الأسيرة والأم الفلسطينة قامة شامخة ورأس مرفوع…بقلم الإعلامية وفاء بهاني

عامٌ جديدٌ من أعوام الظلم والحرمان يمر على الأمهات الأسيرات في سجون الاحتلال الاسرائيلي، هذا الاحتلال الذي لا يعرف الانسانية ولا يطبق القوانين الدولية، ولا يملك أدنى حدٍ من القيم والأخلاق، إذ لا تتمالك الأمهات الأسيرات الفلسطينيات أنفسهن في سجون الاحتلال في كل اللحظات والأوقات التي يتذكرن أجمل ما فيها مع عائلاتهن قبل اعتقالهن، سواء كن أمهات أو بنات أو أبناء لأمهات ينتظرن الإفراج عنهن من غياهب سجون الاحتلال لحظة بلحظة.

الأم الأسيرة التي هي الجرح الغائر في جسد الأمة كلها، فهي تقبع هناك وحيدة في عالم موحش يحكمه الجلادون، وتعانى فيه أقسى أنواع الحياة، وهي محرومة من أبسط الحقوق التي نصت عليها الشرائع السماوية والقوانين الأرضية، والعدو العديم الإنسانية الفقير إلى القيم والأخلاق يعاملها بأسوأ ما محتلٌ غريمه.

فهي تعيش مرارة السجن ومرارة الحرمان من الأبناء والأهل، وتعاني جسدياً ونفسياً، فحياة الأسيرات داخل السجون والمعتقلات الإسرائيلية مليئة بالمضايقات والاستفزازات، والحرمان حتى من الزيارة والعلاج والتعليم وكثيرٍ من الحقوق الإنسانية الأولية التي هي حق طبيعي لكل معتقلٍ.

إن سبعاً وأربعين أسيرة فلسطينية لا زلن يقبعن في سجون الاحتلال، بينهن سبعة عشر أماً يُحرمن من عناق أطفالهن، ويتعرّضن لمختلف أشكال الضغط والتعذيب والإجراءات التعسفية المشدّدة، سواء من حيث الإهمال الطبي أو سياسة اقتحام غرفهن وفرض العقوبات عليهن، مما جعلهن يعشن ظروفاً حياتية واعتقالية صعبة وقاسية للغاية، علماً أن أعدادهن في السجون الإسرائيلية تزداد ولا تنقص، وتشمل كل المناطق الفلسطينية ومختلف الفئات العمرية، ففي السجون والمعتقلات الإسرائيلية توجد الطفلة القاصرة، والمرأة العجوز والشابة الناضجة والصبية الفتية، وفيهن المريضات والجريحات.

تحرم سلطات الاحتلال “الإسرائيلي” بعض المعتقلات من زيارة عائلاتهنّ، فيما تضيّق على الأخريات، كما وتحرم الأسيرات الأمّهات من الزيارات المفتوحة ومن تمكينهنّ من احتضان أبنائهن، إضافة إلى منع التواصل الهاتفي معهم، حيث يوجد في السجون الإسرائيلية أمهاتٌ معتقلاتٌ وأبنائهن، إلا أنهن يحرمن من حق رؤيتهم أو الاتصال بهم، رغم أنهم قد يكونوا جميعاً في سجنٍ واحدٍ.

يلجأ المحققون إلى الضغط على الأسيرات الأمهات من خلال أبنائهن، حيث يتم تهديدهن باعتقال الأبناء أو إيذائهم، أو ترهيب الأم من أن بقائها في الأسر سوف يبقي أبنائها وحيدين بالخارج، كما ويتم مقايضة الأسيرات الأمهات بأبنائهن مقابل التعاون مع الاحتلال، وهذه الأساليب هي نوع من أنواع التعذيب النفسي التي يمارسها المحقق بحق الأسيرات الأمهات، وهي أساليب ووسائل محرّمة وفقاً للمواثيق الدولية.

سلطات الاحتلال الإسرائيلي لا تتورع عن أي جريمةٍ ضد المرأة الفلسطينية الأسيرة، فهناك من اغتصبت ابنتها أمام عينيها عندما رفضت الإدلاء بأي حديث لضباط المخابرات خلال التحقيق، وأخرى حرمت من أبنائها لمدة عام لتكتشف أنهم وضعوا في ملاجئ للأيتام، وأخرى ترغم على وضع مولودها وهي مقيدة اليدين والرجلين، وهناك أسيرة هُددت بتهديم بيت عائلتها، لكن والدتها طلبت منها أن لا تعترف في الوقت الذي كانت جرافة التهديم تقف أمام باب البيت.

رغم المعاناة الشديدة تظل الأسيرة والأم الفلسطينية عموماً صامدة متمسكة بموقفها، لتعطي مثالاً في الصبر والصمود والأمل الموجود داخل قلب كل أسير فلسطيني، بفعل البعد الإيماني والديني العميق والراسخ بقضيته العادلة.

الأم الفلسطينية تحرص على إطلاق الزغاريد عندما تزور ابنها في السجن حتى ترفع معنوياته وتعطيه القوة والصبر، وتنجح في أن تحرم السجان الإسرائيلي من رؤية دموعها ودموع ولدها الأسير، وهذه هي المقاومة وقمة النضال.

عندما نتحدث عن الام الفلسطينية، فلا بد أن نذكر بفخرٍ واعتزازٍ دورها في الجهاد والنضال المستمر منذ بداية الصراع . فهي أم الشهيد وأم الاسير وأم المطارد وأم المبعد، وهي أم الشهيدة والأسيرة وأم الوطن والأرض والقضية، هي فلسطين كل فلسطين.

تستقبل الأم الفلسطينية هذا اليوم بمرارة وحزن فهو يأخذ في حياتها شكلاً آخر، يترجم لحظات الألم التي تعيشها جراء فقدان الزوج أو الابن أو الأخ، فبدل التوجه إلى الاحتفال، فان أمهات فلسطين في هذا اليوم يتوجهن إلى المقابر، ومنهن من ينتظرن جثامين أبناءهن ليخرجوا من مقابر الأرقام لدى سجون الاحتلال، وإلى السجون أو إلى هواتف صماء خالية من المشاعر والأحاسيس ليتلمسن أحوال أبناءهن المبعدين، وكل منهن تقاوم حزنها، كون أن ابنها شهيداً أو جريحاً او مبعداً أو أسيراً يتحدى السجان بقوة إرادته.

إلا أن مناسبة عيد الأم التي تُحرم منها عشرات الأسيرات في سجون الاحتلال تحمل لحظات حزن مضاعفة، تزيد في ألمها وتضاعف حزنها، إلا أن كل أسيرةٍ منهن تنتقي بنفسها طريقتها الخاصة في التعبير عن حزنها وألمها ومعاناتها وآمالها وأمنياتها.

نعم … تواجه الأم الفلسطينية تحدّيات كثيرة تستنزف حياتها وتقضي على عمرها، ومن أبرز التحديات التي تواجهها، الاحتلال الإسرائيلي الغاشم وتبعاته، إلا أن الاحتلال البغيض بقساوته وظلمه قد صقلها وجعل منها ماسة فريدة، تخوض ميادين الكفاح، وتسدّ ثغرات الوطن، لاسترداد حقوق شعبها المنكوب، وتحقيق حلم العودة والتحرير.

يعجّ السجل الفلسطيني بأسماء أمهات فلسطينيات تركن بصماتٍ واضحةٍ في الوعي الشعبي الفلسطيني، بدءاً من الأمّهات المهجّرات اللواتي شهدن النكبة الفلسطينية وعشن آثارها، وشكّلن أعمدة الحياة والبقاء الفلسطيني في خيام اللاجئين، وصولاً إلى الأمهات المقاتلات المناضلات والأسيرات والشهيدات، والجريحات والمبعدات وكثير غيرهن.

لقد سجّل التاريخ أسماء نجوم فلسطينية كان لهن أثراً عظيماً في قهر القهر، فكن منابع عطاء، ورفعن اسم فلسطين عالياً، فكان للأم الفلسطينية الأثر العظيم في كل المفاصل التاريخية للحركة الوطنية الفلسطينية، فكان حضورها في كافة ثورات الشعب الفلسطيني وانتفاضاته باهراً، فقد اندفعت إلى مقدّمة صفوف المقاومين وقاومت أعداء الحياة بروحها، وتقطّعت سياط الجلاّد على جسدها، وكانت سياجاً اجتماعياً واقتصادياً غذّى استمرار الصمود والمقاومة الشعبية.

الأم الفلسطينية صابرة مجاهدةٌ، تحمل في قلبها وعلى كاهلها جبالاً من المعاناة والقهر، ولكنها لا تيأس ولا تستسلم، ولا تتذمر ولا ترفع الراية البيضاء، بل تمضي قدماً في أداء رسالتها الانسانية والاخلاقية، فأم الشهيد وأم الأسير التي لا تلبس السواد، ولا تنزوي في ثياب الحداد، بل تذرف دمعتين ووردة، وتحمل الراية وترفع البندقية، وتعلي الزغرودة، وتحدو الركب وتتقدم المسيرة، تلك هي أجمل الأمهات، فألف تحية لك أمي الفلسطينية، وكل عامٍ وأنت بخيرٍ، عزيزةً كريمةً، حرةً أبيةً مرفوعة الرأس موفورة الكرامة، وغداً بإذن الله سنلتقي معاً، نحيي يومك ونحتفل بعيدك في سوح فلسطين ورباها، وفي قراها وبلداتها، وفي قدسها وأقصاها.

Bahaniwafaa@gmail.com

 

شارك على :
المحور العربي © كل الحقوق محفوظة 2023