية، وأخرى تتوهّم أنها تستطيع تحقيق ذلك “بالتعاون” مع “شركائها الغربيين” وبالإتّكال على  “هِبات” صندوق النقد الدولي وقروضه، والاستجداء من نخّاسي النفط النجس، أو التحرّر والتخلّص من رموز الاستبداد الداخلي بـ”مساعدة” القوى الغربية “الصديقة والداعمة للحرية والساهرة على حقوق الانسان”، فأتحفونا بإنجازاتهم “العظيمة” في أفغانستان والعراق وليبيا التي تعطّل فيها كلّ شيء الا تدفّق النفط للغرب.

كل تدخل غربي في المنطقة يُحوّل الدولة الى مشروع فشل، وتُفقد الشعب وحدته الوطنية، فالأساطيل الغربية لا تنثر بذور الحرية، بقدر ما تكرّس مزيدا من الطغيان والفقر والتهميش، فالمشكلة الأم مع الاستبداد الدولي، والنظام العالمي الحالي هو الذي يُشرعن ويُبرّر الاستعباد عبر حروب دعاية وإغراء وإغواء وإفتاء (فقهاء الناتو يعتبرون أن من قتل الى جانب قوات الناتو في العراق وليبيا وسوريا “شهداء”)، ويلبسون الحق بالباطل فتصبح سوريا أرض جهاد ويتناسون فلسطين التي أصبحوا عاجزين حتى عن إدانة العدوان الاسرائيلي اليومي عليها، أو اتهام ايران بالتدخّل في شؤون العرب في حين تنتشر عشرات القواعد العسكرية الغربية في أرض الجزيرة العربية.

عاشت منطقتنا العربية مخاضا عسيرا، انجرّ عنه ما سُمي “بالربيع العربي” وقد سارعت قوى الاستكبار العالمي الى تدجينه واحتوائه، ممّا أسهم في تعثّره وانطلاقته العرجاء وغير السويّة، فأخذ ينحرف وينسلخ عن قضايا الأمة والمجتمع، وخذلتنا الطبقة السياسية التي استوردت لنا مشاغل أخرى لا تعنينا، ولكن الشعب الذي تذوّق طعم الحرّية والكرامة وبذل من أجلها الغالي والنفيس لن يستطيع ببساطة التخلي عنها.

 

شارك على :
المحور العربي © كل الحقوق محفوظة 2023